تزامن إعلان بعض القوى السياسيّة في السودان، أن ثورة ديسمبر التي أطاحت بالديكتاتور عمر البشير، يجب أن تتوّج بتطبيق الشريعة الإسلاميّة، مع إعلان حزب النور السلفي المصري، موافقته على التعديلات الدستوريّة التي تمكّن الرئيس المصري من البقاء في السلطة بعد انتهاء الدورة الرئاسيّة الحاليّة، وتمكّن القوّات المسلّحة من التدخّل في الشأن السياسي، تحت زعم "حماية مدنيّة الدولة"، طالما أن كلمة "مدنيّة"، وفقاً للنور، ليست مرادفاً للعلمانيّة.
ما يربط هاتين الواقعتين ببعضهما، هو الهوس السائد بالهوية الإسلاميّة في مجتمعاتٍ لا يشكّل فقط المسلمون الأغلبية العظمى من سكّانها، بل تحكم جوانب معتبرة من الشريعة الإسلاميّة، سياساتها التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، ليست فقط بوصفها المرجعية الحاكمة لعلاقة هذه الأغلبية بالأقليّات التي تعيش في هذه البلدان، بل كمنظومةٍ للضبط الاجتماعي للمسلمين أنفسهم.
تعي التيّارات السلفيّة تماماً أن النماذج السياسيّة السائدة في العالم العربي منذ حقبة الاستقلال، بالرغم من ادّعاءات المدنيّة والعلمانيّة، اتخذت من الشريعة مكوّناً أساسيّاً لنظمها السياسيّة
يُخطئ من يظنّ أن استدعاء الشريعة أثناء انتفاضةٍ جماهيريّة، أو قلب وسائل الإعلام رأساً على عقب، بسبب زيٍّ كاشفٍ ارتدته ممثلة أثناء مناسبة ما، أو المطالبة بسجن كاتبٍ بسبب تَضمّن روايته بعض الألفاظ التي يراها حرّاس الحياء العام، غير ممثّلةٍ لمفردات قاموسهم الأخلاقي، هي مجرّد مؤامرات تُشعلها الأجهزة الأمنيّة لصرف الانتباه عن القضايا الرئيسيّة التي تشغل مجتمعاتنا. بل أن هذا الجدال حول الشريعة والأخلاق والعلمانيّة، ما هو إلا تعبير عن مقاومة البنى الاجتماعيّة القائمة، والتي يشكّل الإسلام السياسي أحد أعمدتها، لتطلعات التغيير السياسي والاجتماعي التي تتنوّع منعطفاتها منذ عام 2011 بين انتفاضاتٍ جماهيريّةٍ تطالب بتغيير الأنظمة الحاكمة، ونضالاتٍ ومعارك جزئيّة حول الحقوق والحريّات الأساسيّة في المجتمع العربي.
ينبغي التأكيد هنا أن التيّارات السلفيّة عندما تلوّح برغبتها في تطبيق الشريعة كلّما انتفضت الجماهير في بلدٍ عربي ما، فإنها لا تحاول بذلك اقتناص الفرصة التاريخيّة التي يوفّرها ذلك الحراك الجماهيري، وطرح أجندتها السياسيّة من خلاله، بل أن التجربة المصريّة على وجه الخصوص، أثبتت أن هذا الخطاب الهويّاتي هو عنصر في مُرَكَّب الثورة المضادّة التي تسعى لتأبيد الوضع القائم، وترى في هذه الانتفاضات خطراً يهدّد الامتيازات الطبقيّة والذكوريّة والطائفيّة التي يكرّسها بقاء الأوضاع الراهنة، والتي تشكّل الشريعة أحد مكوّناتها الرئيسيّة.
تعي التيّارات السلفيّة تماماً أن النماذج السياسيّة السائدة في العالم العربي منذ حقبة الاستقلال، بالرغم من ادّعاءات المدنيّة والعلمانيّة، اتخذت من الشريعة مكوّناً أساسيّاً لنظمها السياسيّة. لا تتضح هذه الحقيقة فقط في أن أغلب دساتير البلدان العربيّة تضع الشريعة كأحد مصادر التشريع، إن لم تكن المصدر الوحيد كما هو الحال في مصر، لكن الأهمّ من ذلك، هو التضافر غير المرئي، وغير المنصوص عليه صراحةً في القوانين، بين مفهوم " النظام العام" الذي يجعل ممارسة الأفراد لحقوقهم وحرياتهم مشروطاً بعدم الإضرار بحزمةٍ من المفاهيم التي تشكّل عناصر هذا النظام، والتي تتضمّن على سبيل المثال، الحياء العام، المصلحة العامة، الأمن العام، الصحّة العامة، والسكينة العامة، وبين مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يشار إليه بـ "الحِسْبة".
