يعتقد الشيعة الاثني عشرية أنه بعد وفاة الإمام الحسن العسكري، وهو الإمام الحادي عشر بحسب مذهبهم، سنة 260هـ، اختفى ابنه الصغير محمد في أحد سراديب مدينة سامراء، خوفاً من ملاحقة العباسيين له. ويعتقدون أن الإمام الغائب تواصل مع شيعته من خلال أربعة رجال عُرفوا باسم "السفراء/ النواب"، لمدة سبعين عاماً، وذلك قبل أن يختفي عن الأنظار بشكل تام.
لعب هؤلاء السفراء الأربعة أدواراً مهمة على مسرح الأحداث السياسية، إذ مارسوا جهوداً كبيرة في سبيل توحيد الصف الشيعي الإمامي من جهة، كما تعددت مواقفهم إزاء كل من السلطة العباسية والحركات المعارضة لها من جهة أخرى.
الغيبة والسفراء الأربعة
بحسب المصادر الشيعية، وُلد الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري في ليلة النصف من شعبان سنة 255هـ، وحرص والده على إخفائه عن عيون السلطة العباسية، خوفاً عليه من القتل. ولمّا توفي الحسن العسكري سنة 260هـ، قام العباسيون بتفتيش منزله، وتفقدوا جواريه ونسائه ليتأكدوا من عدم حمل أي منهن.
يذكر المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه "المهدي المنتظر عند الشيعة الاثني عشرية"، أن جعفر، عم المهدي، حاول استغلال الموقف لصالحه، ليصل إلى منصب الإمامة، وحاول الاستعانة بخدمات صديقه الوزير عبد الله بن خاقان، فعرض عليه 20 ألف دينار لتسهيل الأمر له، إلا أن الوزير رفض.
وبحسب هذه الرواية الشيعية، سرعان ما أُحبطت خطة جعفر بعدما جاءه بعض الشيعة من مدينة قم ومعهم أموال الخُمس، وطلبوا منه أولاً أن يخبرهم بمقدار الأموال التي يحملونها كعادتهم مع الأئمة السابقين، فلما عجز عن ذلك وقال: "لا يعلم الغيب إلا الله"، انصرفوا من عنده، وبعدها جاءهم رجل من قِبل محمد بن الحسن فذهبوا معه، وقابلوا الإمام الثاني عشر في منزل أبيه، واعترفوا بإمامته.
وتكمل الرواية السابقة أن جعفر، بعدما عرف بما حدث، ذهب إلى الخليفة العباسي المعتمد على الله وأخبره بما وقع، فوجّه المعتمد قواته لتفتيش منزل الحسن العسكري مرة أخرى ولكنهم لم يعثروا على الطفل الصغير. ومن هنا، ساد الاعتقاد لدى الشيعة بخيانة جعفر بن علي، لكونه لم يعترف بإمامة ابن أخيه ولأنه حسده ونازعه حقه الإلهي في منصب الإمامة، بل وحاول أكثر من مرة أن يساعد العباسيين في قتله، وهو ما جعله يُلقَّب باسم "جعفر الكذاب".
وفي ما يخص محمد بن الحسن، والذي كان يبلغ من العمر ما يقرب من خمسة سنوات فحسب، قالت الروايات الشيعية إنه اختفى عن أعين السلطات العباسية التي تحاول تعقبه، ونزل في أحد السراديب المُلحقة ببيت أبيه واختفى. وباختفائه، بدأ عصر جديد يُعرف باسم "الغيبة الصغرى"، وهو ذاك الذي امتدّ على مدار ما يقرب من السبعين عاماً، في الفترة ما بين عامي 260 و329هـ.
ويروي الشيعة الاثني عشرية أن المهدي في تلك الفترة تواصل مع شيعته من خلال أربعة "سفراء" أو "نواب" هم على التوالي: عثمان بن سعيد العُمري (ت. 265هـ)، ومحمد بن عثمان بن سعيد العُمري (ت. 305هـ)، والحسين بن روح النوبختي (ت. 326هـ)، وأخيراً علي بن محمد السمري (ت. 329هـ).
كما يعتقدون بأنه بعد وفاة السفير الرابع دخل المهدي في ما يُعرف باسم "الغيبة الكبرى"، وهي التي لن يخرج منها إلا بعد "إذن اللّه تعالى ذكره وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً..."، أي في نهاية الزمان.
