شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
رجال الظل... رحلة غير آمنة داخل العقل القومي الروسي

رجال الظل... رحلة غير آمنة داخل العقل القومي الروسي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 11 أكتوبر 202211:19 ص

في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 2006، شعر السيد ألكسندر ليتفينينكو بإرهاق غامض من دون أسباب واضحة. بعد ثلاثة أيام، تفاقمت حالته ونُقل إلى مستشفى بارنيت في لندن، ثم تدهورت حالته، فنُقل إلى وحدة العناية المركزة في مستشفى يونيفرسيتي كولدج. مات السيد ليتفينينكو بعدها بأيام، وتحديداً في 22 من الشهر نفسه، وكانت وفاته الغامضة تشير إلى أمر ما غير مألوف، إذ كان معارضاً روسياً يعيش في بريطانيا بعد تقديمه هنالك طلب لجوء سياسي. فما الذي حدث تحديداً؟

أثبتت التحقيقات أن وفاة السيد ليتفينينكو كانت نتيجة تسميمه بمادة البولونيوم 210 المشعة. ووفقاً للتحقيق المحفوظ في الأرشيف القومي للحكومة البريطانية، أتى التسميم والاغتيال ضمن عملية قامت بها أجهزة أمنية روسية وأشرف عليها وخطط لها السيد نيقولاي باتروشيف الذي كان وقتها رئيس ما يُعرف بجهاز الأمن الفيدرالي Federal Security Service (FSB)، والذي سيُعَيَّن لاحقاً رئيساً للمجلس الأمني الروسي. ويُعدّ باتروشيف أخطر رجال الظل الروس أو مجموعة سيلوفيك Silovik في الكرملين.

هنا، بدأ العالم ينتبه أكثر من أي وقت مضى إلى خطورة ما يُعرف بدائرة سيلوفيك، أو دائرة القوميين الأمنيين الذين يحيطون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويشكلون التوجه القومي الروسي في دوائر صنع القرار في الكرملين.

وسيلوفيك مجموعة من الموظفين القوميين القادمين من أجهزة أمنية روسية تقليدية، مثل بوتين نفسه، القادم من الـ"كي جي بي"، ولديهم عقيدة سياسية قومية ترى أن روسيا يجب أن تُعامَل كقوة عظمى، وأنها هدف لمؤامرة غربية تهدف إلى تفكيكها، وأن عليها أن تتخذ أي إجراء ممكن لتفكيك مؤامرات الغرب، بما في ذلك قتل الصحافيين والمعارضين في الخارج والداخل، وضم أراضٍ من دول مجاورة أو التلويح بما هو أخطر، أي التلويح بسيناريو هرمغدون، أو معركة نهاية العالم، وهو استخدام الأسلحة النووية ضد الغرب وحلفائه.

بخلاف باتروشيف، يظهر من هذه الدائرة على قمة هرم السلطة كل من وزير الدفاع الحالي سيرغي شويغو، ورئيس جهاز الأمن الفيدرالي الحالي ألكسندر بورتينكوف، ورئيس المخابرات سيرغي نارشكين، ورجل المخابرات الذي لعب دوراً حاسماً في ضم القرم إيغور جيركين.

لكن درجة تغلغل هذه المجموعة أكبر من هذه الأسماء. فبدءاً من سنة 2007، راحت هذه المجموعة الأمنية تتوسع في الدولة الروسية. يقال إنه عُيِّن ما يقارب الـ6،000 شخص يتبعون لتلك الدائرة في مفاصل الدولة، بما في ذلك المؤسسات الحكومية، والمؤسسات الاقتصادية.

ينظر السيلوفيك إلى أنفسهم على أنهم طبقة من النبلاء الجدد تتحكم في العقل الإستراتيجي الروسي، وهو التعبير نفسه الذي استخدمه باتروشيف نفسه، إذ أشار إلى أن زملاءه في FSB "لا يعملون من أجل المال. إنهم، إذا صح التعبير، طبقة النبلاء الجدد."

كيف طورت دائرة سيلوفيك عقيدة الخطر الروسية؟

جاء رجال سيلوفيك إلى الحكم بإحساس كبير بأن روسيا تحت خطر عظيم، سواء من الغرب، أو خطر التفكّك الداخلي، ورأوا أن واجبهم المقدس هو السيطرة عليها بهدف حمايتها كهدف معلن وبهدف احتكار الحكم لأطول فترة ممكنة كهدف حقيقي. وإنْ لم يكن هناك خطر، فعليهم أن يخترعوه.

نهاية تسعينيات القرن الماضي كانت البداية. سنة 1999، حذّر بوتين من أخطار تواجه روسيا وتهدف إلى تفكيكها من الداخل، ودعا في مقال نشره إلى الاعتماد على ما عرّفه بالدولتية (Statism)، كأيديولوجيا فعالة لمواجهة هذا الخطر، أي الاعتماد على مؤسسات الدولة في قيادة المجتمع وقيادة شعبها.

السيلوفيك مجموعة من الموظفين القوميين القادمين من أجهزة أمنية روسية تقليدية، لديهم عقيدة سياسية قومية ترى أن روسيا يجب أن تُعامل كقوة عظمى، وأنها هدف لمؤامرة غربية تهدف إلى تفكيكها

يبدو أن روسيا كانت على موعد مع بداية عملية إحياء التقاليد الاستبدادية التاريخية التي تعرّضت لهزة كبيرة إبان حكم الرئيس بوريس يلتسين. كانت الدولتية غطاءً أيديولوجياً خطيراً لمستقبل التلاعب بالديمقراطية في روسيا، وتكمن خطورته في جذبه قطاعات كبيرة من الروس المتعاطفين ثقافياً مع التقاليد الأوتوقراطية القديمة. ببساطة، كان بوتين يعني بالدولتية المزيد من سيطرة الدولة على المجتمع، والمزيد من الاستبداد والاعتماد على رجال الأجهزة الأمنية في الحكم، أو بعبارة بينيتو موسوليني: "كل شيء داخل الدولة، لا شيء ضد الدولة، لا شيء خارج الدولة."

أخذ رجال الدولتية الروسية يصيغون عقيدةً معاديةً للديمقراطية الليبرالية تدريجياً، وكان هدفهم حماية العقيدة الروسية الجديدة والحفاظ على حالة احتكار الحكم من أي توجهات ديمقراطية. استهدف رجال سيلوفيك التوجهات الديمقراطية في كل مكان، ووُصم كل مطلب شعبي في أي مكان في العالم بأنه أجندة غربية تهدف إلى تقويض أمن الدول.

في الوقت نفسه، وفي ظل خطاب معادٍ للغرب كخصم يهدف إلى تفكيك روسيا كدولة وكثقافة، بدأت الإستراتيجية الروسية بالسيطرة على مجتمع الأعمال لخلق ما يمكن أن نسميه الأوليغارشية الموالية، أو رجال أعمال النظام.

عام 2005، ظهر كتاب بعنوان "مشروع روسيا"، لمؤلفين غير محددين، على الموقع الإلكتروني الرسمي لإحدى منظمات قدامى ضباط الأمن. يصف الكتاب الدور الذي لعبه الحرس القديم في الـKGB، في اختيار رواد الأعمال من الوطنيين الشباب للسيطرة على الاقتصاد الوطني وحمايته. هذه المجموعة من رجال الأعمال الشباب سيصبحون معروفين في ما بعد باسم الأوليغارشية الروسية. كان الهدف المعلن حماية الاقتصاد من السيطرة الخارجية، لكن الهدف الحقيقي كان فرض سيطرة أجهزة الدولة ممثلةً في رجال الظل على الاقتصاد والتحكم فيه والتحكم في مخرجاته وتحويله إلى مساحة لمكافأة الموالين وللتأثير في السياسات العالمية لاحقاً، أو خلق رأسمالية موالية للأجهزة الأمنية أو حتى مملوكة منها.

يبدو أننا أمام خطة ستكون محل إعجاب كثيرين وسيطبّقها آخرون في دول أخرى في ما بعد.

انفجار الروح العدائية

انفجرت الروح العدائية لرجال الظل القوميين في ما بعد، إذ وقعوا هم أنفسهم ضحايا الأساطير المؤسسة لعقيدتهم. فتحت تأثير الهاجس الأمني المسيطر، كانت لدى رجال دائرة سيلوفيك رغبة شديدة في إعادة هيبة روسيا كقوة عظمى لها مناطق نفوذ محرّمة. شجعهم على ذلك نجاح تكتيكات الأرض المحروقة في الشيشان التي واكبتها عمليات أمنية ومخابراتية استطاعت أن تحوّل الصراع من صراع روسي-شيشاني إلى صراع شيشاني-شيشاني، وذلك بعد الاختراق المخابراتي للمقاومة الشيشانية، واستغلال الخلاف السلفي الصوفي في دعم رمضان قديروف كحاكم ورجل لموسكو في الشيشان. سيتحول رمضان نفسه في ما بعد إلى أحد رجال الظل المؤثرين في دائرة بوتين الضيقة.

"السياسة أخطر من أن نتركها في يد رجال الأمن والمخابرات، لأنهم في الغالب، ولكي يحكموا، يجب أن يحولوا الهواجس إلى حقائق، حتى لو اخترعوا هذه الحقائق من العدم"

استلهمت الدائرة الأمنية الحاكمة نجاحات الشيشان في عمليات عسكرية في جورجيا وفي تسوية الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، وبدرجات متفاوتة في التدخل في تسويات أمنية في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، مثل التدخل في كازاخستان.

لكن النجاح العسكري في سوريا كان أحد أهم نقاط التحول. كان خروج القوة العسكرية الروسية إلى ما وراء مناطق النفوذ التقليدية، ونجاحها في سوريا، نقطةً فاصلةً في العقيدة الأمنية الروسية. اقتنع رجال الظل بأنهم استعادوا دورهم كقوة عسكرية عظمى لها دور عالمي يخرج حتى من محيط نفوذها الجيو-سياسي. لكن نظراً إلى طبيعة الحرب الأهلية في سوريا، وعدم وجود قوة عسكرية معادية منظمة على الأرض، لم تجد العسكرية الروسية صعوبةً كبيرةً في تأمين انتصار سريع، لكن خادع. كانت سوريا بمثابة الفخ الذي أغرى رجال الظل الروس وبوتين نفسه للدخول في المغامرة الأوكرانية.

التجربة الأوكرانية تقدّم الإجابة

أصرّ بوتين والدائرة المحيطة به على تسمية الحرب في أوكرانيا عمليةً عسكريةً بدلاً من حرب، حتى يتجنب الخوف الشعبي من الحروب. لكن دائة الحكم في روسيا، وعلى وقع المفاجأة من المقاومة الأوكرانية وإصرار الغرب على دعم أوكرانيا، وترهل القيادة العسكرية على الأرض، تضطرو إلى الدفع بالمزيد من القوات بعد الإخفاقات العسكرية الكبيرة. أعلن بوتين، وتحت ضغط من دوائر الأمن المحيطة، التعبئة الجزئية، وربما يضطر إلى إعلان التعبئة العامة. كما أن روسيا لا تتوقف عن التلويح باستخدام السلاح النووي لتحقيق أهدافها التي تتعثر في الوحل الأوكراني.

أحدثت الهزائم الروسية في الشرق الأوكراني موجةً من الغضب بين القوميين، وأحدثت صدمةً أدت للمرة الأولى إلى توجيه انتقادات علنية إلى إدارة المعركة من داخل معسكر الصقور. وسمعنا كلاماً للمرة الأولى عن احتمال خسارة الحرب إذا لم نفعل كذا وكذا.

يبدو أن أوكرانيا ستكون نقطةً فاصلةً في مشروع حكم الأوليغارشية الأمنية. لكن يبقى السؤال: هل يمكن أن تُحكم الدول بدوائر الأمن والمخابرات والقوة المجردة وتصل إلى نتائج أفضل؟ ربما تكون لدى أوكرانيا إجابة نهائية عن هذا السؤال، وربما يكون لنتائج هذه الحرب ما ستكشفه في قادم الأيام.

لدى الأمنيين دائماً هواجس، ويجب أن تكون لديهم هذه الهواجس بحكم طبيعة عملهم. لكن حالة روسيا تعيد علينا الحكمة التقليدية المعروفة، بأن السياسة أخطر من أن نتركها في يد رجال الأمن والمخابرات، لأنهم في الغالب، ولكي يحكموا، يجب أن يحولوا الهواجس إلى حقائق، حتى لو اخترعوا هذه الحقائق من العدم. وهنا يصبح الخطر أكبر، لا من الهواجس، لكن من الرجال الذين اخترعوها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image