قديماً قال سقراط: "اعرفْ نفسك"، ولو أمعنا النظر، فإن ما يبدو للوهلة الأولى داعياً للحيرة في قول سقراط، يتجلى لنا واضحاً؛ فذات الإنسان مركبة، وهي مزيج متنوع من شخصيات وتركيبات كثيرة ومتناسلة، نربيها داخلنا بلا توقف، وما نحن إلا حصيلة تفاعلها المستمر والدؤوب، وهذه المعرفة ليست بالسهولة بمكان، وتحتاج القوةَ والصدقَ والقدرةَ على مواجهة الذات. بينما تتعزز الحاجة لذلك لنتقن بناء الجسور بين الداخل و الخارج. و كلما ازداد ارتقاءُ الإنسان المعرفيُّ، تنوعت أدواته في سبر الداخل كما المحيط. فهل يستطيع أيٌّ منا استحضارَ أنواته إلى طاولة الجلوس والحوار معها؟ وكم هي شاقة تلك المهمة وخطيرة؟
هذا ما يفعله البطل في رواية "وصية هابيل" لشربل داغر، ليقودنا إلى اللقاء بعوالمه الداخلية، عبر ذكرياته واستحضارها، مستنداً إلى حواره مع الذات في أكثر من لبوس، ورافداً الحوار بآراء أشخاص عاشوا معه مراحل وحالات متعددة. في أسلوب فريد وشيق، فالرواية كلّها، وعلى مدار 337 صفحة، تتمّ عبر حوار مستمر بين البطل شربل داغر وبين شخوصه التي تشاركه الحوار بشكل متناوب، وفي رحلة تقصٍّ لسيرةِ البطل الذي يحمل اسم الكاتب نفسه، ويعيشها معه في غالبها. لكنه يفارقه في بعض الأحداث، وهي ما يقول عنها الدكتور شربل في حديث خاص عن الرواية "أنها أحداث مختلقة لتقوية السرد"، ولعلها أيضاً بغرض إثارة التشويق، لا سيما أنها الرواية الأولى له، وقد صدرت عن دار الريس عام 2008.
بين الأكاديمي والإنسان
يبدأ الحوار–الرواية بسؤالِ البطل عن علاقته بمؤلف "فتات البياض"، وهي المجموعة الشعرية الأولى للكاتب، ثم الكتب الأخرى، ليوجه أنظارَنا منذ البداية إلى مسارِ الرواية، مسلطاً الضوءَ على البقعة التي يجلس فيها الكاتبُ البطل، ليشاركه القراءُ بحثَه عن المقياس الفني الخفي الذي ينشده الكاتب السارد لرسم الصورة المجسمة بين الأكاديمي الدكتور شربل والإنسان.
كلما ازداد ارتقاء الإنسان المعرفي، تنوعت أدواتُه في سبرِ الداخل، كما المحيط. فهل يستطيع أيٌّ منا استحضار أنواته إلى طاولة الجلوس والحوار معها؟ وكم هي شاقة تلك المهمة وخطيرة!
ثم تتوالى الأسئلة في اللقاءات، مع الوسط العائلي والاجتماعي، بدءاً من بيت أخيه إلى الجيران، ثم رفاق المدرسة وناظر المدرسة، ليضع كلٌّ منهم شهادته، سواءً عايش داغر أو سمع عنه. فابنة أخيه لا تعرف سوى ما وصلها، وتتساءل عن بعده عن العائلة، مفترضةً وجودَ سرٍّ مؤلمٍ يمنعه من التواصل مع بيئته الأولى، العائلة، التي غادرها في سعيه لاجتراح حياته، وطريقه المعرفي، وإنجازه.
وهنا نرى، برغم هذا الابتعاد، تمسُّكَه بحصّتِه من ميراث البيت، إذ يختار القبوَ، وهو بيت الجدِّ الخرب والمهجور، وهي تركة ليست بقيمة مادية، كما يخبرنا، إنما إشارة لعدم مفارقة المكان والبيئة زمنياً؛ لقد تمسك بالقديم الجميل، وقام بإصلاحه، وجعله صالحاً للسكن، إذ اختفت العقارب والأفاعي منه، وأصبح مكاناً مريحاً وآهلاً بالحياة، ولعلّ هذا ما يلتقي مع مشروعه الأكاديمي، حيث يؤثث لثقافةٍ مغايرة تنفض عن تراثنا ما علق به من عوالق مسيئة، وتمنحه حياةً متجددة.
