حياكة الكلام
عيد الشجرة في قريتنا. وأخيراً صدر القرار من الجهات الرسمية في الدولة، بأنّ عيد الشجرة سيكون من نصيب مدينة عفرين في قرية كوبليه، وتمّت التحضيرات في المدرسة، حيث أخرج مدير المدرسة الأعلام الوطنية وصور القائد مع اللافتات من المستودع و نفضنا عنها نحن التلاميذ الغبار.
كان مستخدم المدرسة، أبو سفيان، منشغلاً بهذا العمل لأكثر من أسبوع، وهو يدّق المسامير في خشب اللافتات، ودقّ مسماراً بالخطأ عند مؤخرة القائد، لكنّه نزعه قبل أن يراه أحد.
كنت حينها في الصف السابع وعرّيفاً منتخباً من التلاميذ في الصف، كانت الانتخابات نزيهة، وحصلتُ على 53 صوت من أصل 44، وهو عدد التلاميذ في الصف. كان أصدقائي يسخرون منّي وينادونني "عرّيف أبو 44". وأخيراً سيأتي الرئيس مع زوجته الحسناء ويزرعان الأشجار في عفرين، وسيمران من قريتنا، قرية الزيارة، وهي أول قرية كردية عندما تأتي قادماً من حلب إلى عفرين.
اجتمع أهل القرية عند مفرق الطريق، المختار ورئيس البلدية ونائب مجلس الشعب الوحيد في عفرين. كان ضابطاً سابقاً في الجيش، وتخرّج مع الأب القائد وخدما معاً الوطن... هكذا كانوا يقولون.
احتشد التلاميذ من الصف الأول حتى الصف التاسع، وحتى جارتنا أم عبدو كانت واقفة معنا، وهي تبكي وتلطم زوجها أبو عبدو على مؤخرته وتقول: "لو كان عبدو حيّاً، لقابل الرئيس ولساعده في وظيفة في مالية حلب، ولاشترى بعد أقل من سنة بيتاً في شارع النيل في حلب، وسيارة بيك آب (دبل كمين) مثل جرطان الخلف"... مجاز
احتشد التلاميذ من الصف الأول حتى الصف التاسع، وحتى جارتنا أم عبدو كانت واقفة معنا، وهي تبكي وتلطم وجهها وتلطم زوجها أبو عبدو على مؤخرته وتقول: "لو كان عبدو حيّاً، لقابل الرئيس ولساعده في وظيفة في مالية حلب، ولاشترى بعد أقل من سنة بيتاً في شارع النيل في حلب، وسيارة بيك آب (دبل كمين) مثل جرطان الخلف".
لقد كتبتُ طلباتي على ورقة، وحتى أحلامي بأن أصبح نجماً سينمائياً، سوف أسلمها للرئيس شخصياً، وأقبّل يديه وأعانق زوجته الحسناء، ممشوقة الخصر والقوام، وأطلب منها إعدام مدير المدرسة السفّاح.
دخلت السيارات السوداء الأولى حدود القرية، وبدأت النساء تزغردن والرجال يصفقون ونحن التلاميذ نصفق ونهتف: "بالروح بالدم نفديك يا قائد... بالروح بالدم". مدير المدرسة لم يكن يحمل عصاه في يده، وكان ودوداً جداً ولا يصرخ في وجهنا كالعادة، بل يبتسم ويصفق معنا نحن التلاميذ، ويهتف أيضاً: "بالروح بالدم".
صراحة كنت سعيداً جداً برؤية المدير مهاناً ذليلاً مثلنا، يصفق معنا ولم يكن سفاحاً، بل كان أباً وأماً وأخاً وصديقاً وحبيبة ورفيقاً طليعياً مثلنا، لقد كان رحيماً، رؤوفاً، مبتسماً، خلوقاً، لقد كان إنساناً يضحك مثلنا.
اقتربت السيارات السوداء الأولى أكثر فأكثر وتبعتها سيارة بيضاء مكتوب على قفاها "التلفزيون السوري". سيارات الشرطة وصوت المزامير ورئيس المخفر يبتسم ويهتف أيضاً: " بالروح بالدم نفديك يا معلم". كنتُ أصرخ فرحاً وأهتف" بالروح بالدم".
وضعتُ الصورة على الأرض وأخرجتُ الورقة ومددتُ يدي إلى جيبي وأخرجتُ الورقة وحملتُ الصورة ثانية وهتفتُ، حتى انبعثتْ منّي ريح كريهة كادت تخنق المدير... مجاز
أمي كانت قد أعدتْ إبريق الشاي وأخرجت كعك العيد والقرص بعجوة المتبقية من العيد المنصرم، وأيضاً البرازق وسكاكر الحلاوة التي اشتراها أبي من دكان الحاج وحيد، وهي توزع السكاكر وتزغرد: "هذه ضيافة الرئيس حماه الله، هذه من عطاياه وخيراته". فجأة اخترق كلب جارنا الحاج عارف جموع التلاميذ، ووقف بيننا وهو ينبح، أظنّ أنّه كان ينبح فرحاً بقدوم الرئيس: "وواو وواو..... إع وواو.... بالروح والدم نواويك".
بدأت جموع السيارات بالاقتراب أكثر وأكثر والجميع يهتف: "بالروح بالدم نفديك يا قائد". كنتُ أحمل صورة القائد الأب والابن، وأهتف وأمدّ رأسي من وراء المدير الذي كان واقفاً بجانبي، حتى ألمح الرئيس وأسلّمه رسالتي وطلباتي. وضعتُ الصورة على الأرض وأخرجتُ الورقة ومددتُ يدي إلى جيبي وأخرجتُ الورقة وحملتُ الصورة ثانية وهتفتُ، حتى انبعثتْ منّي ريح كريهة كادت تخنق المدير.
إنّها المرة الأولى، التي أقف فيها بجانب المدير ولا أخافه. على العكس فهو كان خائفاً من انتصار الرئيس لي، بعد أن لمح تلك الورقة. اقتربتْ السيارات ولم تتوقف عندنا ولم يسلّم علينا الرئيس... نعم لم يأتِ الرئيس، بل أرسل المحافظ نيابة عنه. اخترق راعي القرية جاسم العواد الجموع بعد مرور موكب السيارات، وكانت مطرته معلّقة على كتفه كبارودة الصيد، وهو يلوّح بعصاه ويغني: "بالروح والقطيع والكبش والمرياع، أفديك يا سيدي بالتيس والعنزة والسخلة والعباية، نفديك يا ريّس". قاطعه مختار القرية قائلاً: "تمهّل يا أبا محمد، الرئيس لم يأتِ وناب عنه المحافظ وقائد الشرطة". ضحك أبو محمد وضحكنا جميعاً وهو يقول: "سامحك الله يا سيدي الرئيس، كنتُ سأهديك عصاي هذه لتهشّ بها على هذه الجموع... لكنّك لم تأتِ". لقد خيّب الرئيس آمالنا جميعاً ولم يأتِ، وفي اليوم التالي أخذ مدير المدرسة الورقة منّي، وجلستُ على الكرسي ونلتُ عقوبتي بعصا الزيتون... لماذا خيّبتْ أملي يا سيدي الرئيس، لماذا احتفظت بحقّ الردّ عليّ؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...