"يا قصير يا قزعة"، هكذا ينادونه لقصر طوله مقارنة بهم، بوجهه البائس وجسده النحيل يقرر أحمد ابن 11 عاماً أن يتناول أدوية هرمونية وأقراص المكملات الغذائية، ويتبع خطة علاج نفسية أملاً في أن يمنحه ذلك جسداً طويلاً قوي البنية، يشعره بذاته مقارنة بأقرانه، فصغير القوم خادمهم، هكذا كانوا يقولون له حال خروجه من المدرسة، ليجبروه على الذهاب إلى مطعم الفلافل المجاور للمدرسة بغرض الشراء لهم.
لايزال الأطفال في الأردن يواجهون تحديات جمة أمام حمايتهم من العنف بكافة أشكاله، خاصة أن المؤسسات التي تتخذ على عاتقها مسؤولية حماية الطفل من العنف متناثرة، وذلك يجعلنا أمام مشكلة في تحديد حجم الظاهرة وأشكالها على المستوى الوطني، في ظل غياب تعليمات تربوية تحد منه، ونظام فعال يرصد أشكال العنف ضد الأطفال، وما يرافقه من ضعف في البرامج والأنشطة العلاجية والتربوية وكذلك البرامج التقيمية التي تتابع تطور هذا العنف ضد الأطفال وخاصة في المدارس.
لايزال الأطفال في الأردن يواجهون تحديات جمة أمام حمايتهم من العنف بكافة أشكاله، خاصة أن المؤسسات التي تتخذ على عاتقها مسؤولية حماية الطفل من العنف متناثرة وتتبادل إلقاء المسؤولية على غيرها
تعرف منظمة اليونسكو التنمر على أنه تعرض الشخص بشكل متكرر على فترات من الزمن لتصرفات سلبية، من قبل شخص أو مجموعة من الأشخاص، مما يشكل صعوبة في الدفاع عن النفس. وحتى يوصف العنف الممارس على أنه تنمر، يجب أن تتوافر فيه عدة معايير أساسية، أولها أن يكون العنف متعمد بنوايا عدائية، أن يكون هنالك اختلال في توازن القوة، التكرار، والحزن بمعنى وقوع معاناة نفسية أو اجتماعية أو جسدية لدى المتنمر عليه.
يعد العنف اللفظي من أكثر أشكال العنف انتشاراً في المجتمع الأردني، حيث تؤكد المستشارة التربوية والأسرية الدكتورة ملاك البرغوثي، أن التنمر بين الأقران يكون بالسخرية من اللون أو الشكل أو التحقير، كإطلاق الألقاب والاستهزاء، يليه الاعتداء على الممتلكات والجسد والإقصاء الاجتماعي.
"بدي أضربه وأعلّم عليه، رح أخليه يعيط وكل الولاد يضحكوا عليه، مثل ما ضحكوا علي، لحتى أفش غلّي"
تشير الدراسة الوطنية حول العنف ضد الأطفال بالأردن والتي أجرتها اليونيسف بالتعاون مع المجلس الوطني لشؤون الأسرة أن هنالك 39.6% من العنف الجسدي المرتكب بين الأطفال من قبل الأقران، فيما تصل نسبة العنف النفسي لذات الفئة إلى 67.2%، وتتعدد أشكاله بين الصراخ بصوت مرتفع في الوجه، الإهانة، ورفض التحدث مع الطفل ونبذه اجتماعياً، ولومه على أشياء سيئة حصلت.
أسباب ودوافع التنمر
يرتبط التنمر في الكثير من البلدان بأسباب طائفية أو دينية أو عرقية وقد يشكل المستوى المعيشي كالفقر والغنى مثلاً نوعاً من التنمر، أما في الأردن، فإن أسبابه خاصة بالمتنمر نفسه، وبحثه عن القوة وإثبات الذات تحقيقاً لفكرة أنا موجود، وتشكل طبيعة المجتمع فارقاً أيضاً، ففي المناطق الشعبية يكون الأطفال على احتكاك ببعضهم بشكل أكبر، نظراً لتراصّ البيوت وضيق الشوارع؛ الأمر الذي يمكن أن يجعل من حالات التنمر متكررة وظاهرة بشكل أكبر، ولا ينفي ذلك حقيقة وجودها في المجتمعات الغنية.
يبين عدد من المرشدين التربويين، أن تنشئة الوالدين لأبنائهم تلعب دوراً مهماً في تفاقم مشكلة التنمر، تقول إيمان حامد مُدرّسة وأكاديمية في إحدى المدارس الخاصة لرصيف22: "إن مشكلة التنمر في مجتمعنا سببها الأول المنظومة الفكرية"، فالأب والأم يرفضون أن يتعرض أطفالهم للضرب من دون أن تتم "معاقبة حقيقة" للطرف الآخر، والتي - بنظر الأغلب- لا تتحقق بالعقوبات المدرسة كالتنبيه أو توجيه الإنذار، وإنما برد هذا العنف والتنمر داخل المدرسة أو خارجها فردياً أو بالاتفاق مع الأصحاب.
فيما يرى الخبير التربوي سهيل شواقفة أن التنمر يعود لمشاكل أسرية أهمها التسلط والعنف الموجه على الطفل من قبل والديه أو إخوته، بالإضافة إلى الإهمال وعدم التعامل معه وفقاً لأساليب تربوية مناسبة، وتعليمه كيفية التعامل مع الآخرين.
الضحية يتحول إلى متنمر
"بدي أضربه وأعلّم عليه، رح أخليه يعيط وكل الولاد يضحكوا عليه، مثل ما ضحكوا علي، لحتى أفش غلّي"، لقد شعر رامي ابن 10 سنوات بالاضطهاد والظلم جراء انخراط أغلب طلبة صفه بالتنمر عليه، إضافة إلى عدم الاستجابة لشكواه المتكررة من قبل مربية الصف. ففي مساء يوم وبعد الخروج من المدرسة اقتربت قطة من رامي ففزع منها؛ ليبدأ زملاءه في المدرسة بالضحك عليه والسخرية منه حتى بات لقبه "مياااو"، يقول والد الطفل رامي أنه تعرض للعنف من قبل زملائه خارج أسوار المدرسة مراراً، وكان يعود للمنزل باكياً رافضاً الذهاب لها، مما دعاه الى الدفاع عن نفسه بضرب زملاءه المتنمرين بتحريضٍ من والده.
تتفاقم مشكلة التنمر خارج أسوار المدرسة، حيث أنه لا يوجد أي تعليمات تُلزم المدرسة بالتصرف حياله مهما كان شكله، إلا في حال امتد هذا التنمر إلى داخلها، ويعتبر أي شكل من أشكال العنف خارج أسوار المدرسة "شجاراً" يحال إلى الجهات الأمنية وشرطة الأحداث، ويجري التنسيق بين وزارة التربية وشرطة الأحداث وحماية الأسرة في حال تم تحويل الطفل المتنمر إليها، لغاية الإشراف على تعليمه ومتابعته بعد عودته للمدرسة من قبل المرشد التربوي.
تتفاقم مشكلة التنمر خارج أسوار المدرسة، حيث أنه لا يوجد أي تعليمات تُلزم المدرسة بالتصرف حياله مهما كان شكله، إلا في حال امتد هذا التنمر إلى داخلها، ويعتبر أي شكل من أشكال العنف خارج أسوار المدرسة "شجاراً" يحال إلى الجهات الأمنية
تُعنى تعليمات الانضباط الطلابي في المدارس الحكومية والخاصة رقم (5) لسنة 2017 والتي أسنّت وفقاً للمادة (6) من قانون التربية والتعليم الأردني رقم (3) لسنة 1994 وتعديلاته بالتعامل مع المخالفات والمشكلات السلوكية داخل المدرسة خلال المراحل التعليمية من خلال عدة وسائل تربوية وقائية وعلاجية، وتقع العقوبات على الطلبة من الصف السابع فأعلى، وتتراوح العقوبات وفقاً للمخالفة من توقيع عقوبة الإنذار على الطالب إلى الفصل من التعليم في المدارس الحكومية والخاصة، في حين أنه لم ترد أي تعليمات تربوية أو أنظمة انضباط طلابي، أو أية تعميمات تخص التنمر خارج أسوار المدرسة في الأردن إلى الآن.
