شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الشخص: حال الانتظار غير المحدود

الشخص: حال الانتظار غير المحدود

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 22 أبريل 201910:29 ص

اختارت المخرجة نسرين سنجابة تقديم مسرحية (الشخص)، على مسرح جامعة رفيق الحريري مع مجموعةٍ من طلاب دورة المسرح 301. النصُّ من تأليف الكاتب المسرحي المصري (ألفريد فرج 1929 – 2005). في البيانِ الخاصِّ بالمسرحيّة توضّح المخرجة الأسباب التي دفعتها لاختيار هذا النصِّ: (الشخصُ نصٌّ مسرحي متميّز في قدرته على التعبير عن الحال العبثيّة التي يعيشها المواطن في العالم العربي، عبثيّة الشخصيّة العربيّة)، وتضيف المخرجة في لقاء خاصٍّ معها: (لقد عملنا على التعديل وكتابة بعض الفقرات التي تنقل الحدث من مصر، ليوائم الوضع اللبناني بشكل خاص، والعربي بشكل أعم).



الذاكرة المفقودة وأسئلة الهوية

يبدأ العرض ومجموعة المؤدّين يقفون على المسرح بطريقة توحي وكأنهم يجسّدون صورة فوتوغرافيّة جماعيّة، ما يلبث أن يخرج منها (الشخص)، وهو الشخصيّة الرئيسيّة في المسرحيّة، والتي لا تمتلك اسماً، وذلك لإبقاء هويّتها دون تعريف. يروي الشخص بأسلوب المونولوجات الطويلة، بجملٍ متقطّعةٍ وأسئلةٍ متكرّرة، ما يوحي، بفقدانه الذاكرة. هذا الفقدان للذاكرة يفتح على الأسئلة الوجوديّة من قبيل: من أنا؟ ما هويتي؟ ماذا أفعل في المكان؟ ومن هؤلاء الذين يقفون إلى جانبي في الصورة؟ يشير الشخص إلى مجموعة المؤدّين الواقفين في عمق المسرح، إنهم من يحيطون به في الصورة، الشخص غير قادر على تذكرهم، بل يعتبر أنهم يعيدونه إلى الماضي كلما أراد التحرّك باتجاه المستقبل: (إن كانت حياة الإنسان تمضي دائماً للأمام، لماذا تلعب الذاكرة إذاً تأثيراً على وعيه؟)

أفكار متقطّعة، أسئلة بلا أجوبة، ومعلومات تظهر فجأة، بهذا الأسلوب من المونولوجات يحاول الشخص لملمة حكايته وذاكرته: مسرحية "الشخص" 

أفكار متقطّعة، أسئلة بلا أجوبة، ومعلومات تظهر فجأة، بهذا الأسلوب من المونولوجات يحاول الشخص لملمة حكايته وذاكرته. يتذكّر أنه ولد، كبر، تزوج، وأنجب ابناً يعيش في الخارج، لكن رسائل الابن انقطعت منذ فترة، مما يعيد التشكيك بحقيقة كل ما سبق، هل حقّاً للشخص ابن يعيش في الخارج؟ هل حقّاً كان يرسل له المال والرسائل؟ أم أن المعلومة مجرّد وهمٍ تعيشه الشخصية؟

حال الانتظار غير المحدود

الشخص يعي شيئاً وحيداً، أنه بحالٍ من الانتظار: (جهنّم هي أن تعيش بحال من الانتظار، لكنك لا تعرف إلى متى ستنتظر، ولا ما الذي تنتظره) جملة تذكّر بالعديد من النصوص المسرحيّة التي تناولت موضوعة الشرط الإنساني مثل (الأبواب المغلقة، جان بول سارتر)، (في انتظار غودو، صامويل بيكيت)، كما أنها تتضمّن إشارةً إلى واقع الإنسان العربي الذي يعيش رمزياً في مرحلة انتظار، انتظار الفرج، انتظار التغيير، لكن الإنتظار لا يثمر.

فجأة، يتذكّر الشخص، وهو ينظر إلى الساعة التي يحملها بيده، موعداً محدداً له مع الطبيب عند الساعة الثانية، فيخرج راكضاً من المسرح متوجّهاً إلى الموعد، عند هذه اللحظة من الحدث المسرحي، تطلب الفرقة المسرحيّة من الجمهور النهوض عن مقاعد المسرح، والخروج من صالة المسرح للحاق بالممثل – الشخص عبر أروقة جامعة رفيق الحريري حيث يتمّ العرض.

يقود أعضاء الفرقة المسرحيّة الجمهور في أروقة بناء الجامعة وصولاً إلى غرفة الانتظار عند الطبيب، وهكذا، فإن المشهد الأول وحده سيُعرض على خشبة المسرح، بينما اختارت المخرجة أن يؤدّى كلّ مشهدٍ آخرٍ من مشاهد المسرحيّة، في مكانٍ، قاعةٍ، ممرٍّ، عند فسحة مختلفة عن الأخرى من أماكن بناء الجامعة، وفي كلّ مرّة يترتّب على الجمهور، الانتقال من مكان لآخر لإكمال متابعة أحداث المسرحيّة.