الطفولة والمراهقة والعلاقة مع الأنثى
يعود شربل إلى يوميات الطفولة، وبداية الوعي، والتذكر، واللهو، ثم المدرسة بما حملته من عذاباتٍ بسبب المشاهدات التي كانت تحاصره بالألم، كالفلق، وهو أسلوبُ عقابٍ كان متبعاً بضرب باطن القدم بالعصا، وعلى قدر ألم ذلك، يخبرنا أن ما كان يخيفه أكثر ويقلقه أن تُعرّى قدماه، فيُكشف أمرُ جواربه المثقوبة علناً، ولكن هذا لم يمنعه من التفوق الدراسي.
وهذا جعل أهله يتفهمون خصوصيته، ويرسلونه إلى الدّير، إيماناً منهم بأن تميزَ شخصيتِه إن هو إلا دعوة غامضة لحياة الرهبنة، إضافة إلى حادثة الطيران التي التصقت به، فقد رمته الزوبعةُ من مكان إلى آخر حين كان طفلاً، وفهم أهلُه ذلك أنها بشارةُ قدرةٍ خارقة له على الطيران.
يقودنا بطل رواية "وصية هابيل" لشربل داغر إلى اللقاء بعوالمه الداخلية عبر ذكرياته واستحضارها، مستنداً إلى حواره مع الذات، رافداً الحوار بآراء أشخاص عاشوا معه مراحلَ وحالاتٍ متعددةً
في الحقيقة كان الالتحاق بالدّير سبيلاً للعامة، لتحصيل مكانة اجتماعية مميزة. لكنه لم يطق الحياة هناك، على الرغم من أن الديرَ قدّم له معرفةً لم تكن متاحةً خارجَه. يعترف أمام الآخر (محاوره) كما كان يعترف أمام الكاهن، عن السبب الحقيقي لمغادرته الدّيرَ، وهو ليس اكتشافه للحياة الخلفية التي تجري هناك، بل الأهم إدراكه أن هذا ليس مكانَه، وأن الحياة تناديه في الخارج، وأن لا طاقة له لتحمل الحرمان منها ومن مُتَعِها، ولا تقبُّل تلك القسوة في الحرمان.
وهو دقيق في ذلك؛ فإما أن يكون صافياً في دعوته، وإما أن يغادر، كاشفاً صعوبة الحياة لمن يُدفع إلى اختيار طريق دون رغبة أو قناعة، وهو إذ يكشف سرَّ مغادرتِه الديرَ للآخر المحاور، يخبرنا عن تأثير ذلك عليه، فيقول:
"ماذا عن الطعم المُرّ في الحلق؟ وهو ما يتولد أثناء الجريان مما يسري في مياه جوفية مما يسبق شفاهي ويتخللها". إنها كانت تجربة قاسية على المراهق، لكنها انتهت بمصالحة مع الوالد، والذي يقول عنه إنه ابنه بالصدفة، ويصوره دائمَ القلق والتوترِ والهمِّ، عصبياً وكتوماً صامتاً ومدخناً، إلا أن إذعانه لرغبة ابنه بترك الدّيرِ وتفهُّمه أعادت إحساس الأبوة بينهما إلى الجريان.
"الحكاية كنزة والكنزة حكاية" وتقول أخته: كان يقول لأمي إنها تكتب بصنارتين"
يتابع بعدها استدراج رفاقه في حوارات ثانوية للحديث عن بطله، ومغامرات المدرسة الثانوية، واكتشاف العالم، والكثير من اللهو الطفولي والمراهق والمجون، وثمّ الانخراط بالعمل السياسي عفوياً، واكتشاف اللعبة السياسية لاحقاً، في جوٍّ مشحونٍ سياسياً ونفسياً باقتحام الخطر وإثبات الذات، بما فيها من روح الشباب الحارة والمندفعة دون قيود.