هذه التضافر بين مفهوم النظام العام من ناحية، ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ناحيةٍ أخرى، لا يدخل ضمن إطار المبالغات السياسيّة التي اعتاد الليبراليون إلقاء التيارات الإسلاميّة بها، بل إن مقارنةً سريعةً بين قانون العقوبات المصري، وبين مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الإمام أبو حامد الغزالي، توضّح لنا أيّ نظامٍ قانونٍّي يطبّق في مصر اليوم.
الجدال حول الشريعة والأخلاق والعلمانيّة، ما هو إلا تعبير عن مقاومة البنى الاجتماعيّة القائمة، والتي يشكّل الإسلام السياسي أحد أعمدتها، لتطلعات التغيير السياسي والاجتماعي التي تتنوّع منعطفاتها منذ عام 2011 بين انتفاضاتٍ جماهيريّةٍ تطالب بتغيير الأنظمة الحاكمة، ونضالاتٍ ومعارك جزئيّة حول الحقوق والحريّات الأساسيّة في المجتمع العربي.
الخطاب الهويّاتي السلفيّ هو عنصر في مُرَكَّب الثورة المضادّة التي تسعى لتأبيد الوضع القائم، وترى في هذه الانتفاضات خطراً يهدّد الامتيازات الطبقيّة والذكوريّة والطائفيّة التي يكرّسها بقاء الأوضاع الراهنة، والتي تشكّل الشريعة أحد مكوّناتها الرئيسيّة.
أغلب دساتير البلدان العربيّة تضع الشريعة كأحد مصادر التشريع، لكن الأهمّ من ذلك، هو التضافر غير المرئي، وغير المنصوص عليه صراحةً في القوانين، بين مفهوم " النظام العام" الذي يجعل ممارسة الأفراد لحقوقهم وحرياتهم مشروطاً بعدم الإضرار بحزمةٍ من المفاهيم التي تشكّل عناصر هذا النظام.
كان الكتاب الرابع من قانون العقوبات المصري، الصادر عام 1937، قبل التعديل الذي أدخل عليه عام 1981، يجرّم حزمةً من الأفعال التي تشكّل تهديداً لسلامة المجال العام، تضمّن هذا التجريم تقسيماً للمجالات العموميّة المختلفة، التي تتمتّع بحماية القانون ضدّ الخارجين عليه، مثل المخالفات المتعلّقة بالطرق العموميّة، المخالفات ذات الصلة بالآداب العامّة، المخالفات المرتبطة بالصحّة العامّة، المخالفات التي تقع في الأسواق عندما يتعلّق الأمر بالغشِّ في الموازين والمكاييل. من ضمن الجرائم التي تضمّنها هذا الباب، على سبيل المثال، التجوّل في الطريق العام في حالة سكر، أو ارتداء ملابس من شأنها إثارة الشهوات، أو بيع أطعمةٍ أو مشروباتٍ فاسدة في الأسواق، أو الامتناع عن تقديم العون لغريقٍ أو ضحية حريقٍ في حال كان تقديم المساعدة ممكناً. هذه النصوص القانونيّة ليست مأخوذة عن قانون العقوبات الفرنسي كما اعتقد بعض المفكّرون الإسلاميون، مثل الأستاذ عبد الوهاب خلاف، في ثلاثينيات القرن الماضي، أو طارق البشري وعلماء الأنثروبولوجيا أمثال "طلال أسد" و "حسين عجرمة" والراحلة "صبا محمود" في العقود الأخيرة، بل تشكّل هذه النصوص التجلّي الحداثي لتقسيم الإمام الغزالي للمجالات التي يجب ممارسة الحِسْبة فيها. قسّم الغزالي في كتابه الأشهر "إحياء علوم الدين" هذه المجالات إلى منكرات الأسواق، منكرات الشوارع، منكرات الحمّامات، ومنكرات الضيافة والمنكرات العامّة.
ضمن هذا الفهم للعلاقة الجدليّة بين القانون والسياسة والأخلاق والشريعة، يستخدم السلفيون منصّات الدولة القضائيّة وخطابها السياسي عندما يلاحقون، قضائياً، روايةً أو أغنيةً أو فيلماً، أو عندما يعلنون تسيير مسيرات مليونيّة لتطبيق الشريعة، ضدّ الانتفاضات الجماهيريّة التي يرون فيها تهديداً لهوية الأمة.
