كنتُ وزبوناً آخر نقف في إحدى صيدليات دمشق حين طلبت من الصيدلانية بصوت منخفض أن تعطيني "باندول بيريود" وهو مسكن لآلام الطمث، ليطلب هو الآخر "بانادول اكسترا"، تريثت قليلاً قبل أن أدفع كي لا ألفت نظره إلى ما أحمل في يدي، لكن الذي لفت نظري هو أن الزبون دفع 2500 ليرة سورية (نحو نصف دولار) بينما دفعت أنا 6500 ليرة سورية (نحو 1.75 دولار).
على الرغم من كل مطالبات المساواة في الأجور وفي الحقوق ما زالت المرأة تتقاضى أقل من الرجل مقابل نفس الوظيفة لكنها تدفع أكثر مقابل نفس المنتج، وهي مفارقة تكاد تكون سخيفة من عدم عدالتها.
ضريبة كونك أنثى
الفرق غير منطقي على الإطلاق بالرغم من أن المنتجين يشتركان بنفس التركيبة الدوائية (500 مغم سيتامول و65 مغم كافيين وفينيل إيفرين هيدروكلورايد) دفعني لسؤال أحد إخوتي الأطباء عن الفرق؛ فكان الجواب أن لا فرق بين المنتجين ولو أخذت أياً منهما فسأحصل على نفس نسبة التسكين، أي باختصار "بس تخورفت بـ4 آلاف ليرة زيادة".
على الرغم من كل مطالبات المساواة في الأجور ما زالت المرأة تتقاضى أقل من الرجل مقابل نفس الوظيفة، لكنها تدفع أكثر مقابل نفس المنتج، وهي مفارقة تكاد تكون سخيفة من عدم عدالتها
ضحكت حينها ولم أكترث للمبلغ خصوصاً أنّها ليست المرة الأولى التي يتفاوت فيها سعر منتجين متشابهين في سوريا تزامناً مع اضطراب الأوضاع الاقتصادية، لكن بعد عدة أيام وأثناء التصفح العبثي على صفحات السوشيال ميديا لفتني بوست فيسبوك يضم عدة صور تشترك في اللون الوردي، وكان بعنوان "هل تعرف ما هي الضريبة الوردية؟".
الضريبة الوردية تعني زيادة ثمن المنتجات المخصصة للنساء لمجرد تغليفها بعبوات وردية اللون أو تصاميم أنثوي، انتشر المصطلح عام 1996 في الولايات المتحدة من قبل مجلة "فوربس"، إذ تنفق المرأة من ولاية كاليفورنيا بمعدل 1351 دولاراً كل سنة أكثر من الرجل مقابل منتجات العناية الشخصية نفسها، كشفرات الحلاقة، الشامبو، مزيل التعرق.
ربما الأصح أن نسميها نظام التسعير الوردي، فهي ليست ضريبة حكومية، بل إن بعض الحكومات فرضت قوانين لوقفها.
في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 بدأت ولاية نيويورك فرض حظر على الضريبة الوردية من خلال جعل فرض المزيد من الرسوم على المنتجات المتشابهة إلى حد كبير والتي يتم تسويقها للجنسين أمراً غير قانوني، لكن حتى الآن لم يتضح مدى فعالية هذه الخطوة.
لكن تجربة واحدة ليست كافية للتعميم. بحثت أكثر فوجدت أن علبة شفرات الحلاقة التي اشتراه والدي الأسبوع الماضي تضم خمس شفرات بسعر 7500 ل. س (نحو دولار ونصف أمريكي)، بينما سأدفع أنا الضعفين في حال أردت شراء نفس العلبة المخصصة للنساء والتي تختلف عن سابقتها بالتصميم الخارجي أو ما يعرف بالتغليف الوردي، حتى مواقع التسويق الإلكتروني مثل "شي إن" أو "أمازون" تعرض ألبسة النساء بسعر أغلى مما هي عليه ألبسة الرجال. ورغم أن الضريبة الوردية ليست ضريبةً حكومية مفروضةً بشكل رسمي على المستهلكين إلا أننا وبكل أسف نلتزم بها دون أن نشعر كما لو أنها إلزامية.
ما هو التسويق الوردي
يرى البعض أن التسويق الوردي في إطاره العام يشبه الضريبة الوردية من حيث أن كليهما يستهدف المرأة، ظهر هذا المصطلح في القرن الواحد والعشرين، وعرّفته مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" بأنه الأنشطة التسويقية التي تقوم بها الشركات عندما تستهدف بمنتجاتها شريحة الإناث، أي أن الشركة تقوم بتعديل كل إستراتيجياتها التسويقية لتناسب المرأة وطريقة تفكيرها.
