شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الانتحار بين الثرثرة والصمت... ماذا لو طغت حموضة النبيذ؟!

الانتحار بين الثرثرة والصمت... ماذا لو طغت حموضة النبيذ؟!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 22 يونيو 202110:17 ص

إذا كان الكاتب يعكس فيما يكتب ما يشعر به ويُقلقه، فإنّ القارئ يبحث أيضاً عمّا يجيب عن أسئلة مقلقة فيما يقرأ، وينجذب إلى موضوعات لصيقة بنفسه الحائرة. يتبدّى لنا أنّ الكاتب والقارئ لديهما، على حد سواء، المعاناة ذاتها في تجربة البحث عن إجابات ممكنة.

ربما تعزّز هذا التوجه لديّ أكثر فأكثر بعد قراءتي ملاحظة أوردها الأميركي وليام ستايرون (1925-2006) ضمن مذكراته المؤلمة عن الجنون في منجزه "ظلام مرئي". وقد عرضت أبرز مفاصله في مقالة سابقة، غير أنّي لم أشفَ منه بعد؛ إذ أرجأت موضوعة الانتحار لتناولها في مقال مستقل.

يتأمّل ستايرون ماضيه في ضوء محنته بعدما استردّ عافيته، ويورد الإشارة الآتية: "لقد كان الانتحار موضوعاً دائماً يتخلّل كتبي؛ فهناك ثلاث من شخصيّاتي الرئيسيّة قتلوا أنفسهم". ويصف دهشته من الدقّة التي صوّر بها مشاهد الاكتئاب في عقول بطلات رواياته في طريقهن نحو الهلاك. لذا، لم يكن الاكتئاب غريباً أو زائراً حلّ به من دون سابق إنذار، كما يعبّر.

اعتلال الذات الكئيبة

لم يكن ستايرون الوحيد الذي طفت في منجزاته الأدبيّة ترسبات "اعتلال المزاج"؛ فمن خلال ملاحظة جديرة بالانتباه، يحيلنا إلى الربط بين أفلام المخرج السويدي إنجمار بيرجمان (1918-2007) وتقلّبات نفسه. فهو "قد عانى الأمرّين من الاكتئاب"، على نحو ما ينبّه صاحب الكتاب. لكنّ سلوك الذات في مواجهة مشاعر الذنب والغضب نتيجة ما يعرف بنظرية "الحداد الناقص"، للتغلب على النزوع نحو الموت انتحاراً، يتداخل مع السعي نحو الخلود.

يعطي الكاتب مثالاً عن الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن (1809-1865) الذي شهد تقلبات مزاج سوداوي يردّها صاحب الاستشهاد كذلك الأمر إلى مشاعر الفقد المبكر. إنما ما يعنينا هو سعي هذا الأخير لمقاومة الرغبة في الموت عبر أعمال تخلّدها الذاكرة الجماعيّة، وهو أمر لا يقلّ أهميّة عن الأعمال الفنيّة، والأدبيّة ضمناً. كأنما يؤكّد ستايرون أنّ الآداب والأعمال العمرانية أو الاجتماعية- السياسيّة ما هي إلا ردّ لاواعٍ على الموت، وتحدٍّ لفكرة إنهاء الحياة.

للمقالة المطوّلة "أسطورة سيزيف" تأثير بالغ، ليس في فكر صاحب المذكرات فحسب، بل في الوجدان العالمي؛ حيث طرح كاتبها ألبير كامو، مسألة الانتحار. والفيلسوف الفرنسي الذي توفّي عام 1960 عن عمر يناهز السادسة والأربعين، لم يكن بعيداً عن "مغازلة الموت". فقد انطوى حادث السير رفقة ابن ناشره المهووس بالسرعة، وكامو يدرك ذلك، على شيء من الرعونة، أضفت على الحادث إيحاءات تجعله أشبه بعملية انتحار.