بينما كانت منكرات الغزالي مجالاً مفتوحاً أمام كل مسلم لممارسة واجب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فإن "مخالفات وجرائم" المشرّع المصري هي حكر على مؤسسات الدولة لمطاردة المخالفين ومرتكبي هذه الجرائم. هذا لا يعني أن الأفراد لم يعد مسموحاً لهم ممارسة الحسبة ضدّ بعضهم البعض، بل يعني أن ممارستهم للحسبة مسموح بها فقط من خلال الأطر القانونيّة التي تُنشئها الدولة وتشجّع الأفراد على استخدامها في هذه المجالات. وبعيداً عن هذا الاختلاف بين حِسْبة الغزالي وحِسْبة المشرّع المصري، فإنهما تتشاركان في ذات المنطق الذي ينطلق من التضافر بين القواعد الأخلاقيّة والقواعد القانونيّة السائدة في المجتمع، هذا التضافر يعدّ واحداً من العقبات التي تواجه النهوض بحقوق وحريّات الأفراد في مجتمعاتنا، فالحسبة تساوي بين السير في نهر الطريق بلباس يكشف أجزاء من الجسد باعتبار ذلك مخلاًّ بالحياء العام، وبين بيع أطعمةٍ أو مشروباتٍ من شأنها الإضرار بالصحّة العامّة، فكلاهما منكرات وفقاً للغزالي، ومخالفات وجنح وفقاً للتشريعات الحديثة.
هذا النموذج السياسي الأخلاقي لم ينشأ نتيجة نفي الشريعة إلى المجال الخاص بقضايا الأحوال الشخصيّة واستبدالها بقوانين غربيّة، في غمار عملية التحديث السياسي والاجتماعي التي شهدها القرن العشرين، كما يزعم بعض منظّري مدرسة ما بعد الاستعمار، بل هو نتيجة تزاوج بين الشريعة والقانون ضمن عملية بقرطة شاملة للمفاهيم الأخلاقيّة والقانونيّة الإسلاميّة التي كانت سائدة في مصر حتى نهايات القرن التاسع عشر، كما يوضّح المؤرّخ المصري خالد فهمي في كتابه الصادر مؤخّراً بعنوان "السعي للعدالة: الشريعة الإسلاميّة والطب الجنائي في مصر الحديثة".
هذا النموذج السياسي الأخلاقي لم ينشأ نتيجة نفي الشريعة إلى المجال الخاص بقضايا الأحوال الشخصيّة واستبدالها بقوانين غربيّة، في غمار عملية التحديث السياسي والاجتماعي التي شهدها القرن العشرين، كما يزعم بعض منظّري مدرسة ما بعد الاستعمار، بل هو نتيجة تزاوج بين الشريعة والقانون
ضمن هذا الفهم للعلاقة الجدليّة بين القانون والسياسة والأخلاق والشريعة، يستخدم السلفيون منصّات الدولة القضائيّة وخطابها السياسي عندما يلاحقون، قضائياً، روايةً أو أغنيةً أو فيلماً، أو عندما يعلنون تسيير مسيرات مليونيّة لتطبيق الشريعة، ضدّ الانتفاضات الجماهيريّة التي يرون فيها تهديداً لهوية الأمة. هذا الغلاف الهويّاتي للخطاب السياسي لهذه الجماعات يختلف جوهريّاً عن الهوية كإطار نضالي للجماعات المضطهدة على أساس الدين أو النوع الاجتماعي أو الميول الجنسيّة. فالسلفيون والدولة يريدون للمصريين ألا يروا أنفسهم كمسلمين وأقباط، أو فقراء وأغنياء، أو نساء ورجال، بل فقط كمصريين ملتزمين بالخطوط الأخلاقيّة الحمراء التي تكرّس رفض المعارضة السياسيّة للحاكم، وازدراء وتجريم الميول الجنسيّة خارج إطار ما هو مقبول اجتماعياً، ونفي ممارسة الاعتقاد الديني بشكلٍ حرٍّ والتحقير من تواجد النساء في المجال العام بشكلٍ مساوٍ للرجال. هذا الإطار الأخلاقي، النابع من الشريعة ذاتها، والمدمج في صلب قوانين الدولة الحديثة، هو ما يبلور رؤية التيّار السلفي للدولة الحاكمة الآن في مصر، فالدولة في التحليل الأخير هي الحليف الأقرب الذي لن يتجاوز خطوطاً أخلاقيّة معيّنة، عندما يتعلّق الأمر بحقوق وحريات الأفراد، وهو الواقع الذي لا يمكن ضمان استمراره في حال وصول القوى الديمقراطيّة التي تناضل من أجل تحرير البلدان العربيّة من قبضة الاستبداد، إلى الحكم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...