كنتُ وزبوناً آخر نقف في إحدى صيدليات دمشق حين طلبت من الصيدلانية بصوت منخفض أن تعطيني "باندول بيريود" وهو مسكن لآلام الطمث، ليطلب هو الآخر "بانادول اكسترا"، دفع الرجل 2500 ليرة سورية بينما دفعت أنا 6500 لنفس المنتج
يدعي العاملون وفقاً لهذا النظام أن التسعير على هذا الأساس يرجع للاختلافات في السلوك الشرائي بين المرأة والرجل، إضافة لتدخل المرأة في معظم العمليات الشرائية. لذلك كان الاهتمام بها ليس كعميل فقط، بل لأنها تؤثر بقوة في عمليات الشراء. فهي تشتري لنفسها وأسرتها وبيتها، كذلك تؤثر بشكل كبير على قرارات الرجل الشرائية.
ليس هذا فحسب، فقد نشر موقع "she economy" المتخصص في التسويق للمرأة بعض الإحصائيات، التي تظهر أنّ المرأة تتدخل في 91% من عمليات شراء المنازل الجديدة، 66% من عمليات شراء أجهزة الحاسوب الشخصية، 92% من إجمالي الإنفاق في الإجازات، 80% من قرارات شراء الخدمات الصحية، 65% من عمليات شراء السيارات الجديدة، 93% من قرارات شراء الأطعمة، و93% من قرارات شراء المنتجات الصيدلانية والأدوية.
بالتالي فإنه ليس بالضرورة أن تُفرض الضريبة الوردية على منتجات المرأة فقط ولكنها تستغل حقيقة أن للنساء اليوم قوة شرائية لا يستهان بها وتصل إلى 2.1 ترليون دولار حول العالم.
"كلّه من إيدك"... هل سلوكيات المرأة تجعلها تدفع أكثر
هنالك عدة فروق بين السلوكيات الشرائية للمرأة والرجل تجعلها فريسة أسهل لشباك الإستراتيجيات التسويقية ومروجيها، فالمرأة بطبيعتها تحب مشاركة ما اشترت مع الصديقات أو الأهل، فتسهم بذلك بجذب المزيد من العملاء أو تنفيرهم.
فعلى مستوى صفحات مجموعات الأصدقاء هناك صفحة على فيسبوك باسم "أشاطيات" تضم تقريباً 50 ألف متابعة أغلبهن من دمشق، إن أرادت إحداهن أن تشتري خاتم اكسسوار فإنها تنشر بوست مفاده "يا بنات شو رأيكن جيبه ولا لأ؟" لتجيبها العضوات في التعليقات
"أي حلو جيبيه" أو "لا... جربت هالماركة كتير سيئة لاتجيبيه" وهكذا.
منشور واحد في إحدى صفحات النساء أو سؤال حديث في إحدى جلساتهن عن منتج ما كفيل بأن يُفقد المتجر مبالغ طائلة أو أن يكسبه إياها، في المقابل لا نجد ذلك عند كثير من الرجال الذين يعتبرون أنّ التسوق مهمة يجب إتمامها بأقل جهد ممكن على عكس النساء اللواتي يرين أن التسوق رحلة ترفيهية ممتعة ووقت جميل.
يبلغ عدد سكان الكرة الأرضية 7.8 مليار نسمة تقريباً، أقل من نصفهم بقليل من الإناث، وباعتبار أن المرأة تدفع ضعفي ما يدفعه الرجل في العمليات الشرائية فهل هذا يعني أن اقتصاديات الكوكب تعتمد بشكل أكبر على النساء؟
الشركات الكبرى تختلق عيوباً وهمية وتقنع النساء بها كنوع من الترويج لمنتجات ليس لها فائدة أصلاً، كبعض غسولات المناطق الحساسة للأنثى والتي يتم الترويج لها على أنها ضرورية
في إحدى المحاضرات التنموية التي تنظمها منصة"Tedx" تحدثت الدكتورة "فيليسيا كلارك" عن الضريبة الوردية وعلاقتها بمفاهيم الجمال فاختصرت تلك العلاقة بأن أغلب مفاهيم الجمال السائدة هي من صنع المليارديرات. الشركات الكبرى تختلق عيوباً وهمية ويقنعون النساء بها كنوع من الترويج لمنتجات ليس لها فائدة أصلاً، تماماً كبعض غسولات المناطق الحساسة للأنثى والتي يتم الترويج لها على أنها ضرورية لإزالة البكتيريا والفطور متجاهلين أن هذه المناطق تمتلك خاصية تعقيم بيولوجية ذاتية تجعلها نظيفة بحد ذاتها.
الضريبة الوردية تعني المزيد من فقر الدورة الشهرية
خضعت المحارم النسائية أو "الكوتكس" لفترة من الزمن لضريبة تدعى ضريبة الرفاهية، التي تعتبر أن هذا المنتج ليس منتجاً أساسياً ويمكن الاستغناء عنه، على الرغم من استهلاك المرأة له شهرياً بشكل اضطراري لنحو 40 عاماً من حياتها بعد سن البلوغ.
أي لو فرضنا جدلاً أن كل أنثى تستهلك بشكل وسطي علبتين منها شهرياً فهذا يعني 960 علبة لكل أنث على مدار أربعين عاماً.
تعتبر مصر من البلدان التي صنفت الكوتكس على أنها منتج رفاهية أو منتج استفزازي كما سمته في القرار الصادر عنها عام 2016 والذي يقضي بزيادة التعرفة الجمركية على 364 سلعة مستوردة وصفتها بـ"السلع الاستفزازية".
ليست مصر الدولة الوحيدة التي فعلت ذلك، فالكثير من الدول الآسيوية والأوروبية تتبع نفس النظام مع هذه السلعة، لكن فيما بعد وتحت الضغط المجتمعي ألغت بعض تلك الدول هذا التصنيف، ومع ذلك لا تزال تلك السلع مرتفعة التكلفة، في حين يزداد الأمر سوءاً في بعض البلدان العربية التي تصنف كدول فقيرة.
تقول الصحافية المغربية ميساء أجزناي بنموسى إن 70% من النساء المغربيات غير قادرات على شراء المحارم النسائية و30% يستطعن فعل ذلك، بحسب التقارير التي أوردتها الشركة المغربية MIA لصناعة "الكوتكس" عام 2017. بالتالي يمكن افتراض أن نسبة فقر الدورة الشهرية تتناسب مع سعر الكوتكس.
مصر من البلدان التي صنفت الـ"كوتكس" على أنه منتج رفاهية في القرار الصادر عنها عام 2016 والذي يقضي بزيادة التعرفة الجمركية على 364 سلعة مستوردة وصفتها بـ"السلع الاستفزازية"
في سوريا مثلاً لا يوجد قانون رسمي بشأن الضريبة الوردية أو تصنيف الكوتكس، ولا حتى تقارير رسمية حول نسبة فقر الدورة الشهرية، لكن على اعتبار أن سوريا عانت من حرب سياسية وضغوط اقتصادية فلا يُستبعد أن تكون نسبة فقر الدورة الشهرية مرتفعة، خاصة أن السعر الاستهلاكي للمنتج لا يتناسب مع مستوى الدخل، وفي حال كانت هذه المنتجات مستوردة فإن سعرها سيكون أغلى، وبالتالي يشكل عبئاً أكبر على النساء.
تقول سهيلة (37 عاماً)، وهي أرملة، إنها لو امتلكت 5000 ليرة سورية (نحو 1.25 دولار) وخُيرت بين أن تشتري وجبةً غذائية لأطفالها وبين أن تشتري علبة محارم نسائية فإنها ستشتري الغذاء طبعاً، "قطعة قماش بالية كفيلةً بأن تكون بديلةً عن الكوتكس لكن لا يوجد غذاء بديل للأطفال".
قطعة القماش هذه ليست بدعة أو حلاً رديئاً على العكس هناك من حول القماش لمنتج يفوق جودة المحارم النسائية.
ففي مبادرة مغربية تم توزيع ما يسمى بسراويل الدورة الشهرية المصنوعة من ثلاث طبقات، الأولى من القطن الناعم الذي يساعد على الحماية، والثانية من ألياف الخيزران التي تمتص الدماء وتمنع تكاثر البكتيريا، أما الطبقة الثالثة فهي من القطن العضوي، ما يجعل هذه السراويل توفر حماية تامة من التسرب، كما يمكن استعمال هذه السراويل لـ12 ساعة متواصلة يومياً، ثم تستبدل وتنظف ويعاد استخدامها، علماً أنها صالحة للاستعمال مدة خمس سنوات من تاريخ اقتنائها.
غالباً ما يصنف الحديث في مثل هذه الأمور تحت بند التابوهات التي تخدش الحياء، وتؤخذ هذه الأحاديث لمنحى النسوية أو اختلاق الشرخ بين الجنسين، لكن الحقيقة أن هناك كثيرات ممن تركن تعليمهن وعملهن فقط لأنهن لا يمتلكن المال الكافي لشراء هذا المنتج.
الضريبة الوردية ليست مجرد رفع لسعر المنتج مقابل اللون أو نظام تسعير مختلف، بل أقرب ما يمكن أن توصف به هو أنها خدعة استغلالية تفرض على النساء فقط لأنهن نساء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...