الذاكرة المفقودة وأسئلة الهوية؛ حال الانتظار غير المحدود؛ هذيانات حول العلاقة مع الجسد؛ الهوية في حوار الأنا والقرين: نص "الشخص" للكاتب المصري ألفريد فرج (1929 – 2005) يعود إلى مسرح جامعة رفيق الحريري في عرض متميّز

فقدان ذاكرة الشخصية الرئيسية في مسرحية "الشخص" يفتح على الأسئلة الوجوديّة من قبيل: من أنا؟ ما هويتي؟ ماذا أفعل في المكان؟ "الشخص" يعي شيئاً وحيداً، أنه بحالٍ من الانتظار 

هذيانات حول العلاقة مع الجسد

في غرفة الانتظار عند الطبيب، يفتح المؤلف ألفريد فرج مولونوجات النصّ على أسئلة الجسد. لا يشعر الشخص بأن جسده يحمل أمراضاً، ولكنه وبالوقت عينه يشعر بأن جسده مريض، علاقته بجسده ملتبسة، أحياناً يحضر جسده في وعيه بقوّة، أحياناً يشعر بالألم، لكن في أحيان أخرى يفقد قدرة التواصل مع جسده وأعضائه والإحساس بها. إنها هذيانات الشخص عن جسده التي يتلوها على الحضور في غرفة الانتظار عند الطبيب، لتبيّن أن لا أجوبة منتهية ومكتملة يمكن الركون إليها عند التفكير بالجسد بطريقةٍ منطقيّةٍ ومحاولة تحليل علاقة الذهن بالجسد.

أسئلة الزمان والمكان

كما تذكّر الشخص فجأة بأن لديه موعد مع الطبيب، فجأةً أيضاً يتذكّر أن عليه خوض امتحان، يخرج راكضاً من الغرفة ومن خلفه يمشي جمهور المسرحيّة، ليدخلوا إلى قاعة أخرى، حيث مكاتب دراسيّة مضاءة للكتابة هنا هي قاعة الامتحان، يحاول الشخص قراءة الأسئلة ومشاركة الجمهور في إمكانيّة الإجابة عليها، لكن دون جدوى. كلّ الأسئلة يصعب الإجابة عليها، في حال النظر إلى ما تنطوي عليها من أبعادٍ فلسفيّة ووجوديّة واقتصاديّة.

(قدّيش الساعة؟) سؤال ينطوي على علاقة بالزمن، والزمن موضوعة فلسفيّة، يحتمل النسبيّة، ولا يصل إلى حتميات قاطعة. (كيف الحال؟) سؤال آخر يراه الشخص صعب الإجابة لأنه يتعلّق بالوضع الاقتصادي والصحّي وطريقة العيش وأسلوبه. (وينك؟) سؤال آخر تصعب الإجابة عليه بالنسبة للشخص، لأنه ينطوي على علاقةٍ بالمكان، والمكانُ متداخلٌ في ذاكرة الشخص ومتشعّبٌ ويحمل عوامل ضياع.

قدرة اللغة على التعبير



لا تقتصر أعمال ما أطلق عليه "مسرح اللامعقول" أو "مسرح العبث" على طرح الأسئلة الوجوديّة والفلسفيّة، إلا أن كتّاب هذا النوع من النصوص المسرحيّة، اهتمّوا بموضوعةٍ خاصّةٍ وهي علاقة اللغة مع الوعي، مع المنطق، وقدرتها وحدودها في التعبير. تظهر باستمرار في مسرحيّة (الشخص) الأسئلة الخاصّة باللغة. هذا ما يقوم عليه النصّ المسرحي الشهير (المغنية الصلعاء، للكاتب يوجين يونيسكو).

في نصِّ ألفريد فرج، حين يذهب الشخص إلى دائرة البريد ليرسل رسالة إلى ولده المسافر، يطلب من موظف البريد مساعدته في كتابة الرسالة، لكن الموظف لا يكتب ما يملي عليه الشخص، بل يكتب مجموعة من العبارات النمطيّة التي يتخيّل أنها الأنسب في كتابة الرسائل: (إلى ولدي العزيز، الجميع بخير بسعادة، الأهل والأٌقارب مشتاقون، نتمنى أن تكون بخير وصحّة جيّدة)، وحين يعترض الشخص على هذه الكليشيهات اللغويّة التي لا تتضمّن الحقيقة ولا تعبّر عنها، يجبره موظفو ورجال الأمن في دائرة البريد على الخروج، ويطردونه: لا إمكانيّة لمحاولات التعبير الفردي عن الذات، فإمّا القناعة بما هو جمعي ومنسّق سلفاً أو القمع.

الغايات والأهداف المشوّشة

يخرج الجمهور إلى الهواء الطلق لمتابعة باقي أجزاء المسرحيّة، البحرة الرئيسيّة داخل بناء الجامعة تتحوّل لمشهد موقف الباص، أدراج الفسحة المتوسّطة للبناء تتحوّل إلى مشهد محطّة القطار، وزاوية البناء مربّع الشكل تتحوّل إلى مشهد المطار. يُكثر المؤلّف المسرحي ألفريد فرج في نصّه هذا من إدخال مشاهد تتعلّق بالانتقال والتنقل، الانتظار والمغادرة والوصول. هذه الأماكن المسرحيّة يختارها المؤلّف لأنها ترمز بأسئلتها إلى الدرب في حياة الفرد، إلى اختيارات السبل التي عليه اتباعها، إلى مخطط سلوكيّاته التي يتوجّب عليه فيها تحديد نقطة انطلاقه وغاية الوصول أي التوجّه.

في مشهد موقف الباص ينتقد العرض نظام النقل العام في لبنان الذي يشكو من إهمال، في مشهد محطة القطار يحاول الشخص أن يضع الوطن في حقيبة سفر (حفنة من تراب الوطن، حجر من أحجاره، آخر كتاب طبعته وزارة الإعلام، ومجموعة من الصور للأماكن السياحيّة) كلها كليشيهات تختصر الوطن إلى أغراض أبعادها سطحيّة ومحدودة، وفي مشهد المطار، نجد الشخص تائهاً في مكان وجوده والمكان الراغب بالانتقال إليه، هي رمزية ضياع الغايات، تشوش الأهداف، وصعوبة التخطيط لرحلة الحياة.

الهوية في حوار الأنا والقرين


تمتدّ أسئلة المسرحيّة لتشمل سؤال الهويّة في مشهدٍ يجري بين الشخص وقرينه. يحاور الشخص إسقاطاً ضوئيّاً لقرينه تماماً على الحائط. يحاكي الشخص الإسقاط الضوئي لصورته ليسألها عن ذاته، عن هويته، عن خصائصه، لكن لا جواب، لأن القرين الماثل في الإسقاط الضوئي يُجيب بالأسئلة ذاتها، يكرّرها مقلوبة، وكأن لا إمكانية للتواصل بين الإنسان وجوانيّاته، ويشير إلى صعوبة التواصل بين الإنسان وذاته، والتعرّف عليها وتمييز خصائصها ومنحها ما تحتاجه من أسئلة الهويّة.

في المشهد الأخير من المسرحيّة، يعود الشخص إلى خشبة المسرح، حيث يجتمع من حوله المؤدّون على حالة الصورة الفوتوغرافيّة التي خرج منها بداية المسرحيّة. الصورة ترمز إلى العرس، يجلس الشخص إلى جانب العروس وتأخذ صورة جماعيّة تنهي المسرحيّة، بما يطرح التساؤل: هل الشخص هو الأب، أم أن الشخص هو الإبن، تقول المخرجة نسرين سنجاب: (أردت أن أعبّر بالحكاية أن حياة الإنسان العربي هي تكرار، فالإبن سيُعيد حياة الأب ومعاناته وأسئلته وإشكاليّاته الحياتيّة والوجوديّة)، ما يؤكّد عبثيّة الشرط الإنساني وخضوعه لقوى التقاليد وقمع السلطات.

لا يمكن محاكمة الأداء التمثيلي لطلاب دورةٍ تدريبيّةٍ عن المسرح، كما يتمّ تحليل الأداء في المسرح الاحترافي، إلا أن الممثل (سليمان المعوش) بذل جهداً كبيراً في أداء شخصيّة الشخص، واستيعاب أسئلتها وتجاربها الوجدانيّة والفلسفيّة، كما أن أداء العديد من المشاهد المسرحّية في أماكن وفي قاعات وفي ممرّات وغرف متفرّقة، جعل من التكيّف في كلّ مرّة مع مكان جديد، يتطلّب مهارات في التعامل السريع مع الموقف والشرط الجديد لمكان عرض الحدث المسرحي.

هذا الخيار الإخراجي في تقديم المشاهد في أماكن متعدّدة ومختلفة بين الحدث المسرحي والآخر، يتطلّب عمل فريق تقني كبير على مستوى إدارة المنصّة (آية القدسي، جنا مرجان، رند الحريري)، وكذلك فريق تصميم الإضاءة وتنفيذها التقني (ساري شريتح، وهاني البوبو). ويبقى العنصر الأبرز في المسرحيّة هي اختيار المخرجة ومجموعة الطلاب المشاركين في العرض لنصٍّ مثل (الشخص، لألفريد فرج) لقدرة هذا النصّ على أن يجاور بين الأسئلة الوجوديّة والفلسفيّة، والأسئلة المتعلّقة بإشكاليات الحياة السياسيّة، الاقتصاديّة، والثقافيّة في العالم العربي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image