"أكثر من مفكّر وكاتب اعتقد أنّ السّعادة تكمن في اكتشاف معنى للحياة... الطريق إلى السّعادة لا يصل بنا إلاّ إلى التّعاسة"

ربما تعود هذه التكهّنات إلى موضوع الانتحار في "أسطورة سيزيف". ويستند الكاتب إلى ما أخبره به رومان جاري؛ حيث كان يلمّح كامو أحياناً إلى اكتئابه، ويتحدث عن الانتحار مازحاً، ولكنه ذلك المزاح الذي يحمل مذاق "النبيذ الحامض" على حد تعبير جاري.

في رواية "رالف رزق الله في المرآة"، بدا تأثّر ربيع جابر بأفكار كامو جليّاً. يغدو الأكاديمي الذي عُثر على جثته في محيط "صخرة الروشة" في بيروت، شخصيّة روائيّة. وقد أثارت الرواية انتقادات لدى بعض الجهات لإدراج شخصيّة ذات مرجعيّة واقعيّة في التخييل الروائي.

مهما يكن من أمر، فإنّ رالف رزق الله يكتب في مقالته "مدخل إلى التعاسة" (الملحق، "النهار"، 19 أيلول 1995) قبيل "قفزته" الأخيرة (على ذمة الراوي) ما يأتي: "أكثر من مفكّر وكاتب اعتقد أنّ السّعادة تكمن في اكتشاف معنى للحياة... الطريق إلى السّعادة لا يصل بنا إلاّ إلى التّعاسة". ويتابع وصفه للّاجدوى في حياة الإنسان، بحيث يدرك فجأةً أنّه جدّ دون أن يجد شيئاً، بل وجد الضدّ.

والمفارقة أنّ الراوي بضمير المتكلم، وهو يبحث عن أسباب انتحار شخصيته الروائية، يبرز متماهياً معها في عزلتها الوجوديّة. في بحثه عن الآخر ألفى نفسه يبحث عن ذاته، وفي أسباب اغترابه هو: "تعيش ولا تنتبه، كأنّ الذين حولك هم من عالم آخر... كنت أبتعد عن تيّار العابرين وأغمض عينيّ، وأحلم بأنّني في مكان آخر بعيد جداً". عن انتحار مثقّف يُطرح غير سؤال. أهو موقف وجودي، أم استلاب؟ اختيار واعٍ للصمت، أم شعور بالتعاسة؟ كتب رالف مقالات ترصد هشاشة الإنسان وبحثه اللامجدي عن معنى الحياة، إلى أن انهارت ثقته بجدوى البحث؛ فانتقل إلى الثورة باتّجاه ذاته.

عن هشاشتنا وبحثنا الامجدي عن معنى الحياة

امتلأ بالخوف والوحدة، بات يرى العالم كغابة مليئة بالناس الأشرار.

رغم القتامة التي نحسّها في "أسطورة سيزيف"، فإن الانتصار للحياة يقع في صميم رسالتها

رغم القتامة التي نحسّها في "أسطورة سيزيف"، فإن الانتصار للحياة يقع في صميم رسالتها المعلنة أنّه مع غياب الأمل يجب أن نصارع حتى ننجو، ولو بشقّ الأنفس.

وبالعودة إلى ستايرون، نراه يقول إنّه حينما يعاوده الألم، سيحكم مضطرّاً بأن الحياة لم تكن تستحق أن تعاش، ليجيب لنفسه عن السؤال الأساسي للفلسفة، والمطروح في هذه المقالة. لكن في المقابل، أيقظت مقالة كامو "تأملات حول المقصلة" داخله، وعد الحياة الملغّز، بينما يشعر رزق الله بهباء حريّة يملكها عاجزة عن التغيير. وقد يكون في انسحابه هذا محاولة نهائيّة للقبض على معنى وجوده، إذ يدعو إلى الصمت، قائلاً في السرد: "لا تكتب. الكتابة لا تُنبئ".

"في الحياة تجارب لا تصاغ في كلمات يمكن أن تعبّر عنها، أو هي من الهول ما يجاوز إمكانات اللغة فتستدعي الصمت"

تكتب الناقدة المصريّة سيزا قاسم عن الصمت في كتابها "روايات عربيّة- قراءة مقارنة"، فتقول: "في الحياة تجارب لا تصاغ في كلمات يمكن أن تعبّر عنها، أو هي من الهول ما يجاوز إمكانات اللغة فتستدعي الصمت". قد يفرغ الكلام من قدرته على التواصل ليصبح أداة انفصال.

وتصف خيار الانتحار بأنه هروب من الكلام والصمت معاً. لكنّه، في أيّ حال، صمت أبديّ يحيلنا إلى الشاعر الإيطالي "سيزار بافيز" (1908-1950) الذي كتب مودّعاً: "ليس لديّ ما أقوله. فعل، ولن أكتب بعده أبداً". ومن عنوان قصيدة له، استلهمت الشاعرة اللبنانيّة جمانة حداد عنوان كتابها في أنطولوجيا الشعراء المنتحرين "سيجيئ الموت وستكون له عيناك".

"قلق السؤال"

قبيل وضع قلمي جانباً، أتذكر مقالة كُتبت في مجلة "الجديد" اللندنيّة (العدد 75، أبريل2021)، وهي مختارات مترجمة من محاضرة ألقاها الفيلسوف اليوناني ديميتريس ليانتينيس، بعنوان "تأمّلات فلسفيّة في الموت"، ذلك قبل أشهر من انتحاره في العام 1997. يرى فيها أنّ التراجيديا الأتيكيّة ولدت من خلال علاقة الإغريق الجدليّة بالموت. وهي نتاج مواجهتهم الروحيّة لظاهرة الموت.

لعلّ الموت بسرّه قد شكّل الحدث الأبرز، بل الدّهشة الأولى لدى الإنسان الأوّل، وبات العامل الأهمّ لقلقه، مستثيراً فيه الأسئلة الوجوديّة، وما زالت أسئلة الموت والحياة والمصير تقضّ مضجعه

ويستحضر شعراء التراجيديا الأتيكيّة الثلاثة العظام، أسخيليوس، يوريبيديس وسوفوكليس. ما يعنينا هو ما قد يعزّز جدارة الملاحظة التي جاءت في المقدمة، بأنّ موضوعة الموت في الكتابة أو زلّات اللسان، تشكّل هاجساً يُنبئ بما يستقرّ في أعماق نفس مضطربة، أو قلقة في وجودها وفي معنى هذا الوجود.

للشاعر الإغريقي سوفوكليس مسرحيّات اعتنى بها الفلاسفة والمحللون النفسيون، لا سيما مسرحيتا "أوديب ملكا" و"ألكترا". إنما لديه مسرحية "فيلوكتيتس" وهي تستحق الإضاءة عليها، حيث تتناول موضوعة الاكتئاب وآلامه وتحدياته.

وحول السؤال الفلسفي الآخر، وهو المقدرة على الخروج إلى الضوء. وجد ربيع جابر أنّ السفر علاج للاكتئاب، وقاوم وليام ستايرون مع زوجته روز، لتبقى السوداويّة تجربة أليمة مرّ بها وتركت لديه ذكريات مرّة، لكنّها أنتجت مذكّرات رائعة في معنى التجربة وفي أصالة شعورنا بأنّ وجودنا ضروريّ بالإضافة إلى هذا العالم، فلا نستسهل الانسحاب من الحياة للتحرّر من مآزق الذّات.

لعلّ الموت بسرّه قد شكّل الحدث الأبرز، بل الدّهشة الأولى لدى الإنسان الأوّل، وبات العامل الأهمّ لقلقه، مستثيراً فيه الأسئلة الوجوديّة، وما زالت أسئلة الموت والحياة والمصير تقضّ مضجعه، حتّى أنّ القلق قد انتقل إلى السؤال نفسه لتمسي المعادلة: "قلق السؤال" لا "السؤال عن القلق".

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image