حتى دعا إلى الإضراب تنديداً باغتيال كميل شمعون آنذاك، برغم أنه لا ينتمي لتياره السياسي، إلا أن ذلك كان تنديداً بالاغتيال ذاته كمنهج، وذلك حرصاً على الديمقراطية. كما يروي حادثة تأسيس جبهة التحرير في المدرسة على لسان الناظر الذي كان يتفهم قوة اندفاع الشباب ويتعاطف معهم أما الجبهة فكانت أولا نتيجة التبرم من منهاج الدراسة وليس بسبب مواقف سياسية .
تبقى الأنثى في الظل أثناء ذلك، فعلاقات البطل مع الأنثى كانت تتركز على الألعاب الجنسية الطفولية واكتشاف الجسد، وكان واضحاً وقوع القرينات تحت تأثير أسلوبه الخاص وجرأته، لكن ذلك لم يتعدّ اللهو الماجن الذي ينقضي كما ألعاب الطفولة. يقول البطل: "كنت أبحث دوماً عن البنت واللعب الجنسي معها. ثم يعترف: "كنت قاسياً. ما كنت ألاعبهن بقدر ما أغتصبهن".
" كنت أبحث دوماً عن البنت واللعب الجنسي معها". ثم يعترف: "كنت قاسياً. ما كنت ألاعبهن بقدر ما أغتصبهن"
لكن المرأة كانت حاضرة في ظل حياته، راعية لها، ما لم يبح مباشرة به؛فالأخت التي كان يقول إنها تمسك بيده ليعبر دائماً، والعبور هنا مجازي، فقد كانت سنده، ورفقتها سهلت عليه اكتشاف الحياة غير مرة. أما الأم الحانية والمتنحية عن التأثير المباشر فلطالما تعلم منها وهو يمسك كرات الصوف لها ويراقبها تحيك كنزات الصوف موازياً ذلك بما يفعل، إذ يحيك خيوط الروي في السرد ممسكاً بصنارتيه الوهميتين: "فالحكاية كنزة والكنزة حكاية". وتقول أخته: "كان يقول لأمي إنها تكتب بصنارتين".
لقد كانت الأم حاضرة لدرجة أنه يستعيد الإحساس بكثافة كيانها وحضورها: "أكاد ألمسها بمجرد ذكرها". يا لهذه الصورة، إذ يتكثف الإحساس والحضور النفسي إلى حضور مادي يفرض سلطته رغم أنه متخيل.
القرية والطرق الملتوية
يقول صديقه إن الدروب الملتوية في المدينة كانت تغري البطل للضياع فيها فقد كان يسير بعيني بصاص. إنها روح الأديب الذي يختزن الصور ويوثقها في رأسه مؤثثاً ذاكرته الخاصة التي ترى ما لا يراه غيره، حتى اعتقد أهل الحي القديم أنه أجنبي. ثم ينتقل إلى دروب القرية وجغرافيتها الخاصة، وتلك الصخور التي تبدو منحوتة في مجرى النهر والوادي وكأنها معبودات قديمة، وقد اختار منها منحوتة على شكل إجاصة. وجمال وصفه للصخور يشابه جمال الوصف للدروب الملتوية والمتعرجة في القرية ونزهاته فيها مع الأصدقاء، كأنها دروب الحياة المتشعبة. يقول: "كنا نشعر أننا نكبر ونقترب من عمر الرشد ومن تدبر مصائر ووجهات لنا وما يحيط بنا بمجرد المشي فيها".
دروب قادتْه عفواً للمشاركة في تظاهرة عام 1969، ويعود سيراً في الطريق الحافلة بآثار الدماء، مما أثر في تحديد هويته في ما بعد.
يعود بعد ذلك مع محاوره إلى جغرافية القرية، وما نالها من تغير عبر الزمن، وما تركه عبور الحضارة الخفيف من أثر عليها، في تذكر المكان والأحداث المرتبطة بهذه الجغرافية، ليرسم صورة الماضي بما حوته من أحداث ونقلات وذكريات وعلاقات رسمت الخطوط الأولى للشخصية وإن فارقتها في ما بعد، واختطت فوقها خطوطاً جديدة أكثر تشابكاً ودقةً.
وهو إذ يعود لتلك الصورة يحاول التأكد منها، ويكتشف ما غاب عن وعيه ليتبناه ويثبته، فيعدل الصورة، وقد يكشف عن أخرى مرتبطة معها. هكذا تتداعى الصور إلى ذهنه بقوة, مستحضراً ذهنية الصحافي المتحقق في تداع حر يتقاطع مع ذاكرة الشهود الرفاق والعائلة، ليواشج بين المعطيات، راسماً فترة مهمة من سيرة البطل.
وهو هنا لا يبتعد عن القول الذي صرح به بأنه يعمل في خدمة شربل داغر، مشيراً لهذا التفارق بين الشخص والصفة والمكانة التي تشكلت عبر السنين من العمل.
فداغر الشخصية العامة والأكاديمية تعرف ما تريد وتنتقي الألفاظ، وتغلق جملتها على وجهة أكيدة ومؤثرة، معتنياً بكفاءته الكتابية، على خلاف الآخر الإنسان المتردد الذي يرغب بالتوقف والتمهل والتأني والتأمل ليتأكد أكثر. وما بين هذا وذاك يشكل الحنين التيمةَ الأغزر. إنه الحنين للمكان والتفاصيل المعاشة، للهواء والخطوات والنهر واللقاءات.
ويبرر هذا الحنين بدافع الاعتزاز بالمكانة المتحققة، والتي وصلها بعد تغيير جغرافية الحياة التالية، التي عارك فيها معطيات جديدة يصمت عنها في الرواية، وقد كان معروفاً عنه انقطاعه لفترات عن الكلام، ودخوله حالاتٍ صمت متقطعة في عيشه، مفارقاً بذلك فكرة المحبسة والحبساء. حيث كان يلجأ بعض الرهبان إلى تلك المحبسة في القرية لاستكمال انقطاعهم عن الدنيا، بغيةَ التعمق اكثر في عباداتهم. فهو يعترف أنه يستسيغ ملذات الحياة، ولا يرغب بالابتعاد عنها، لكن هذا لم يمنعه من متعة الانقطاع بين حين وآخر، والانصراف للصمت المتأمل، وهذا ما سماه محاوره بالمحبسة الفردية. يعترف داغر البطل: "ساورني الاعتقاد طويلاً أنني اعيش خارج نفسي متعلقاً بغيري بل إن غيري يملي عليَّ ما يجب فعله".
ولهذا كان دائم البحث عن سبيل للولوج إلى نفسه كما بيت مؤثث وأليف عبر الصمت والتأمل، وهذا البحث ما هو إلا حالة اغتراب عن المحيط. وهذا ما يجيب عن تساؤل ابنة أخيه حول ابتعاده عن العائلة، بينما دفع أهله للاعتقاد بامتلاكه دعوة خاصة مختارة للرهبنة كالصوفيين.
وهذا البحث ما تبدى لداغر بعد عمر طويل بالحاجة للسرد، فهو يقول إنه يحتاج إلى الكلام للتحقق من داخله، ومما يوجعه، ومن رسم الصورة التي غيبها الزمن، فبات الماضي غائماً، ولعله استحضر لذلك الآخر مدير الحوار المرآة التي ترى كلّ شيء، فتستفز وتستنطق السارد الكاتب في ما يخفيه في محاولة الحفاظ على أناقة الصورة وتهذيبها العام.
وهو إذ يستفيض في استفزاز جوانية البطل يستوقف القراء بجمال السرد، وفي مواضع شتى، فالحوار غني بالمقاطع الأدبية العالية.
يستعيد البطل تلك الأيام وكأن الكاتب يستعيد حياتها معه، وبوعي التأثر بها وما تركته في داخله، لعله الجزء الحقيقي من السيرة، فيغدو الإحساس بالزمن ثقيلاً، والسرد مؤلماً وموجعاً يحمل في ثناياه الندم والحسرة. وهذا يعيدنا لقول شربل في حديث خاص إن هناك: "في وقت من عمري نقمت على الطفل والولد الذي كنته". وها هو يقول في الصفحة 210: "هي مما بكيت من دون أن اقوى على قوله... مما بكيت لكي أنتهي إلى قوله كما قلته".
وهذه المرارة التي في بوح البطل وتأثره تجعل السرد حميمياً لنواكب فيه البطل الرقيق والمختلف والساعي للتخفف من فعل الزمن، واللاهث خلف الصورة التي يرسمها الحوار، والتي لا يمكن الاكتفاء بها كصورة وجهية على حائط مسندي، بل هناك الرغبة بإظهار الصورة الحقيقية الضاجة بالأحاسيس والمشاعر وبين الصورتين. وهناك البعد الثالث للصورة يتناول ما كان خافياً وما بقي خافياً في تجنبه الآخر دوماً. فالآخر غائم الملامح كخيال مترجم يوثق البوح. يقول داغر: "هو حواري إذاً ولكن بواسطتك".
مهارة داغر في إدارة الحوار بين البطل والآخر، الذات المنفصلة، نفس المهارة التي استخدمها في إدارة حواراته مع آخرين، ومحققاً تلك اللذة في أسلوب الرواية، حيث يعتمد على الكاتب السارد مقارباً فارس شدياق في روايته "الساق على الساق في ما هو الفارياق)"، وهي أيضاً سيرة ذاتية في رواية. شدياق الذي كان مجدداً ومبتكراً في وجوه الأدب المختلفة رغم قسوة ظروفه. يقول داغر: "ربما هذا أحد اسباب التقارب بيننا فما يشدني إلى شدياق هو جراأه في قول ما لم يقله غيره في زمنه".
يقوم الكاتب بدور المخرج أو كما يقول مدير الإضاءة الذي يسلط بقعة الضوء على أمور بعينها مضيئاً لحظات خاصة. ومستخدماً فكرة التكالم الذي يستدعي وجود طرفين أكيدين معلنين، تتلاشى المسافة بينهما أحياناً، لكنه يعود بإصرار لتثبيت هذه المسافة للاستمرار في لعبة التمرين الكتابي، فتارة يختفي الآخر ليظهر بديله، وتارة يعود للظهور مراهناً برغم خسارته عائد الكلام الاجتماعي (بالاعترافات) على استحواذ متعة التنقل بين الشخصيات وما بينها من حوار، كأنما ذلك يشبه خلع الأقنعة في حفل تنكري، معللاً عدم لجوئه إلى اسمٍ مستعار بالخوف من سطوة الاسم على الشخصية الحقيقية، كما حدث مع أدونيس تلك الخشية المبهمة في ارتباك التلمس لاضطراب النفس إذ تتخفف من أثقالها.
في كل إنسان هناك قابيل وهابيل في تركيبته المتعددة المكونات، والعبرة في اختيار من يعيش منهما ويتمدد في شخصية الإنسان
بينما نتلمس بلا شك اللعب اللغوي في الحوار، ولأن الكلام يحيي، فقد أحيا السارد الكتابي ما في نفس بطله، لكنه في النهاية يقول: كل ذلك لا يساوي متعة الخروج إلى العالم محلقاً كما طائرة من ورق في السماء ولهذا ما زال يغذ السير وما زال يهوى المشي.
هابيل أم قابيل
يسير الحوار بين البطل والآخر تارة بتؤدة، وتارة يتصاعد في مناكفة التكالم بينهما واستفزاز أحد الطرفين للآخر حتى يلجآ أحياناً إلى أسلوب الرسائل الالكترونية، يأخذ الآخر دور المحقق حيناً، فيبدو الحوار استجواباً، ويكون حيناً آخر البصاص ليغدو الحوار تخففاً حميماً، وليبدو المتحاوران شريكين حقيقيين حتى يطالب الآخر بوضع اسمه على الغلاف كشريك في التأليف معلناً أنه لطالما كان شريك داغر في عمله، لكنه بقي الظل ولعله الظل ذاته.
