شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
هكذا تحولت ليبيا بعد القذافي إلى دولة مذهبية

هكذا تحولت ليبيا بعد القذافي إلى دولة مذهبية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتنوّع

الأحد 9 أكتوبر 202205:28 م

مع وفاة العقيد الليبي معمر القذافي، بدأت تتضح معالم تحول ليبيا من دولة معادية لمفهوم المذهب الديني، إلى دولة تنحاز لتبني خطاب مذهبي سلفي يعادي الجميع تقريباً، حتى نفسه في كثير الحالات، لتمر البلاد بمراحل انقلاب ديني لا على النظام فقط، بل وعلى المجتمع الليبي ذاته.

لأكثر من أربع عقود، تبنى النظام الليبي خطاباً دينياً يرفض الاعتراف بوجود طائفية دينية في البلاد، فأعلن القذافي ليبيا "دولة بدون مذهب"، عبر تكريس فكرة "القرآن شريعة المجتمع"، وذلك رغم رصيد تاريخي ومجتمعي يقر بوجود ثلاث مدارس إسلامية كلامية متجذرة في تراث الليبيين وهذه الفرق أو الطوائف هي:

المعتزلة، عبر جذورهم المتأصلة في عقيدة المذهب "الإباضي"، في جوانب تصل حد التطابق كمسائل الصفات وخلق القرآن والرؤية يوم القيامة وإنكار الشفاعة، وإثبات خلود مرتكب الكبيرة في النار. وهو المذهب الأقدم حضوراً في شمال إفريقيا كاملةً، مع نشوء الدولة الرستمية 776 م، رغم أن منبعه في البصرة التي لم يعد له فيها ولا في عموم العراق وجودٌ اليوم نظرياً.

إلا أن المذهب بقي متواجداً في مناطق الناطقين بالأمازيغية – في عموم شمال إفريقيا في المجمل - كامتداد لحالة الممانعة البربرية في اتباع مذهب الدولة منذ زمن دوناتوس، رجل الدين المسيحي الأمازيغي الذي قاد ثورة ضد الرومان، وحول المقاومة العسكرية إلى دينية، لتقليص نفوذ المذهب الكاثوليكي.

مع وفاة العقيد الليبي معمر القذافي، بدأت تتضح معالم تحول ليبيا من دولة معادية لمفهوم المذهب الديني، إلى دولة تنحاز لتبني خطاب مذهبي سلفي يعادي الجميع تقريباً، حتى نفسه

ليتحول مذهب الإباضية إلى مذهب الممانعة الشعبية سياسياً، وهو أمرٌ جلي في مسألة فقهية كإنكار قرشية الحاكم، وجواز الخروج على الحكومة المستبدة والمتغلبة، ومنها كان الوصف السياسي للمذهب بأنه مذهب "خوارج"، كحال التوصيف السياسي للسنة والشيعة بعضهما البعض أنهما مذاهب نواصب وروافض.

إذ بعد دخول الليبيين إلى الإسلام كانت الإباضية أول مذهب اتبع حينها، فكانت مزاتة، هوارة، زناتة، ضريسة، زواغة ونفوسة كلها إباضية.

وكان للإباضية على امتداد تاريخ ليبيا وجودٌ راسخٌ شرقاُ وغرباً عبر أعلام كثر، مثل ابن مقيطر الجناوني الذي يقال أنه هو من أدخل المذهب إلى ليبيا وإسماعيل الجيطالي ويوسف اللواتي، وأبوموسى الطرميسي وغيرهم كثر.

وظلت بلاد سرت إقليماً تابعاً للدولة الرستمية الإباضية على عهد الإمام الإباضي عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم 823 - 824 م، كما استمر أهل طرابلس في تلقين المذهب الإباضي خلال نهاية القرن التاسع الميلادي.

بل أن هنالك أعلام إباضية ليبيون كان لهم امتداد خارج ليبيا نفسها، منهم علي بن يخلف التيمجاري، الذي أدخل الإسلام إلى مالي وصولاً إلى غانا 1179م، وسليمان الباروني الذي يشكل رقماً مهماً في الثقافة العُمانية إلى يومنا هذا.

بالإضافة إلى ذلك كان للإباضية كما يقول الجيطالي في كتابه "قناطر الخيرات"، نظام أطلق عليه اسم نظام "العزابة"، والذي أسس له العالم الأباضي الليبي أبو عبد الله الفرسطائي النفوسي 1049م، والذي درس الأوضاع العرفية التي كانت تحكم المجتمع الإباضي مستنداً إلى تشريعات الإسلام، فوضع دستوراً يعتبر من أقدم القوانين التي وضعت في المجتمعات الإسلامية.

كان للإباضية على امتداد تاريخ ليبيا وجودٌ راسخٌ شرقاُ وغرباً عبر أعلام كثر، مثل ابن مقيطر الجناوني الذي يقال أنه هو من أدخل المذهب إلى ليبيا وإسماعيل الجيطالي ويوسف اللواتي، وأبوموسى الطرميسي وغيرهم كثر

الملفت أن روبيرتو روبيناتشي في كتابه "العزابة" وُصِف إباضية نهج العزابة بالنساك والمتصوفة، والذي دعاه إلى نعتهم بالتصوف والزهد والتجرد في الحياة هو سلوكياتهم العلمية المتحلقة حول شيخ، وسلوكيات الصحبة، وسلوكيات الأوراد، وسلوكيات الاقتصار على لبس البياض، والتقليل من عدد الزوجات والالتزام بحفظ القرآن وإتيان مواعظه واجتناب نواهيه. وهو ما يبرر – ربما- حالة التماهي والسلم الأهلي في ليبيا بين تجمعات الإباضية والمتصوفة في عموم البلاد حتى وقت متأخر.

القائد العسكري أسد بن الفرات، تلميذ الإمام مالك

المذهب الثاني واسع الانتشار في ليبيا وتمتع أتباعه بالحرية والأمان في عهد "اللامذاهب" أيام القذافي هو "الأشعري" المتمثل في جذور المذهب "المالكي"، والذي رغم منشأه في المدينة المنورة، إلا أنه استقر في شمال أفريقيا مع دولة الأغالبة 800م، وبقي راسخا في الوعي الجمعي الديني في شمال إفريقيا، رغم معاداة الموحدين في عهد بن تومرت للمذهب مثلا.

إذ ينسب دخول المذهب المالكي إلى شمال إفريقيا إلى أبو عبد الله أسد بن الفرات 759م، الذي كان من تلاميذ الإمام مالك. وأول من أدخل مذهبه إلى ليبيا وتونس كان علي بن زياد الطرابلسي 799م.

ومن بعده أتى ليبيون آخرون كثر تفقهوا في المذهب وصلوا إلى أقصى المغرب مروراً بالقيروان والجزائر، مثل أبو جعفر أحمد الطرابلسي، صاحب كتاب النامي في شرح الموطأ، المتوفى بالجزائر 1011م، وأبو العباس الزليطني القروي المعروف بـ "حلولو"، والذي انتقل إلى تونس حتى وفاته فيها 1490م، ومحمد الخروبي الطرابلسي، المتوفى بالجزائر 1555م، عبد السلام بن عثمان التاجوري صاحب كتاب تذييل المعيار 1726م، وأحمد بن محمد بن عامر مؤلف كتاب ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية 1961م، وغيرهم الكثير ممن شكلوا تراث الليبيين ومرجعيتهم الدينية.

ورغم معارضة بعض المالكية للأشاعرة في مسائل جانبية، وأشهرهم ابن عبد البر في مسألة إثبات الصفات على الله، وأنه لا يجوز أخذها على المجاز كما يقول الأشاعرة، إلا أن المذهب المالكي أشعري في مجمله، كون مالك والشافعي يتفقان في مقولة : "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، فكان كلاهما متبع للسنة في عظيم أمرهم، ليكاد يكون متأخري المالكية والمتصوفة أيضاً كلهم أشاعرة.

وأخيراً المتصوفة، وخرجت من بينهم الحركة السنوسية 1787م، أكبر الحركات حضوراً، رفقة طرق أخرى سبقتها كالطريقة العروسية والعيساوية والشاذلية وغيرها، والتي حاول نظام الجماهيرية إخفاء وجودها وتشويهه أحياناً لما لها من صلة مباشرة بعصر المملكة السابق، رغم كونها في واقع الأمر لا تمثل مذهبا دينياً بل هي كما يصفها أتباعها كـ"مرتبة من مراتب الإحسان".

عندما نتحدث عن الصوفية في ليبيا، فإننا نتحدث في واقع الأمر عن رصيد يمتد لأكثر من 800 سنة في عموم شمال إفريقيا ووسطها أيضاً

وعندما نتحدث عن الصوفية في ليبيا، فإننا نتحدث في واقع الأمر عن رصيد يمتد لأكثر من 800 سنة في عموم شمال إفريقيا ووسطها أيضاً، فبالإضافة إلى السنوسية، يعرف الليبيون طرقاً صوفية أخرى عديدة كطريقة العروسية، والعيساوية والمدنية، والسعدية والخليلية والتيجانية والقادرية، والبرهانية والرفاعية، والزروقية، ويبلغ عدد الزوايا الصوفية المنتشرة في عموم ليبيا ما يفوق 700 زاوية، طال كثير منها التدمير من قِبَل القوة المهيمنة على المشهد السياسي والاجتماعي الليبي اليوم بعد فبراير./ شباط 2011 (بداية الثورة على القذافي)، وهي الحركات السلفية تحديداً، والميليشيات التي تتبنى الموقف السلفي من الحركة الصوفية، سواء في العلن أو في السر.

هذه التوطئة التاريخية المختصرة كانت لزاماً للتعبير عن حال المجتمع الليبي، والذي هو -ككل المجتمعات البشرية- متعددٌ مذهبياً ومتنوعٌ عقدياً، يستحيل أن يتبنى سكانه تصوراً دينياً واحداً، كطبيعة المجتمع الإنساني نفسه، وهو ما ترسخ في لاوعي وبديهيات الليبيين جميعاً تقريباً أنهم شعب يدين كل سكانه بمذهب واحد.

وكطبيعة الدولة الحديثة، كان لزاماً عليها ككيان موضوعي أن تمارس الحياد تجاه هذه المكونات المجتمعية، وتترك الخيار للناس في توجيه الضمير الديني، وهو أبسط تعريفات مهام الدولة المدنية المعلنة من قبل الليبيين بعد سقوط نظام القذافي، بعد أن كان هؤلاء الناس مرغمين في عصر ما قبل فبراير على إنكار أو عدم معرفة وجود هذه الطائفية المذهبية التي تعايشت مع بعضها البعض لقرون طويلة، لأسباب موضوعية وغير موضوعية أيضاً.

لكن ما الذي حدث؟ وما هي علامات الإنقلاب الحاصل على تاريخ وتراث تسامح الليبيين الديني بعد فبراير؟ وهل للأمر جذورٌ قبلها؟ ما الذي حدث ليتحول المجتمع الليبي بعد ثورته الثانية إلى نصف مؤمن ونصف أكثر أيماناً؟

كرونولجيا الأحداث التي تشير إلى حدوث انقلاب ديني في ليبيا على الليبيين أنفسهم، بعد موت القذافي رسمياً في 20 أكتوبر/ تشرين الثاني 2011 إلى يوم كتابة هذا المقال، كانت على النحو التالي:

1- خطاب التحرير، والذي تجلت فيه نوايا الحركات الإسلامية حينها في السيطرة على ليبيا وتمرير مشروع أسلمة الدولة، والذي عرف بخطاب الأربع زوجات في أكتوبر/ تشرين الثاني 2011.

2- الهجوم على ضريح سيدي عبد السلام في زليتن، وهو من أكبر وأهم رموز الصوفية في ليبيا، وهدمه وحرق مسجده ومكتبته التاريخية بالكامل، والهجوم على ضريح سيدي الشعاب وهدمه بالكامل في أغسطس/ آب 2012.

3- إصدار القانون رقم واحد لسنة 2013 بخصوص تحريم الفائدة البنكية وإيقاف التعامل بها في بنوك النظام المصرفي الليبي، المدنية منها والتجارية، في يناير/ كانون الثاني 2013.

4- ظهور تنظيم داعش في درنة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، ولاحقا في سرت، في فبراير/ شباط 2015، رغم إنكار حكومات المؤتمر الوطني وجودها واضطرارهم لمحاربتها لاحقاً.

5- تغييب الناشط الحقوقي عبد المعز بانون بعد ظهوره في فيديو يعترض على الاعتداء على أضرحة الزوايا الصوفية، كاستمرار لموجة اغتيالات واعتقالات وإخفاء ناشطين مناهضين لمشروع الأسلمة، في يوليو/ تموز 2014.

6- تعديلات المؤتمر الوطني لقوانين العقوبات والقوانين المدنية، عبر إدراج نصوص تبيح تعدد الزوجات بدون شرط، وتزويج القاصرات، وقتل المرتد والأجنبي غير المسلم الذي ينتقد الإسلام، وخلافه من التغييرات ذات الخلفية السلفية، في فبراير/ شباط 2016.

7- فتوى تكفير الإباضية من هيئة دار الإفتاء بنغازي، وبعدها بأشهر في طرابلس أيضاً، في يوليو/ تموز 2017.

8- منع رسو سفينة لوغوس هوب وهي مكتبة متنقلة، في ميناء مصراتة بحجة أنها تدعو إلى التنصير، واضطرارها للتوجه إلى بنغازي، حيث يسيطر السلفيون أيضاً، كنوع من المناكفة السياسية في أغسطس/ آب 2022.

9- صدور حكم إعدام ضياء بلاعو في مصراتة، وهو شخص من حفظة القرآن، بتهمة الردة في حادثة تعتبر الأولى في تاريخ ليبيا منذ الاستقلال في سبتمبر/ أيلول 2022.

هذا التسلسل الزمني للأحداث في ليبيا منذ سقوط القذافي لا يمكن فصله عن القذافي نفسه، فحالة التحول في الوعي الجمعي الليبي لأن يصبح الخطاب السلفي هو المرآة الوحيدة العاكسة للشعور الديني العام، ومرجعية الإفتاء بعيداً عن المدارس المحلية الراسخة في تاريخ وتراث المجتمع نفسه الإباضية، المالكية والصوفية، خو أمر كان جلياً وواضح الحدوث منذ سنوات النظام الليبي الأخيرة، وصل إلى درجة قبول الرأي العام لكل الفتاوى التي تكفر المذاهب الليبية جميعها؛ والإباضية والصوفية تحديداً، أو تلغي خطابها عند الحديث عن المذهب المالكي قبالة التفاسير والفتاوى السلفية العابرة للحدود.

بل أن النظام نفسه في سنواته العشر الأخيرة، حاول استمالة الجماعات السلفية عبر إقحام ابن القذافي نفسه الساعدي للإنضمام لهم ومحاولة احتوائهم تحت جناحه؛ وهو الذي قال في آخر لقاء مسموع له على إحدى المحطات الليبية وقت اندلاع الحرب الأهلية الليبية في فبراير/ شباط 2011، إن السعوديين أنفسهم قالوا له: "إنهم زرعوا السلفية في السعودية فخرجت في ليبيا". وهي جملة تحوي الكثير من المعاني في حقيقة الأمر، فمع فشل النظام في استمالة السلفيين، وفي نفس الوقت توفير بيئة خصبة لنموهم بعد إفراغ الوعي الجمعي الليبي من تراثه الديني، بمحاربة المذاهب الليبية ومنع ظهورها لواجهة الحوار المجتمعي، الممنوع أصلاً في كل الاتجاهات زمن دولة الجماهيرية، وجدت السلفية نفسها في مكان يسمح لها بأن تكون صاحبة الصوت الأعلى والمسموع لدى الليبيين جميعاً، لدرجة خلقت وعياً بديلاً أقنعهم أنهم لم يكونوا مؤمنين بما يكفي قبل دخول السلفية/الحنبلية إلى داخل بيوتهم جميعاً، لتتحول ليبيا إلى دولة يرى سكانها بعضهم البعض أناساً مؤمنين وأناس أقل إيماناً، بعد أن ساد اعتقاد أن من يخالف تفسير المذهب الحنبلي الذي قدم نفسه تحت مسمى السلفية. وهو مسمى يمكن أن تدعيه كل الفرق والمذاهب الإسلامية قاطبة، فللأشاعرة سلف، وللمعتزلة سلف، وللصوفية سلف، وللإباضية والجعفرية والزيدية سلف يمتد عبر تسلسل كرونولوجي يوصل للرسول نفسه لهم جميعاً. فساد اعتقاد أن من يخالف هذا التفسير أو من يرى النص الديني بمنظار آخر موازي، ليس فقط مخطئاً، بل هو كافر يجوز قتله، أو نفيه في أفضل الحالات، وهذه هي نهاية التاريخ بالنسبة لأي مجتمع سيجد نفسه منتحراً إذا استسلم لخطاب يدعي أصحابه أنهم أصحاب الحق هم وحدهم دون سواهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image