شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لا ترتبط بشخص بوتين... العقيدة العسكرية الروسية في مواجهة الغرب

لا ترتبط بشخص بوتين... العقيدة العسكرية الروسية في مواجهة الغرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 1 مارس 202211:21 ص

"إن فن الحرب الأسمى هو إخضاع عدوك دون قتال" (صن تزو، "فن الحرب").

كانت لحظة تفكك الاتحاد السوفياتي هي اللحظة الفاصلة في نمو الروح القومية المضادة للغرب عند رجال الظل المتخفّين في دهاليز الأجهزة الأمنية والاستراتيجية للدولة الروسية العتيدة.

تسبب هذا السقوط بجرح في "الكبرياء القومية" لهؤلاء، جرح رسّخته تصرفات غربية لم تراعِ نمو تلك الروح القومية، بل استغلت الضعف الروسي في تحقيق مزيد من المكاسب على حساب الدب الجريح.

شعر هؤلاء بأن روسيا يتم إذلالها ويجب أن تقف مرة أخرى لتنتقم ممَّن أذلّوها. وطوّرت تلك النخبة استراتيجية إعادة الهيبة لروسيا بتبني أفكار مستقاة من نظرية الواقعية الهجومية التي طورها الأكاديمي الأمريكي جون ميرشايمر.

تطور الاستراتيجية الروسية

يرى ميرشايمر أن الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي مسؤولة عن تعزيز سلوك الدولة العدواني في السياسة الدولية. ولضمان الوجود في هذه البيئة الدولية الفوضوية، ينبغي على الدولة تطوير قوة هجومية قادرة على فرض سياساتها بالقوة، فالأمن لن يتوفر إلا بمزيد من العدوانية في البيئة الدولية ضد أي إضرار بالمصالح.

رسمت واقعية ميرشايمر العدائية ملامح التفكير الاستراتيجي لرجال الظل، أبناء مدرسة المخابرات السوفياتية KGB. وتعاظمت العدائية في الاستراتيجية الأمنية الروسية تحت إحساس النخب الأمنية بأن بلادهم تم إذلالها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتوسُّع حلف شمال الأطلسي (الناتو) في شرق أوروبا ونشره في مجال روسيا الحيوي صواريخ هجومية لم يكن يجرؤ على نشرها إبان الحقبة السوفياتية.

وسواء كان هذا الإحساس حقيقة أم مبالغة إلا أنه رسم خطوط الاشتباك في العقل الاستراتيجي الروسي لسنوات، حتى قبل وصول الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين إلى الحكم.

تبنى العقل الاستراتيجي الروسي هذه الرؤية نظرياً بداية من عام 1992 وهو العام الذي نُشر فيه ما يُعرف بمسودة العقيدة العسكرية الروسية. كانت تلك العقيدة محمّلة بأفكار أمنية تصادمية، تختلف عن اللهجة الدفاعية للعقيدة السوفياتية في ثمانينيات القرن الماضي.

بوصول بوتين إلى الحكم، وجد نفسه أمام أكبر تحدٍّ أمني. كانت سبب الأزمة الأمنية برأيه هو الفجوة بين النظرية والتطبيق، نظراً إلى الفرق الشاسع بين الإمكانيات الروسية في الأسلحة التقليدية وإمكانيات الغرب. فبين عامي 1992 و2008، كان النظام الروسي يتبنى نظرياً استراتيجية أمنية هجومية، إلا أنه كان غير قادر على تطبيقها عملياً بسبب اعتبارات مثل الحروب الداخلية في الاتحاد الروسي ذاته، والضعف الاقتصادي وعدم القدرة على مجاراة التفوق الغربي الذي ظهر في جيل جديد من الحروب، مثل حرب الخليج 1991، يعجز الروس عن مجاراتها.

وكان جيل الحروب الجديد هذا يحمل تكنولوجيا جديدة على العسكر الروسي، مثل الصواريخ الموجهة الدقيقة، ونوع جديد من القيادة والسيطرة المتقدمة تجعل القرار أكتر سرعة وفقاً لمعطيات العمليات العسكرية، ونوع جديد من الاستطلاع والتخابر يعتمد على الحروب السيبرانية والبيانات الإلكترونية.

استراتيجية صيد الغزال المتمرد

كانت سنة 2008 نقطة فاصلة في تطوير الاستراتيجية الروسية عملياً على أرض العمليات العسكرية. بدأت العسكرية الروسية في تبني بعض التكتيكات الغربية في حربها في جورجيا لمنع الأخيرة من الانضمام إلى الناتو.

