لا يفارق خيالي قط مظهر صديقي المُعتقل بينما ينزل من سيارة الترحيلات. كان ضمن مجموعة متظاهرين ألقي القبض عليهم في أحداث العباسية في 2012. كانوا جميعاً مطأطئي الرؤوس وبدا على أجسادهم ما هو أكثر من الإنهاك؛ بدا عليهم الاستسلام.
ثم أتذكر ذلك المقطع من أغنية "الشهيد": "كنت اشتكى يخدونى بالنبوت والظلم ياما فوق دماغى دق".
كان للأغاني الثورية دور ليس بقليل في حشد الناس، ومنحت المصريين شكلاً من أشكال التعبير عن أنفسهم، كما كتبت الباحثة الأمريكية كلير هيرمان. تضمنت مشاعر الغضب، والحداد، والحنين، والصبر.
جنازة "لانشون"
أسرتني جرأة تلك الكلمات في أغنية "أول ما سحبت حزامي" حين سمعتها للمرة الأولى:
تعا ريّح عندي شوية
ما هو بايت برا الليلة
للصبح معاه دورية
تفترض الأغنية هنا أن امرأة دعته لمنزلها، مستغلةً انشغالَ زوجها الضابط في "دورية أمنية"، بينما هو يعنفها. والرسالة هنا واضحة للغاية، حالة أقرب إلى الواقعية. ذكرني ذلك بفيديو لبلطجي "مسجل خطر"، دبّر فخاً لأحد أمناء الشرطة، بأن مهّد لعلاقة بينه وبين زوجته، وبعد حضور أمين الشرطة فاجأهم "متلبسين"، وأجبره على الاعتراف بأنه "دائم تلفيق القضايا له".
عندما أردّ من خيال المهرجانات لواقع العديد من المناطق الشعبية التي اختبرتُها، أجد هذا التضامن المضمر والمعلن لـ"البلطجية" المطاردين من الشرطة، مثل "لانشون"، فهو مواطن مصري مصنف لدى الأمن بأنه "مسجل خطر"، من منطقة بركة السبع في محافظة المنوفية.
"لانشون" سُجن 9 سنوات، بتهم تتعلق بـالبلطجة والاتجار بالمخدرات، وبعدما قضى فترة محكوميته لا يزال الأمن يطارده.
قرر لانشون مواجهتهم بطريقة أخرى. أنشأ قناة على يوتيوب يستعرض فيها ما وصفها بـ"انتهاكات الأمن" ضده وضد أهالي قريته، ومحاولة تلفيق قضايا له. وصل الأمر إلى حد تهديده مديرَ أمن المنوفية بصفته "أقسم بالله لاخربلك الدنيا".
يبدو أن الأمن لم يتحمل ما يقوله لانشون على قناته، فقرر تصفيته خلال مطاردة أمنية. الغريب أن جنازة لانشون كانت مهيبة، شارك فيها كثيرون، أهل قريته والقرى المجاورة. عامله الناس كما لو كان بطلاً شعبياً على غرار أدهم الشرقاوي. وعاملته الشرطة كما لو كان إرهابياً.
المشهد ذاته تكرر أمامي في منطقة بولاق الدكرور عام 2018؛ كانت الشرطة تطارد أحد الشباب يُدعى "حمادة حمدي" بزعم حيازته للمخدرات. اللافت أن "حمادة" كان يلقى التشجيع من المتواجدين بالشوارع أثناء المطاردة، وكأننا نشاهد ماراثون لا ينقصه سوى التشجيع حتى يصل خط النهاية. لم يعترضه أحد من الجمهور، ولم يحاول أحد التدخل لمساعدة الشرطة في القبض عليه. فقط كانوا يشاهدون ويشجعون بطلهم كما لو كان أدهم الشرقاوي أيضاً.
كانت الشرطة تطارد أحد الشباب يُدعى "حمادة حمدي"، بزعم حيازته للمخدرات، اللافت أن "حمادة" كان يلقى التشجيع من المتواجدين بالشوارع أثناء المطاردة، ولم يحاول أحد التدخل لمساعدة الشرطة في القبض عليه. فقط كانوا يشاهدون ويشجعون بطلهم كما لو كان أدهم الشرقاوي
البلطجي أو مسجل الخطر قد يحظى بدعم الجميع في معركته أمام الأمن، لكن الأمر يختلف في منطقة مثل وسط القاهرة، حين جلست على الرصيف ألفّ "سيجارة حشيش"، رآني أحد أمناء الشرطة، وحين هممت بالهرب، أمسك بي مواطنون كانوا في الشارع حينها، خدمةً للشرطي.
قلت في نفسي آنذاك: لو كنت في منطقة شعبية لساعدوني على الهرب بدلاً من القبض علي.
"مشيني تشرب الشاي"
حيثما يوجد الفساد يمكن للمال أن يحلَّ أموراً ومشكلات كثيرةً. تدفع لأمين الشرطة رشوةً، فلا يعطيك مخالفة؛ وترشي الضابطَ فينهي لك رخصك؛ يمسكون بك بمخدرات فتهديها إليهم ويتركونك تذهب حراً؛ مثلما حدث معي في محطة مترو السيدة زينب حين أمسك بي ضابط وبحوزتي مخدر الحشيش. قرر الضابط أن يستولي على ما لدي مقابل أن يتركني لأذهب.
حالة جسدتْها أغنيةُ مهرجان "جت الحكومة فتش فتش". عندما ألقي القبض على الشاب كما تحكي الأغنية، يقول للضابط:
أنا ابن ناس جيبي مليان
أيوه عليك هبقشش
مشّيني تشرب الشاي
في المنطقة الشعبية، يستطيع البلطجي تغيير المعادلة بأكملها، للدرجة التي قد يسعى فيها الشرطي لتوطيد علاقته بالبلطجي في منطقته، وقد يخبره بموعد نزول الحملات المفاجئة.
مشهد رأيناه كثيراً، حتى إن الأعمال الفنية جسدته مثل مسلسل "كلبش".
وأحياناً قد يتفاخر الضابط بعلاقته مع بلطجي، مثل ضابط شرطة الإسكندرية العميد "محمد عتماوي"، والذي لا يتوانى عن استعراض علاقته بصبري نخنوخ المجرم الأشهر بالإسكندرية، المعادلة، والخروج عن تلك القاعدة يضعك في خانة "المرشدين".
آه يا مرشدين
لما أخرج هاخد فيكم العزا
بدأ الحساب للكلاب
واللي خان يترازى
أما الأصدقاء، وضعهم يختلف عن "الأخصام". يعترفون بسيطرة أصدقائهم وأفضالهم عليهم، حتى إنهم يروجون لهم ويساعدونهم في الوصول للشهرة بالترويج لأسمائهم ومجالات احترافهم، بتلحينها في نهاية كل أغنية. وهو أمر مستحدث في "لعبة التسويق"، أدخلته أغاني المهرجانات، مثل نهاية أغنية: "سلامات على ناس عملولي إخوات".
يسحبون البساط من "النخبة"
بات صدى المهرجانات الشعبية يتردد في معظم حفلات زفاف الطبقة الوسطى، والنوادي الليلية الخاصة بصفوة المجتمع، وحتى في المناسبات القومية التي تقام في الأعياد الوطنية أو الانتخابات، بعد أن كان مقتصراً فقط على سائقي الميكروباص والأحياء الشعبية.
ربما هذا ما دفع البعض من نخبة الفن المصري، إلى مهاجمتهم باستمرار ومحاولة التضييق عليهم، باتهامات مثل ترويج "الفن الهابط"، وآخرها كان قرار نقيب الموسيقيين هاني شاكر بإيقاف 19 من مطربي المهرجانات في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، إضافة إلى تصريحاته المعادية لهم والمستمرة حتى الآن.
كان للأغاني الثورية دور ليس بقليل في حشد الناس، ومنحت المصريين شكلاً من أشكال التعبير عن أنفسهم، بالنسبة لي، لم يكن من بين تلك المعاني "القوة" و"الجرأة" في التعامل مع الشرطة، خاصةً بعد أن أدمنت الاستماع إلى أغاني "المهرجانات"
حتى وصل الأمر إلى مطالبة الموسيقار حلمي بكر، على الهواء، بتدخل الشرطة لمنعهم من الغناء بالقوة، وعلى الجانب الآخر، يلقى مطربو المهرجانات قبولاً واسعاً في العالم العربي. نعرف ذلك حين نشاهد التعليقات على أغانيهم على يوتيوب من الدول العربية.
والآن من تُوجّه إليهم الدعوات لإحياء حفلاتهم في الخارج، هم مطربو المهرجانات، مثل حسن شاكوش وحمو بيكا وغيرهم، إذ باتت الدعوات تنهال عليهم من الدول العربية، سواءً السعودية أو الإمارات، وحتى الدول الأجنبية، مثل الولايات المتحدة التي استضافت حسن شاكوش. قبل ذلك كانت الأسماء المتداولة لإحياء الحفلات بالخارج، هاني شاكر، ومحمد حماقي، وحمادة هلال، ومن على شاكلتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا