شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"قونات" السودان... طرائد الدولة والمجتمع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الأحد 4 سبتمبر 202205:41 م

يتمرد غناء "القونات" على سلطة الدولة بكل وحشيتها ومضايقاتها التي لا تنتهي، وكذلك على قيم المجتمع الذي لا يعترف بإبداعهن، ويصنف غنائهن ضمن "الغناء الهابط". ومع ذلك تحاول هؤلاء المغنيات تشييد سلطتهن المتحررة ومجتمعهن الخاص، إلى جانب ابتكار موسيقى "الزنق"، رغم محاولات قمعهن وإغلاق المؤسسات الإعلامية في وجوههن، وتعقبهن من سلطتي الدولة والمجتمع. فمثلاً، تعرضت الفنانة (م. د) للضرب المبرح والنهب من رجالات الشرطة الذين هاجموا حفلاً لها العام 2021، وفرقوا الجمهور بالقوة ولم تجد التعاطف أبداً، وكتبت يومها مناشدة لإنصافها من دون جدوى.

استهجان قديم

الجدل حول شرعية غناء البنات في دوائر رسمية، ظهر مع توليد الأغنية الحديثة في أمدرمان؛ إذ يشاع أن الحاج محمد أحمد سرور، مبتكر أسلوب الغناء الأمدرماني ترك الفن بعد ظهور المغنية الشابة عائشة الفلاتية، وهي توقع أغنياتها على ايقاع "التم تم" الذي استهجنه الحاج. وهو ما كرره المغني عصام محمد نور حين رفض مقابلة تلفزيونية جمعته بالمغنية عشة الجبل، ووجد تصرفه حينها ردود فعل متباينة.

وعلى الضد مما كان يحدث في أمدرمان الحديثة، التي مثلت طبقة نخبوية، فإن المجتمعات السودانية، شديدة التنوع، وفي إحدى مراحل تطورها لم تكن تعترف سوى بغناء الفتيات، وظلت في عداء تقليدي مع المغنيين من الذكور، "ويصل الأمر أحيانا إلى رميهم بالتخنث والميوعة"، مثلما يقول معاوية يس في كتابه تاريخ الغناء والموسيقى في السودان، ومع ذلك استمرت حركات التمرد الفنية التي بدأها اسماعيل عبد المعين بنهج الزنجران، الذي حاول معه تغيير خارطة الغناء والتخلص من سطوة الأغنية الأمدرمانية ومركزيتها القابضة.

يتمرد غناء "القونات" على سلطة الدولة بكل وحشيتها ومضايقاتها التي لا تنتهي، وكذلك على قيم المجتمع الذي لا يعترف بإبداعهن، ويصنف غنائهن ضمن "الغناء الهابط"

ويقارب الناقد صلاح شعيب بين هذا النوع من الغناء وطقس فن الراب الأمريكي، الذي خلق جدلاً وسط الطبقة الوسطى الأمريكية، التي وجدت أن ما تعارفت عليه من غناء قد تم تحويره كليةً من حيث الشكل وتركيبته اللحنية، وموضوعاته، أو لغته الشعرية، "صحونا نحن أيضا، معنفين، ومستهجنين، ما لشيء إلا لأننا وجدنا هذا الشباب قد قلب المواعين الغنائية التي عهدناها رأسا على عقب"، ما يعد تمرداً لأجيال جديدة على الأبوة الفنية.

وينظر شعيب إلى مسرح أغنية "الزنق" كساحة للتسلية، وخلق تواصل أثناء الغناء بين المغني والجمهور – عبر فقرات لا تتوقف عندها الأغنية – فالتجربة يجب أن تكون عند النظر المختلف. ويضيف "مصطلح الزنق الذي لا تبين معانيه أثناء الفرجة ليس خلواً من ترميز له ما بعده، إن لم يكن معبراً عن تقليل للقيمة الفنية". فكل حركة تمرد على الفن هي انعكاس لنظرة جديدة لمجتمع الشباب، يستخدمها بكثير من الهم لبحث الذات، كما أن الظاهرة أدعى للنظر بمواعين سيسيولوجية أكثر منها إبداعية. "خصوصاً إذا عرفنا أن هناك تياراً متصاعداً للظاهرة، وتتنوع وتتقارب باتجاهات جديدة أكثر تمرداً". ويتساءل "لا ندري مستقبل هذا النوع، هل سيصمد أم يتآكله الزمن؟”.