بعد نجاح الحملة الروسية على جورجيا، خرج الاستراتيجيون الروس بأكثر الدروس خطورة على استقرار النظام الأمني في أوروبا. كان الدرس الأهم من تلك الحرب هو أن القوة العسكرية هي وحدها القادرة على منع الدول الصغيرة المحيطة بروسيا من الانضمام إلى الناتو، بعد عدم إصغاء الغرب لكل المطالبات الدبلوماسية بعدم التوسع.

"في كل مرة، تحاول روسيا أن تثبت جديتها ويحاول الناتو بدوره اختبار جديتها، تقع ضحية جديدة لصراع العمالقة"

يمكن أن نسمي هذه الاستراتيجية باستراتيجية اصطياد الغزال المتمرد، وتعتمد على تركيز الهجوم على دولة صغيرة في التخوم الروسية تريد أن تلتحق بركب الناتو، على أن تتم عملية الهجوم قبل التحاق تلك الدولة الفعلي بالحلف الأطلسي، بحيث لا تدخل روسيا في مواجهة أكبر مع دولة عضو في الناتو، مع ما يعنيه ذلك من مواجهة مدمرة بين قوى نووية.

تحوّل الأمر إلى سباق بين روسيا والناتو. نجح الأخير في إنجاز مهمة ضم دول البلطيق في مرحلة ضعف روسيا، لكن في مرحلة التمدد الروسي فشل في ضم جورجيا وأوكرانيا.

هل المشكلة في بوتين؟

الإجابة البسيطة المباشرة، لا. المشكلة تكمن في الروح القومية المسيطرة على قطاع عريض من الروس ومنهم المفكرون الاستراتيجيون الذين رسموا استراتيجية الانتقام منذ أوائل التسعينات.

تشكّلت هذه الاستراتيجية عبر عقود سبقت قبل وصول بوتين إلى الحكم، على خلاف ما يتصوره البعض من أنها أفكار فردية في عقل سيد الكرملين.

كان بوتين بالنسبة إلى العقل الأمني للدولة الروسية ضرورة اللحظة التاريخية. صعد من القلب الصلب للاستراتيجية الروسية. هو يعرف تماماً الأساطير المؤسسة لتلك الاستراتيجية ومتأثر تماماً بها وجاء بهدف أن ينفذ خطة إعادة الهيبة الروسية المفقودة.

وبعد نجاحات على المستوى الاقتصادي وتحسن أحوال الطبقة الوسطى الروسية التي انتعشت بعد انهيارات كبيرة في عهد الرئيس بوريس يلتسين صاحب نظرية العلاج بالصدمة، اكتسب بوتين شعبية سمحت له بأن يتصرف كقيصر، خاصة بعد النجاحات التي حققها، بأقل مجهود، في حرب الشيشان الثانية، حيث اتّبع استراتيجية تفكيك المقاومة من داخلها وتحويل الصراع إلى صراع شيشاني-شيشاني، بعد الخلاف الكبير بين السلفيين والصوفيين، ما جعله يجد ضالته في رمضان قديروف، المقاوم السابق والحليف الحالي.

بدأ بوتين في خطوته التالية لإعادة إحياء الإمبراطورية بالتمدد في المساحات التي تركها الغرب في الشرق الأوسط. حاول تقديم نفسه كقوة يمكن الاعتماد عليها في صراعات دولية وأهلية، فتمدد في شمال إفريقيا وإقليم الساحل والصحراء، وكان تدخله الأبرز في سوريا، واعتمد على الحروب الهجينة التي تختلط فيها شركاته الأمنية مع أجهزة مخابراته مع الأجهزة العسكرية والأمنية ويتلاشى فيها الفارق بين ما هو رسمي تابع للدولة وغير رسمي تابع للشركات الخاصة التي تنفّذ استراتيجية الدولة دون أن تتحمل الأعباء السياسية التي تقع على الحكومات، مما خلق مساحة تعيد تقديم روسيا كقوة عظمى من جديد.

الخلاصة

طورت روسيا واقعية هجومية صُنعت أول ما صُنعت في مراكز البحث والجامعات الأمريكية على يد أكاديميين أمريكيين مثل ميرشايمر، لكنها طورتها على طريقتها وأكدت حضورها في ثلاث مناسبات كبرى في فترة زمنية وجيزة نسبياً: الأولى هي الحرب في جورجيا عام 2008 والتي نتج عنها الاعتراف باستقلال إقليميْ أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وإفشال الخطط الجورجية من الانضمام إلى الناتو.

المناسبة الثانية كانت عملية ضم القرم، وهي كانت أراضي عثمانية احتلتها روسيا وضمتها سنة 1783 بعد الحرب مع الدولة العثمانية، ثم ألحقت بأوكرانيا بقرار إداري سوفياتي سنة 1954، قبل أن تعيد روسيا احتلالها في 2014.

والآن، يبدو أننا أمام العملية الثالثة التي تهدف إلى تقسيم أوكرانيا بشكل أكبر وشل قدراتها على الالتحاق بالناتو.

"خطة إذلال مشابهة خَلَقت من ألمانيا كياناً عدوانياً مدمراً. وإذا استمر تكرار نفس ‘الوصفة’ مع روسيا، قد نجد أنفسنا أمام سيناريو مماثل"

تبدو هذه العمليات لأي متابع على أنها سلسلة من الأفعال العدوانية التي تتزايد مع الوقت خاصة أن بوتين يتحرك في مساحات جديدة للسيطرة لكي يحقق حلمه الشخصي كقيصر روسيا الحديثة. لكن بغض النظر عن التوصيف الأخلاقي، فإن محاولة فهم الأسباب والدوافع لهذه العمليات تقودنا للوصول إلى دافع رئيسي وراءها جميعاً يظهر في كل مرة، وهو دافع الرد على الإذلال المتخيل في عقل النخب الروسية ومنع تمدد الخصم التاريخي وهو حلف الناتو الذي قام كحلف لمواجهة روسيا السوفياتية في الأساس.

حاول الناتو اختبار جدية روسيا في أكثر من مناسبة بعد ضم دول البلطيق سنة 2004 وحاولت روسيا أن ترسل رسالة مفادها أنها لن تسمح بتكرار أخطائها الكبرى. تكرر الحدث وتكرر الرد. وكأنّ روسيا ترفع كل فترة لافتة كبيرة بلون أحمر قانٍ موجهة للناتو تقول فيها بلغة واضحة ومباشرة: "ممنوع الاقتراب". وفي كل مرة، يتجاهل الناتو هذه اللافتة.

يبدو الناتو كما لو كان مصمماً على اختبار جدية روسيا في كل مرة، فيذهب في نفس المسار وتحدث نفس المواجهة على ساحة جديدة لا يتضرر منها الناتو مباشرة.

وفي كل مرة، تحاول روسيا أن تثبت جديتها ويحاول الناتو بدوره اختبار جديتها، تقع ضحية جديدة لصراع العمالقة. يدفع الضحايا ثمن الفزع التاريخي المتبادل بين روسيا والغرب. ويتشارك الضحايا في أنهم بلاد صغيرة نسبياً تحكمها نخب لا تستوعب جيداً دروس ديكتاتورية الجغرافيا.

فروسيا تشعر دائماً بانكشافها الجغرافي لأي غزو، ما يجعلها شديدة الحساسية لاستحضار الناتو على حدودها أو في مجالها الحيوي في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق... كما يشعر الناتو بنفس الفزع التاريخي من روسيا التي تشكل له أقرب منطقة تهديد على حدوده تمثل قيماً مختلفة عن قيمه واستراتيجية متعارضة مع استراتيجيته.

العملية الروسية في أوكرانيا هي تجلٍّ جديد للصراع القديم والروح العدائية التي تحكم علاقة روسيا بحلف الأطلسي، تظهر فيه أوكرانيا كساحة معركة وليست كهدف.

ظهرت الروح العدائية الروسية في ظل إحساس متنامٍ بالإذلال القومي الروسي، لذا تبدو فكرة التخلص من بوتين كحل وحيد للأزمة فكرة غير واقعية لأن الرجل وإنْ كان يمثل رأس الحربة في مشروع استعادة المجد الإمبراطوري الروسي إلا أنه ليس المشروع نفسه، فالمشروع ظهر وتطور كرد فعل على التراجع التاريخي للقومية الروسية.

لذا، فإن الحل لا يكمن فقط في ذهاب بوتين، لكن في تراجع الروح القومية الروسية المتطرفة وتفكيك سرديتها التي تدور حول فكرة أن الغرب يستهدف تدمير روسيا وإنهاء وجودها... وهو أمر لا يمكن أن يتم عن طريق مزيد من إذلال روسيا كما يتصور كل من الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، بل عبر مزيد من التفاهمات والتطمينات والاستجابة لهواجس روسيا الأمنية بدلاً من تجاهلها.

فخطة إذلال مشابهة خلقت من ألمانيا كياناً عدوانياً مدمراً. وإذا استمر تكرار نفس "الوصفة" مع روسيا، قد نجد أنفسنا أمام سيناريو مماثل، حتى لو ذهب بوتين. فمرارة الهزيمة تتوارثها الأجيال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image