شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"انتش واجري"... مشهد كرينجي أم ضرر دماغي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الجمعة 14 أكتوبر 202205:35 م

لم يكن انتشار التواصل عبر الإنترنت السبب الوحيد في استيراد الكلمة الإنكليزية Cringe، بين المستخدمين العرب، بعد تحويلها إلى النطق بالأحرف العربية (كرنجي، أو كرينجي). وإنما أيضاً، وبسبب المعروض غير المراقب تقريباً، عبر شبكة الإنترنت، والمقصود بالمراقَب هنا هو عدم المرور بأي آليات تنقية أو تقييم، بل من المستخدم إلى المتلقي مباشرةً.

وبقدر ما يسمح ذلك بظهور مواهب كانت مغمورةً، بقدر ما يسمح أيضاً بالمزيد من الظواهر والمواد "الكرينجية"، أي التي، حسب التعريف، تسبب تلك الحالة من الحرج لدى المتلقّي (لا لدى صاحبها). إنها تلك المادة/ الفيديو، التي يبلغ مقدار السوء فيها درجة أن المشاهد نفسه يشعر بالخجل من فرط رداءة ما يشاهد.

بقدر ما يسمح ذلك بظهور مواهب كانت مغمورةً، بقدر ما يسمح أيضاً بالمزيد من الظواهر والمواد "الكرينجية"، أي التي، حسب التعريف، تسبب تلك الحالة من الحرج لدى المتلقّي (لا لدى صاحبها)

هكذا، كان متوقعاً مثل آلاف -وربما ملايين- المواد المماثلة، أن يكون فيديو "انتش واجري"، الذي صوّره شاب مصري بسيط، محاولاً محاكاة أغنية مايكل جاكسون فائقة الشهرة "Smooth Criminal"، مجرد فيديو "كرينجي" آخر، إذ يظهر فيه الشاب محاولاً استخدام فمه وأنفه وصدره لإصدار أصوات بديلة عن الموسيقى، ومحوّراً الكلمات إلى قسمين أساسيين: قسم لا معنى له، وقسم له معانٍ أشد إحراجاً مثل عبارة "انتش واجري" (النتش هو اختطاف شيء بحركة سريعة)، فبدت "أغنية" الشاب كأنها تمنح بطولتها للصّ. إنه الموقف المعاكس تماماً لما تتبناه الأغنية الأصلية، التي تتحدث عن جريمة العنف الدموي ضد "آني". لكن هل يعرف هيثم أحمد، مبدع "انتش واجري"، موضوع الأغنية الأصلية؟ أم أنه، من موقعه فوق سطح أحد مباني الأحياء الفقيرة، اكتفى بتقليد "أصوات" أغنية جاكسون، على نحو فائق الغرابة والإحراج، حتى أن إحساس الـ"كرينج"، قد لا يطارد المشاهد فقط، بل قد يلاحق حتى من يحاول أن يكتب سطوراً -مثل هذه- عن الموضوع برمته.


لكن (لسوء الحظ؟)، لم تلقَ "انتش واجري"، المصير المتوقع لمثيلاتها من الاجتهادات العبثية، الكرينجية، على شبكة الإنترنت، فلسبب ما، أو وفقاً لقواعد الانتشار السيبراني غير المكتشفة بعد، حققت "انتش واجري" انتشاراً غير عادي، ساهمت فيه مشاركة العديد من الفنانين في أداء "الأغنية" على موقع تيك توك لمقاطع الفيديو، في سلوك فيه سخرية مبطنة، لكنها حققت للشاب شهرةً فوريةً، دفعت إحدى شبكات الاتصالات الكبرى للتعاقد معه، قبل أن تتراجع عن ذلك إثر هجوم شديد من مستخدميها، الذين هدد بعضهم بإلغاء تعاقده مع الشركة، بعد أن شعروا بعدم القدرة على احتمال كل هذا "الإسفاف".

لكن (لسوء الحظ؟)، لم تلقَ "انتش واجري"، المصير المتوقع لمثيلاتها من الاجتهادات العبثية، الكرينجية، على شبكة الإنترنت، فلسبب ما، أو وفقاً لقواعد الانتشار السيبراني غير المكتشفة بعد، حققت "انتش واجري" انتشاراً غير عادي

الجدل حول الإسفاف ليس جديداً. إنه عريق ومتكرر، منذ الأغاني الخلاعية ليونس القاضي -وهو ذاته مؤلف نشيد بلادي بلادي- وصولاً إلى "مؤخرة روبي" و"أغاني المهرجانات". وبالإضافة إلى النقاش الفني الدائر حول مثل تلك الحالات، ثمة نقاش اقتصادي مصاحب لها دائماً، فحواه أن المال يذهب دائماً إلى "من لا يستحقون"، على غرار "الراقصات والمطربين ولاعبي الكرة"، بينما يعاني الأطباء و"العلماء" والشرفاء من شظف العيش. وعلى الرغم من أن الشعبوية تسيطر عادةً على مثل تلك الناحية الاقتصادية من النقاش، وأنها ككل خطاب شعبوي تتجاهل التفاصيل وتستخدم الكلمات الكبيرة، وتتناسى –مثلاً- أن نسبةً ضئيلةً للغاية من لاعبي الكرة أو الفنانين أو الراقصات هي التي تنعم بالثروة، تماماً كما هو الحال مع المهن "المحترمة" كالطب والمحاماة والهندسة والتدريس، فإن المشكلة الأخطر هي أنها تضع في سلة واحدة كل ما يُدّعى أنه "فن"، ولا فرق هنا -من هذه الزاوية- بين عبد الوهاب وحمو بيكا، ثم ترفضه برمته. إنها، فضلاً عن المغالطة الاقتصادية حول "ثروات الفنانين"، ترتكب -عمداً في كثير من الأحيان- مغالطةً فنيةً أكبر، وهي هنا، ليست غاضبةً من صاحب "انتش واجري"، لأنه قدّم "شيئاً" بالغ الرداءة، بل لأنه "حصل بسهولة على الشهرة ومن ثم المال"، بينما المكافحون والشرفاء... إلخ.

الجدل حول الإسفاف ليس جديداً. إنه عريق ومتكرر، منذ الأغاني الخلاعية ليونس القاضي -وهو ذاته مؤلف نشيد بلادي بلادي- وصولاً إلى "مؤخرة روبي" و"أغاني المهرجانات"

يتسبب ذلك الخطاب في رد فعل، يبدو على السطح معاكساً لتلك الشعبوية، لكنه في الواقع يؤكدها، إذ في المقابل انحاز آخرون إلى صاحب "انتش واجري" لمجرد أنه حقق الشهرة بالرغم من فقره و"بساطته". في رأي هؤلاء، الموقف السلبي من الشاب ينبع من احتقار طبقي يستكثر على هذا الشاب البسيط ما حققه من "نجاح"، ولهذا فإنهم، على العكس من الآخرين، وربما نكايةً بهم، يعلنون فرحتهم بالشاب ومباركتهم له، لكنها فرحة من نوع غريب، أقرب إلى تهنئة شخص فقير عثر على كنز من المال، منها إلى الفرح بنجاح "فنان" مغمور.

وإذا كنا في جميع الحالات عموماً، وفي حالات الكرينجي خصوصاً، لا يمكن أن نلوم شخصاً لمجرد أنه أراد أن "يغنّي"، فيبدو، بين الاستفزاز والاستفزاز المقابل، العقل المجتمعي وكأنه قد هبط درجةً إضافيةً

وإذا كنا في جميع الحالات عموماً، وفي حالات الكرينجي خصوصاً، لا يمكن أن نلوم شخصاً لمجرد أنه أراد أن "يغنّي"، فيبدو، بين الاستفزاز والاستفزاز المقابل، العقل المجتمعي وكأنه قد هبط درجةً إضافيةً، أو تلقّى، مع "انتش واجري، ضربةً جديدةً سببت مزيداً من ضرر الدماغ، فالنقاش القديم –والخطأ- حول الفن في مقابل العلم، أو اللهو مقابل الكفاح، لم يعد يتناول حتى أغنيات عدوية أو رقصات روبي أو كلمات ويجز، وإنما يبدو هذا النقاش، بعد أن احتلت "انتش واجري"، دور الفن في هذه المعركة، أقرب إلى هذيان لا يختلف كثيراً عن الأصوات غير المفهومة في الفيديو الغريب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image