ترتيب البيت الشيعي
بحسب الرواية الشيعية، بدأ التمهيد لما سيحدث في عصر الغيبة، في عصر الأئمة السابقين، من خلال توثيق السفير الأول عثمان بن سعيد بطرق مختلفة. على سبيل المثال، يذكر جواد علي في كتابه، أنه لما كانت الحكومة العباسية قد حرصت على مراقبة الإمام العاشر، علي الهادي، فإن الأخير كان يقدّم عثمان لمَن يأتون للحديث إليه على أنه نائبه و"رجل محترم وكل ما يفعله إنما يفعله باسمه". وفي السياق نفسه، يذكر محمد بن الحسن الطوسي (ت. 460هـ)، في كتابه "الغيبة"، أن الإمام الحسن العسكري قال للسفير الأول ذات مرة: "امضِ يا عثمان فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال الله".
وتمثلت أهم أدوار السفراء في العمل على نقل استفسارات وأسئلة الشيعة إلى الإمام الثاني عشر، والذي كان، بحسب ما تواتر في الروايات الشيعية، يكتب الأجوبة على تلك المسائل في أسفل الخطاب المُرسل له، ثم يسلمه للنائب الذي يقوم بتلاوته أمام عموم الشيعة. وكان ذلك التقليد يُعرف باسم "التوقيعات".
أيضاً، لعب السفراء الأربعة دوراً مهماً في التصدي للوكلاء الكَذَبة الذين ادّعوا الوكالة والبابية للإمام الغائب. في هذا السياق، تتحدث الروايات الشيعية عن جهود بذلها السفير الثاني محمد بن عثمان في سبيل إحباط أكاذيب كل من أحمد بن هلال العبرتائي الكرخي، ومحمد بن نصير النميري، كما تفصّل المجهود الكبير الذي بذله السفير الثالث الحسين بن روح النوبختي في سبيل التصدي لاثنين من كبار رجال الشيعة في زمنه، وهما الحسين بن منصور الحلاج ومحمد بن علي الشلمغاني.
لعب سفراء الإمام المهدي الأربعة أدواراً مهمة على مسرح الأحداث السياسية، إذ مارسوا جهوداً كبيرة في سبيل توحيد الصف الشيعي الإمامي من جهة، كما تعددت مواقفهم إزاء كل من السلطة العباسية والحركات المعارضة لها من جهة أخرى
ويذكر محمد الأزيرجاوي، في كتابه "حياة السفراء الأربعة للإمام المهدي"، أن السفير الثالث تمكّن من القضاء على خطر الحلاج الذي قدّم نفسه في الأوساط الشيعية باعتباره وكيلاً للمهدي الغائب، بواسطة أحد أقاربه من فقهاء بني نوبخت، وأن هذا الفقيه تمكّن من الإيقاع بالحلاج في بعض المناظرات، ثم تعاون مع بعض فقهاء السنّة لإصدار فتوى تكفيره، سنة 297هـ، ليُعدَم بموجبها على يد السلطة العباسية.
أما في ما يخص الشلمغاني، فقد تخلص منه السفير الثالث عندما وافق على مباهلته، وبعدها نشر توقيعاً صادراً عن المهدي، ورد فيه القول بلعنته.
في السياق نفسه، لعب السفراء دوراً محورياً في تنظيم الموارد المالية الخاصة بالطائفة الشيعية. يرد في كتاب "الحياة الفكرية والسياسية لأئمة آل البيت" للباحث الإيراني رسول جعفريان، أن السفراء كانوا يعيّنون الوكلاء الذين يقومون بتحصيل أموال الأخماس من الشيعة، وكان هؤلاء الوكلاء المنتشرين في الأهواز وسامراء ومصر والحجاز واليمن وخراسان وقم والري، يرسلون مبالغ كبيرة للسفير في كل عام، تُستغَلّ في إغاثة الشيعة وتقوية جانبهم، ما أتاح لهم الفرصة للبقاء وسط الأغلبية السّنية المخالفة لهم، كما مكّن بعض العائلات الشيعية المشهورة في بغداد من تقوية نفوذها بشكل كبير، حتى سُمح لها بالاقتراب من السلطة، بحيث تولى رجالها بعض المناصب المهمة في الدولة، ومن أهم تلك العائلات عائلة الفرات، وعائلة بسطام، وعائلة النوبختي.
من جهة أخرى، سنجد في الروايات الشيعية أن السفراء عملوا على إبعاد الطائفة الاثني عشرية عن أتون الصراعات والفتن التي شاركت فيها باقي الطوائف الشيعية في ذلك العصر. فعلى سبيل المثال، سنجد أنه وعلى الرغم من أن الكثير من الأحداث السياسية وقعت في زمن سفارة السفير الثاني محمد بن عثمان -ومنها ثورة الزنج، وتوسع حركة القرامطة، وتأسيس الدولة الفاطمية، وظهور إدريس بن جعفر بن الإمام الحسن العسكري وادعائه الإمامة- فإنه السفير الثاني ابتعد عنها جميعاً، وعمل على تنبيه طائفته لما في تلك الحركات من بطلان وزيف، كما حرص على عدم الاصطدام مع قادة تلك الحركات، وذلك لتأكده من أن السلطة العباسية سوف تعمل على قمعها. وبالتالي اختار "السفير" تأمين جماعة الشيعة بتجاهل تلك الأحداث.
لكن هذا الأسلوب سيتغير قليلاً في زمن السفير الثالث. فبحسب ما يذكر محمد الأزيرجاوي، في كتابه سابق الذكر، عمل الحسين بن روح على استغلال علاقاته القوية بالكثير من رجال السياسة والحكم في زمنه، محاولاً التمهيد لتأسيس بعض الدول التي تلتزم بالعقائد الشيعية الاثني عشرية. ومن هنا يمكن تفهم ترحيبه بتأسيس الدولة الحمدانية التي قامت بين عاميْ 318 و358هـ، لتقطع الطريق أمام المد الإسماعيلي في بلاد الشام، وكذلك تأييده لتأسيس الدولة البويهية في 322هـ، في إيران والعراق، وهي الدولة التي أسهمت بدور كبير في كبح جماح القرامطة في ما بعد.
العلاقة مع السلطة العباسية
تزامن عصر السفارة والغيبة الصغرى مع خلافة ستة من خلفاء دولة بني العباس، وهم على الترتيب أحمد المعتمد على الله (ت. 279هـ)، وأحمد المعتضد بالله (ت. 289هـ)، وعلي المكتفي بالله (ت. 295هـ)، وجعفر المقتدر بالله (ت. 320هـ)، ومحمد القاهر بالله (ت. 322هـ)، وأخيراً محمد الراضي بالله (ت. 329هـ).
الملاحظة الأكثر بروزاً في تلك الفترة تتمثل في أن السفراء الأربعة حرصوا على تصريف أمورهم بعيداً عن السلطة السياسية. فمع اختفاء الإمام الثاني عشر عن الأنظار، بدأ السفير الأول عثمان بن سعيد العمري في انتهاج نهج جديد، إذ ترك السكن في مدينة سامراء (معقل الأئمة منذ عهد الإمام التاسع محمد الجواد) وانتقل للإقامة في مدينة بغداد، وبالتحديد في حي الكرخ، الذي صار بمرور الوقت أقرب ما يكون إلى منطقة شيعية خالصة، بعدما قصده الكثيرون من الشيعة الإمامية وسكنوا فيه مع أسرهم.
بعد غياب المهدي، بحسب العقيدة الشيعية، راح سفراؤه ينقلون استفسارات وأسئلة الشيعة إلى الإمام الغائب، وكان الأخير يكتب الأجوبة على تلك المسائل في أسفل الخطاب المُرسل له، ثم يسلمه للنائب الذي يقوم بتلاوته أمام عموم الشيعة. وكان ذلك التقليد يُعرف باسم "التوقيعات"
ليس ذلك فحسب، بل استفاد عثمان بن سعيد من مهنته كتاجر في تسهيل نقل الأخماس بين الشيعة، إذ ورد أنه كان يضع تلك الأموال في قدور السمن لإخفائها عن أعين الجند والحرس، وشاع عنه ذلك في الأوساط الشيعية حتى لُقّب بالسمّان، وذلك بحسب ما يذكر الطوسي في كتاب "الغيبة".
وسار السفير الثاني محمد بن عثمان على الخط نفسه، إذ لا نكاد نعرف شيئاً عن أي علاقة بينه وبين السلطة، وأغلب الظن أنه تحاشى الاصطدام مع العباسيين وأجهزتهم الأمنية المترصدة لأي تحرك من جانب الطائفة الشيعية.
التغيّر الحقيقي في تعامل السفراء مع السلطة وقع في فترة سفارة الحسين بن روح النوبختي، فالسفير الثالث الذي كان سليل آل نوبخت المعروفين بالنفوذ والسلطة والاقتراب من دوائر الحكم، استخدم تلك العلاقات العائلية الوثيقة في إيجاد مكان له في البلاط العباسي، في زمن الخليفة المقتدر بالله، كما أن صداقته القوية بالوزير أبي الحسن علي بن الفرات وابنه المحسن سهلت له ممارسة دوره النيابي دون أن يخشى الصدام مع السلطة.
ووصف ابن أيبك الصفدي (ت. 764هـ)، في كتابه "الوافي بالوفيات"، المكانة الكبيرة التي وصل إليها النوبختي في تلك المرحلة، فقال: "كثرت غاشيته حتى كان الأمراء يركبون إليه والوزراء والمعزولون عن الوزارة والأعيان".
كان النوبختي معروفاً بلجوئه المستمر للتقية لإبعاد الأنظار عنه، ووردت الكثير من القصص المؤكّدة على ذلك، ومنها أنه لما سمع أحد خدمه يلعن معاوية بن أبي سفيان، طَرَده، كما أنه لما حضر إحدى المناظرات ذات يوم، وكان الجدل يدور فيها حول أفضلية علي أو أبي بكر، أكد على أن أبا بكر أفضل الصحابة، ومن بعده عمر، ثم عثمان، أما علي فهو آخر الأربعة فضلاً، الأمر الذي وسع من شعبيته بين الناس، حتى "كان العامة يرفعونه على رؤوسهم وكثر الدعاء له، والطعن على من يرميه بالرفض"، بحسب ما يذكر الطوسي في كتابه.
رغم حرصه على المداراة والاستتار، كان النوبختي في بعض الأحيان يتخلى عن العمل بالتقية، ليشتبك مع المخالفين لتوضيح بعض الأفكار الشيعية، ومن ذلك ما ذكره ابن شهر آشوب المازندراني (ت. 558هـ)، في كتابه "مناقب آل أبي طالب"، عن مناظرة السفير الثالث لعدد من فقهاء السنّة في مسألة تفضيل فاطمة الزهراء عن باقي بنات الرسول، وتفسير انهزام الحسين بن علي في كربلاء.
مغامرة النوبختي في قربه من السلطة انتهت بالفشل في 312هـ، وذلك عندما قُبض عليه وزُجّ في السجن لمدة خمسة أعوام كاملة. وكان السبب في ذلك خلافه مع الوزير حامد بن العباس، وكان "مما رموه به أنه يكاتب القرامطة ليقدموا ويحاصروا بغداد، وأن الأموال تجبى إليه"، بحسب ما يذكر شمس الدين الذهبي (ت. 748هـ) في كتابه "تاريخ الإسلام".
من هنا، كان من الطبيعي أن نجد أن السفير الرابع علي بن محمد السمري، قد عاد مرة أخرى لانتهاج نهج التخفي والابتعاد عن الحكام، واجتناب الصدام مع السلطة أو الدخول في دوائرها.
رغم أن السفراء آثروا البعد عن الصدام مع السلطة في معظم الأوقات، إلا أنه يبدو أن بعض الفترات شهدت اضطهاداً عنيفاً للشيعة الاثني عشرية. ففي عهد المعتضد بالله، جُرّد عدد من الحملات لتفتيش منزل الحسن العسكري بحثاً عن ابنه الغائب، كما أن الخليفة المعتضد أفرط في استخدام القوة ضد الشيعة، إلى درجة حدت بالطوسي ليكتب "إن سيف المعتضد كان يقطر دماً".
وفي عهد الخليفة المقتدر بالله تعرض الشيعة الاثني عشرية لغضب السلطة والعوام، وقُتل عدد من أعيانهم وكبارهم، بعد أن خُلط بينهم وبين الشيعة الإسماعيلية والقرامطة الذين كانوا أعداء سياسيين للدولة العباسية، بحسب ما يذكر الذهبي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com