تبدو عملية استحضار الآخر للحوار وانفصاله عن الذات، كالتوأمة، وهنا يعيدنا داغر إلى الأخوين قابيل وهابيل، ومحاولة قول ما لم يصلنا في جريان التخيل، في حوار فكري شيق، عن قصة الأخوة وقصة القتل الحادثة، الجريمة الأولى في التاريخ، عبر قراءته للأسطورة وما سردته التوراة عن ذلك، ومن ثم القرآن في قضية قتل الأخ لأخيه محللاً شخصية الأخين والغاية الأخلاقية من فعل القتل وتفسيرها، استناداً إلى منطقه المعرفي، فهو يرى أن القتل حدث فعلاً للأخ أو النظير الراعي والذي لم يؤسس أبعادَ وجوده بالعمل، بينما قابيل كان مزارعاً تعبَ وكدّ وحرث وبنى الحضارة في ما بعد، فالغلبة كانت للآدمي على الهمجي الأهبل، إذ يعيدنا إلى الجذر اللغوي لاسم هابيل، والذي قد يلتقي بالهبل أو الأبله، إذ تجري المحاورة بين قابيل وهابيل، وعلى لسان داغر وضميره لنرى أن الأخين يجتمعان في واحد كما يجتمع الخير والشر في الإنسان، وكما تجتمع الشخصيات المتعددة في ذاتنا ، أو كما يتنحى الجهل أمام المعرفة .
فلا تبعة لفعل القتل أو ثأره، بل هي الضرورة في التخلي وقطع الخيوط مع فعل البداءة للسير في بناء المجتمع، فقابيل آدم البشري الذي لم يذكر أحد عمره من السنين، سواءً في الكتب الدينية أو القصص، وذلك لاستمراره الأبدي في النوع.
هناك ما يموت في كل منا في طريقنا الصاعد درب الحياة، لكنه يشير إلى بقاء ذلك العبء الذي يثقل كاهل النوع، عبء الفعل الغريب عن ارتقائه الإنساني؛ عبء القتل، مفسراً كيف يرافق الإنسان ذلك الجنوح إلى الندم والشعور بالذنب على مرّ التاريخ، مستفزاً دفاع هابيل المغلوب على أمره والمسلم للضرورة مصيره لأخيه من أجل السير بلا تردد في خط اجتراح الحضارة والحياة.
في كل اإنسان هناك قابيل وهابيل في تركيبته المتعددة المكونات، والعبرة في اختيار من يعيش منهما، ويتمدد في شخصية الإنسان. لكن فعل القتل بقي في داخله كأنما الرصاصة التي قتلت هابيل مجازاً، فبقيت في صدر الأخ القاتل للضرورة ذاتها. ها هو يتلمس موقعها في صدره منذ البدء.
هل يعيدنا الكاتب داغر هنا إلى بداية التحول في شخصية البطل داغر أو خروجه الكبير من الضيق إلى التأسيس، ومن الفوضى إلى المشروع الذاتي والطريق الذي رسمه لنفسه، وذلك عقب التظاهرة الأولى في الثانوية وهو يرى هراوات الشرطة على رؤوس الطلاب التي كانت الضربة الموقظة لوعيه، إذ انكفأ مع رفاقه، هارباً من مواجهة القوة الغاشمة للسلطة، وكأنه في هروبه هذا هابيلُ الذي لا حول له ولا قوة، بينما سلطة قابيل تكتب ظفرها. أم انه يوازي الفعل في كل الحروب الأهلية، حيث الشعب هو القاتل والقتيل، ويتحتم عليه تلمس الرصاصة في صدره من أجل المصالحة والخروج بالصورة المنزهة عن الإثم القديم.
في النهاية كان الحوار على ما أثقله الاعتراف والفكر خارج المسالة الذاتية ليقول البطل صريحاً: لقد أتعبتني! مكملاً طريقه بذات التعب والألم، مثيراً خلفه زوابع الأسئلة لدى القراء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين