لم أكن أتوقع أنّ أول مَن "أتنمر" على لهجته سيكون ابني ذو السبعة أعوام. لم أتخيل أن أغضب عندما لا يتكلم بلهجتي، أنا التي تنتقد من يفعل ذلك مع الغريب، ومَن كانت تُنظّر وتقول: لكل لهجة من لهجاتنا جماليتها الخاصة.
جميع اللهجات المتنوعة في سوريا أقرب إلى القلب من اللهجة البيضاء التي أتكلم بها أنا وكثيرون ممَّن لا يسكنون مناطقهم الأصلية، فهي أشبه ما تكون بلهجة "بالأبيض والأسود"، بلا ألوان، ولا هوية لها، ولا توحي بأي انتماء، إنما تشي بتخلٍ جاء نتيجة السكن لسنوات طويلة بعيداً عن المناطق الأم لتلك اللهجات.
كنت أحب لهجة ابني نفسها عندما كنت أسمعها من أقاربي في القرية، فأقرب الناس إلى قلبي يتكلمون بها، وأحبها أكثر عندما يتكلم بها زوجي. أشعر أن كلماته تصبح أصدق عندما يحدثني بتلك اللهجة الريفية الجميلة.
لماذا أغضب؟
الجواب ليس صعباً أبداً. قلقي على صغيري وحبي له هما ما يجعلاني ألومه، وأحاول مراراً أن أجبره على تبني لهجتي الباهتة!
طفولتي مليئة بصورٍ لأطفال تعرضوا لسخرية قاسية، لأنهم كانوا يتكلمون بلهجاتهم الأم، وترك ذلك أثراً كبيراً على شخصيات بعضهم. في المدرسة، ما زلت أذكر ذلك الطفل المتفوق ذا العشرة أعوام الذي كان يتكلم باللغة الفصحى، وبدأ يختصر كثيراً من أحاديثه مع أقرانه حتى لا تهتز صورته أمامهم إذا ما زل لسانه بمفردة مستخدمة في قريته، ولم يسمعوها من قبل، فيصير ضحية سخريتهم الجارحة.
وما زلت أذكر تلك الشابة المراهقة ذات الضفائر الذهبية، والتي كانت تجلس في المقعد الأخير من الصف، رافضة تكوين صداقات مع أحد، خشية من سخرية بدأت مع جملة قالتها إحدى فتيات الصف عندما سمعتها تتحدث للمرة الأولى: "شوفوا كيف كلامها متل البدو".
الأمثلة كثيرة، تبدأ بتصنيف الأشخاص حسب لهجاتهم، وتنتهي برفض أي شيء مختلف، بعد إطلاق صفات جارحة على مَن ينطق تلك اللهجات المختلفة: "عم بيتبوجئ"، "بيمط حكيو"، "بيكسر الكلام"، "بيضم الأحرف"، "بيرقق الكلام"، "بيضخم الأحرف"، إلخ. وهكذا تصبح اللهجة لدى البعض مرتبطة بجملة من الصفات السلبية والصور الذهنية المسبقة.
اللهجة البيضاء كانت الحل
يستخدم كثيرٌ من الأشخاص اللهجة البيضاء في محاولةٍ لجعل أحاديثهم مفهومة، وأفكارهم واضحة تصل بسرعة أكبر إلى الآخرين، إلا أنهم يحتفظون بلهجاتهم الأصلية في التواصل والأحاديث مع أهلهم، ولا ضير في أن يُعرّفوا مَن حولهم على هذه اللهجة خلال الأوقات غير الرسمية، لأنها جزء من هويتهم وهم متصالحون مع أنفسهم، ولن تهزهم جملة جارحة مسيئة صادرة من شخص غير مسؤول.
"لم أكن أتوقع أنّ أول مَن ‘أتنمر’ على لهجته سيكون ابني ذو السبعة أعوام. لم أتخيل أن أغضب عندما لا يتكلم بلهجتي، أنا التي تنتقد من يفعل ذلك مع الغريب"
من جهة أخرى، يتحفظ البعض عن استخدام لهجته الأصلية، فيتكلم بلهجة أخرى أمام الآخرين ويجعل للهجته خصوصية ضيقة لا تتجاوز أهله، خصوصية قد تصل إلى درجة إنكاره أمام الآخرين أنه يتكلم بتلك اللهجة. قد يعود ذلك إلى ضعف في الشخصية وقلة ثقة بالنفس، وربما لتخفيف إزعاج قد يصل إلى مسمعه من شخص اعتاد ألا يفكر قبل أن يلقي مزحة سخيفة قد تتسبب بأذى نفسي وإحراج أمام الناس.
تختلط لهجات بعض الأشخاص نتيجة التنقل وتنوع أماكن إقامتهم فتبدو اللهجة البيضاء التي يتحدثون بها وكأنها لهجتهم الأصلية.
التأثر بالجيرة والجوار
تتنوع اللهجات وتختلف في المناطق والبلدات والقرى وفقاً للعديد من العوامل منها الطبيعة الجغرافية، والحدود مع الدول والمدن المجاورة والتأثر بلهجاتهم، وقد تكون متأثرة باحتلال مر في زمن ما، أو بوافدين قدموا من جغرافيا مختلفة واستقروا في تلك المناطق والبلدات، وغير ذلك من العوامل الكثيرة.
فالقاف الواضحة مرتبطة بالمناطق الجبلية في كثير من الأحيان (السويداء وجبال الساحل)، والتأثر بالبلدان المجاورة واضح عند أهالي مدينة طرطوس وبعض قراها المتاخمة أو القريبة من لبنان، أما أهالي المناطق الشرقية فالتأثر بلهجة أهل العراق واضح وجلي، ولا يختلف الحال مع أهالي منطقة حوران المحاذية للأردن، وغيرها العديد من الأمثلة.
"طفولتي مليئة بصورٍ لأطفال تعرضوا لسخرية قاسية، لأنهم كانوا يتكلمون بلهجاتهم الأم... ما زلت أذكر تلك الشابة المراهقة ذات الضفائر الذهبية، والتي كانت تجلس في المقعد الأخير من الصف، رافضة تكوين صداقات مع أحد، خشية من السخرية"
أعتقد أن اللهجة لها صلة بجغرافيا المنطقة وبالتفاعل والعلاقات القائمة مع المناطق ودول الجوار، والتي قد تكون متواترة ويومية، بالإضافة إلى عوامل وأسباب أخرى لا تبتعد عن هذا السياق، ولكنها حكماً ليست مؤشراً أبداً على جهل أو نقص معرفة، ولا عن رقي أو تخلف.
أنا وطفلي ولهجتنا
بالعودة إلى طفلي الذي كان يعترض بشدة على اقتراحاتي بتغيير لهجته وتخفيف وضوحها، والذي كان يريد أن يتكلم بلهجة أهل قريته، على الرغم أنه وُلد وكبر في العاصمة، لقد بدأ ومنذ دخوله المدرسة بالتراجع عن قراره ولو بشكل نسبي، وأعتقد جازمة بأنه تعرض للاستهجان والتنمر من البعض، أو على الأقل لمزاح ثقيل أو جارح تناول طريقته في الكلام.
ابني لم يعد يغضب حين أطلب منه تخفيف لهجته وينحو فوراً للتدرب على ذلك. لكني في الوقت نفسه بدأت أطلب منه ذلك بطريقة أكثر ليناً ولطفاً وبمزيد من الشرح والترغيب، علّني أُجنبه بعض الآثار المؤذية لتنمر ربما يرافقه خلال سنوات دراسته، فالمدارس مليئة بموجات مختلفة ومتنوعة من التنمر بين الطلاب سواء ما يتعلق باللهجة أو بأمور غيرها.
*هذا الموضوع عملت عليه "مؤسسة موج التنموية"، ضمن حملة "كلمتين نضاف"، ويُنشر بالتزامن على موقعها وعلى موقع رصيف22 في إطار شراكة بين الطرفين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...