ويطالب شعيب بالتعاطف والرأفة مع "القونات" فهن بعض ضحايا مشروع الإخوان الاستبدادي، كما يرى.

وكتب المخرج التلفزيوني وصاحب قناة "هارموني" معتصم الجعيلي، على صفحته في فيسبوك أن "الفنانة حنان بلو بلو كانت أغنياتها ممنوعٌ بثها علي التلفزيون. اتصلت بنا وقلت لها خيراً، وأخبرتها أننا سننتج لها حفلاً كاملاً نبثه على القناة، لكننا وجدنا أنفسنا، حنان وأنا، في اليوم التالي أمام مكاتب النظام العام نكتب تعهدات".

على الضد مما كان يحدث في أمدرمان الحديثة، التي مثلت طبقة نخبوية، فإن المجتمعات السودانية، شديدة التنوع، وفي إحدى مراحل تطورها لم تكن تعترف سوى بغناء الفتيات، وظلت في عداء تقليدي مع المغنيين من الذكور

تقية سياسية وانتشار واسع

يفرق الروائي والناقد ممدوح أبارو بين نوعين في ذات الضرب من الغناء الذي يعتمده النوعان الجندريان (الذكور والإناث) وينقسم إلى أغاني الزنق وأغاني الضربة. "الزنق يعتمد على "صولة" العازف، بمعنى أنه موسيقى كلياً بجانب الكلام، ويمكن لأي مؤدٍ أو مؤدية أن يتغنى به طالما توفر العازف الماهر، مثل أيمن الربع أو نيجيري". يضيف "أما الضربة فتعتمد على كلمات يقوم عليها اللحن والموسيقى". ويرى أن منشأ هذه الألوان من الغناء قامت في مجتمعات التخوم والنواحي لتعبر عن تطلعات واحتجاجات على السائد، وأن مقبوليتها تخضع لثقافة المناطق المختلفة، وبالتالي فالمجتمع الذي يوصف نفسه بالمحافظ؛ لن يقف مكتوف الأيدي تجاهها، وهو ما يؤكد سبب قيامها بالأساس، أي التمرد على قواعد هذا المجتمع. "أما ما تفعله السلطات فهو محض مناورة وتقية سياسية لكسب ود مجتمع بعينه". ويضيف "ذات المجتمع الذي يجلب هذا النوع من الغناء لمحافله الخاصة”.

ويستفيد غناء "الزنق" من التقنيات الرقمية ووسائط السابرانو في سرعة وقوة الانتشار وتحمله المركبات الشعبية كـ"التكاتك" معها إلى البيوت، فجيراننا، الحائط بالحائط، وحين ينقطع التيار الكهربائي عن السكن، مساءً، يتعزون بسماع هذا النوع من الغناء. يختارون أغنيات هادئة نسبيا وتردد الصبايا خلف " القونة" بمرحٍ وطرب عالٍ، ربما لتبديد وحشة العتمة، ونجد، نحن الجيران، شيئا فشيئا، أننا، مع صرامة تقاليدنا السماعية، نشاركهم متعة السماع لموسيقى الزنق الراقصة وتأخذنا "القونة" معها الى عالمها البسيط وأسئلتها الذاتية التي توقعها على لحن خفيف راقص، وتتبدل أفكارنا كليا عن هذا النوع من الغناء الموسوم بالهابط.

وينفي الشاعر الغنائي هاشم عباس الجبلابي، أن يكون هناك ما يسمى بـ(الغناء الهابط) بما أنه ليس هناك ما يسمى بالموسيقى الهابطة أو الأداء الهابط. يقول لنا "المغزى في المؤلف الكلامي". ويضيف "الهبوط في الكلام يشير إلى الركاكة والبنيان المهترئ للنص الغنائي والذي لا يمكن تسميته بقصيدة بتاتاً". ويسوق مثلا بـ"غناء المغارز" وهو جدال لحني بين "قونة" وأخرى في إطار لغوي متدنٍ تستدعيه حالة الخصومة والتنافس. ويسأل الجبلابي بعض المغنيات الكبار حيال "النقطة" وهو مال يُغدغ في اسراف وحماسة على رأس المغنية، فيجبنه "أكل العيش".

وتصف الطبيبة النفسية والشاعرة رندا الكاروري، رفض المجتمع لظاهرة غناء القونات في العلن وقبولهن في السر بـ"النفاق الاجتماعي". "فالبعض ربما يسعى لتجميل صورته وذائقته أمام الآخرين، لكنه في السر قد يتمايل طربا لصوت القونة أو دلالها وغنجها في الرقص". تضيف "أو لأن بعض الأغاني تدعم موقفا مهنيا ومناطقيا". وتحذر من أن ذلك قد يتطور ليصل حد الاضطراب النفسي (شيزوفرينيا)؛ وهي انفصام الشخصية لعدة شخصيات متناقضة في آن.

نقيض السائد وخارج الأقواس

يُعرّف الصحفي علاء الدين محمود الغناء وعملية الإبداع بأنه نتاج ما يجري في المجتمع. "لحظة احتجاج تختلف في مقدارها وكيفيتها، لأنها تتمثل قيما مختلفة ونقيضا للسائد". ويرى أن هذه الحالة ليست قصرا على السودان، وأن هناك أنواعا من الموسيقى اعتبرت غريبة وخارجة عن السائد؛ أي ضد "النظام" المتمثل في القيم التي تخص طبقة اجتماعية وتريد أن تجعل من أخلاقها المثال الذي يجب أن يعمم. يقول "بالتالي مثل تلك الموسبقى والفنون لا تتمثل القيم السائدة بل وتعريها". ويستدعي مقولة رولان بارت أن هنالك خداع يحول الثقافة البرجوازية الصغيرة إلى طبيعة كلية، وسمات عامة للمجتمع والفرد، والنظر إلى نمط الحياة اليومي البرجوازي في تفاصيله الصغيرة، فيتعظم ويصبح نمط عيش وحياة. يضيف "هذا تنميط للحياة نفسها، عندما نفترض أن هنالك موسيقى راقية وفنون راقية وأدب كذلك عالٍ". ويذهب، أنه من هنا، تنشأ المعايير الفاسدة التي تقسم الإبداع إلى عالٍ وآخر متدنٍ وهابط. ويضيف "وتنشأ في ذات الوقت مؤسسات لحراسة تلك القيم مثل اتحاد المهن الموسيقية وغيرها".

ويرى الموسيقي والمغني هشام كمال أن موسيقى الزنق، تيار جديد له قواعده وأشكاله وسمته اللحني الجديد تماما، يجب أن لا توضع بين الأقواس لتأطيرها أو تحجيمها. يضيف "بالتأكيد ظاهرة "القونات" هي تمرد ونتاج طبيعي لقهر السلطة أولا، والمجتمع الذي يقهر نفسه ثانيا". ويتساءل "لو لم يكن هذا تمردا علي القوالب الاجتماعية والموسيقية، بكل محمول الكلمات والايقاعات والممارسة في حفلات المغنيات وموسيقاهم ورقصهم الصاخب، فماذا نسميه؟".

ويطالب كمال دارسي الموسيقى الإهتمام بموسيقى الزنق وتدوينها وتحليل المحركات التي تنتجها، تمهيداً لوضع أسس علمية لتدريسها، كنمط موسيقى سوداني، يكوّن فتحاً موسيقياً جديداً  يخدم الثقافة الموسيقية محلياً وعالمياً.

يقول لنا "على صعيدي الشخصي إذا ما تقدمت في المجال الموسيقي الأكاديمي، فلن أجد مادة خصبة وجميلة للدراسة من موسيقى الزنق وما يشبهها من الأنماط الموسيقية الجديدة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image