يبين شواقفة أن تعليمات الانضباط الطلابي لها تأثير محدود في الحد من التنمر، حيث أن إيصال الحالات إلى المرشد التربوي تتم إما عن طريق الطلاب أنفسهم أو عن طريق مؤشرات أخرى؛ كتأخر الطالب صباحاً بشكل متكرر، الهروب أو الغياب، وربما يعمَد إلى البقاء في المدرسة عند انتهاء الدوام وانصراف جميع الطلاب، فوجود مؤشرات متكررة كهذه من المفترض أن تلفت انتباه المعلم أو المرشد، ويكون في هذه الحالة ملزماً في التعامل مع حالة التنمر، موضحاً أن تعليمات الانضباط الطلابي لا تسعى إلى إيقاع العقوبة بشكل مباشر، وإنما لتحقيق المصلحة العليا للأطفال عن طريق تعديل السلوك، فالعقوبة قد لا تحقق النتائج المرجوة دائماً.
يؤكد الناطق الإعلامي بوزارة التربية والتعليم الأردنية أحمد المساعفة على عدم وجود نص قانوني يُعنى بالتنمر خارج أسوار المدرسة في الأردن قائلاً: " لا يوجد نص قانوني أو نظام أو تعليمات تجيز للمعلم أو تحميه حال متابعته للتنمر خارج أسوار المدرسة، أي أن تعليمات الانضباط الطلابي لا تعالج التنمر خارج أسوار المدرسة لكونه أصبح خارجها"، ويضيف المساعفة أنه يصعب تحديد مسألة محيط المدرسة أو المسافة التي يمكن القول بأنها ضمن محيط المدرسة في حال حدوث التنمر فيها، وتأتي الصعوبة أيضاً مع وجود خصوصية لكل مدرسة.
وعلى الصعيد نفسه تؤكد أخصائية الارشاد النفسي والتربوي دعاء عدوان أن من الضرورة وجود تعليمات انضباط طلابي للتنمر خارج أسوار المدرسة لحماية من يتعرضون للتنمر حيث ينعكس ذلك على الطلبة داخل أسوار المدرسة، مبينة أن هنالك بعض الخطوات التي من الممكن أن تعمل على تقليل سلوك التنمر في المدرسة كوضع تعليمات وأنظمة واضحة ومفعلة، وجود أنشطة وبرامج لا منهجية تعزز الثقة بالنفس لدى الطلبة، وتدريب الطلبة على المهارات الاجتماعية في كيفية التواصل الفعال مع الآخرين، والدفاع عن النفس، وقول "لا" لما يطلبه المتنمر، وكذلك تدريب المعلمين والمعلمات على كيفية التعامل الأمثل مع الطلبة المتنمرين والطلبة المتنمر عليهم، إضافة إلى توعية الآباء في كيفية التعامل مع أبنائهم وتصحيح الاتجاهات في كيفية الدفاع عن النفس والتعبير عن الذات.
أين يقع دور المدرسة؟
الطفلة أمل طالبة في احدى المدارس الخاصة عانت من التنمر خلال فترة الابتدائية، حيث تعرضت للإهانة والسخرية والنبذ الاجتماعي من قبل زميلاتها في المدرسة، تقول أمها لرصيف 22: " كانوا بنات صفها بيمنعوها تروح معهم، ويخلوها بكرسي لوحدها بالباص، كانوا بيشوفوها غبية والسبب إنها ناصحة، كانوا بنادوها بالشارع وهي مروحة يا عجل يا قلاب"، تناولت أمل حبوب دواء مساعد السكري لاعتقادها بأنها تحرق الدهون، وحاولت عدة مرات الامتناع عن الطعام والشراب مما سبب لها فقر بالدم وإعياء شديد، وقد أكدت والدتها أن المدرسة قامت بتحويل الفتيات المتنمرات للمرشدة التربوية والتي بدورها لم تكن قادرة على ردعهن مما اضطرها إلى نقل ابنتها من المدرسة حفاظاً على سلامتها وصحتها النفسية والجسدية.
ترى البرغوثي أن المدرسة هي الجهة الأولى المسؤولة عن التنمر داخلها وخارجها، حيث يتم ذلك من خلال التواصل مع المعنيين فيها من إدارة وإرشاد، حيث أن حالات التنمر خارج المدرسة هو امتداد للتنمر داخلها، والذي بالتالي لم تتم معالجته بطريقة صحيحة للحد منه من خلال إيجاد مناخ إيجابي وتعزيز الصحة النفسية للطلبة وغرس القيم الإيجابية كمشاعر التعاطف والود والصداقة والقيادة وتنظيم الانفعالات وكيفية توجيه القوة والسلطة في مكانها الصحيح، والذي يستلزم بدوره تهيئة المدرسة والمعلمين والمرشدين والعمل مع الأهالي وتظافر الجهود لحل هذه المشكلة التي تمتد آثارها للمجتمع.
ويعتقد الشواقفة أن "عدم وضوح تعليمات الانضباط الطلابي هو أحد أسباب وجود التنمر كظاهرة، فأغلب الطلاب ليس لديهم معرفة بالعقوبات التي تقع عليهم في حال قيامهم بالمخالفات أياً كان شكلها، ولا يمكن إنكار حقيقة أن العقوبة تعتبر رادعاً للأغلبية، حيث أنه في الأساس يجب أن يقوم المرشد بإعطاء حصة للطلبة في بداية العام عن موضوع الانضباط الطلابي وتعليماته، وكذلك الشأن مع الأهالي، مشيراً إلى أنه لا يصحّ أن نعاقب الطالب في حال أساء السلوك وقام بالتنمر ما لم يكن على دراية بالعقوبة.
وترى عدوان أنه بالرغم من أن البرامج الإرشادية المصممة بأفضل الاستراتيجيات والأساليب المعرفية والسلوكية تلعب دورًا مهمًا في التقليل من التنمر، إلا أن الطلبة الذين يتعرضون لسلوك التنمر أو من يقومون به يحتاجون إلى خدمات علاجية تُعنى بالجانب النفسي للتعامل مع الأفكار الخاطئة للدفاع عن النفس والتعبير عن الذات التي تجعل المتنمر يهيمن ويسيطر على من هم أضعف من الناحية الجسدية أو الاجتماعية، أما الطالب المتنمر عليه من الممكن إجراء جلسات إرشادية له، تعمل على تعزيز الثقة بالنفس والمهارات الاجتماعية التي تساعده على التعامل مع المواقف المشابهة.
الآثار النفسية والتعليمية والمجتمعية
يبين استشاري الطب النفسي الدكتور عبد الرحمن مزهر أن آثار التنمر قد تستمر مع الإنسان إذا ما لم يتم علاجه، حيث قد يصل في بعض الأحيان إلى الإقدام على الانتحار.
ويشير مزهر إلى أن هنالك عدة علامات قد تمكن الأهل من الانتباه إلى وجود مشكلة لدى الطفل، كالتغير المفاجئ بالسلوك مثل العدوانية واضطراب الشهية، الخوف والعزلة واضطرابات النوم، وقد تظهر في بعض الأحيان كدمات على جسد الطفل، ومن الممكن أن يعاني الطفل من التبول الليلي والأحلام والكوابيس، وقد تظهر على الطفل أعراض الاكتئاب أو القلق، والرهاب الاجتماعي.
تقول عدوان أن آثار التنمر تكمن في أن الطالب الذي يتعرض للتنمر يعاني من مشكلات في التركيز والانتباه للمواد الدراسية لتفكيره الدائم بما يتعرض إليه، بالإضافة إلى عدم إنجاز المهمات الأكاديمية بشكل متكرر مما يؤدي إلى تدني التحصيل الأكاديمي والتي قد تصل في كثير من الأحيان إلى الرسوب.
يشير تقرير الأمم المتحدة يونسكو "ما وراء الأرقام: القضاء على العنف والتنمر في المدارس" إلى أن الأطفال الذين يتعرضون للتنمر بشكل متكرر هم أكثر عرضة بثلاث مرات تقريباً للشعور بأنهم دخلاء في المدرسة ولديهم احتمالية أكثر في التغيب عن المدرسة، كما أن لديهم نتائج تعليمية أسوأ من الأطفال الذين لا يتعرضون للتنمر، ويبين التقرير أنهم من المرجح أن يتركوا التعليم الرسمي بعد الانتهاء من المرحلة الثانوية مقارنة بغيرهم.
كما يظهر التقرير أن التنمر له تأثير كبير على الصحة العقلية للأطفال ونوعية الحياة والسلوكيات المحفوفة بالمخاطر فهم أكثر عرضة للشعور بالوحدة والتفكير بالانتحار، ويؤثر ذلك على الذكور والإناث على حد سواء ولكن بطرق مختلفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون