يستخدم العاملون في مجال التصميم البصري والمؤثرات الخاصة أثناء ضبطهم لتصميم الأشكال الحيّة مصطلح "The vally of the Uncanny"، أو ما يمكن ترجمته بـ"وادي الغرابة المألوفة"، كون صفة Uncanny، القادمة من التحليل النفسي (سيغموند فرويد، جوليا كريستيفا)، لا ترجمة لها باللغة العربيّة.
يتفعل الشعور بالغرابة المألوفة حين نحملق بمنحوتة أو تصميم لجسد أو كائن حيّ يسّعى لمطابقة الواقع لكنه يفشل بذلك، لا بسبب عطب في تصميمه، بل بسبب إشكالية إدراكيّة تخلق الرعب وشعوراً بالغرابة بسبب ما نراه. فما نحملق به موجود في مساحة لا يمكن وصف ما فيها بأنه يطابق الواقع، في نفس الوقت لا يمكن القول إنه مختلف عنه. يمكن القول إن الغرابة المألوفة ترتبط بإدراكنا للجسد البشري، وقدرتنا على تصديق ما نراه ومدى مشابهته لنا، فضمن وادي الغرابة المألوفة نقف على عتبة بين قرارين لا حسم لواحد منهما، إذ نصدق ولا نصدق ما نراه في نفس الوقت، ما يخلق رعباً داخلنا سببه التشابه الشديد مع الواقع بل ومطابقته مع عجزنا عن الإقرار بهذه الحقيقة.
يتفعل الشعور بالغرابة المألوفة حين نحملق بمنحوتة أو تصميم لجسد أو كائن حيّ يسّعى لمطابقة الواقع لكنه يفشل بذلك، لا بسبب عطب في تصميمه، بل بسبب إشكالية إدراكيّة تخلق الرعب وشعوراً بالغرابة بسبب ما نراه
يُفعّل الحس بالغرابة المألوفة مشاعر مختلطة (الكلمة هنا دقيقة لأن العملية العقلية تتعطل حين نقع في هذه الإشكاليّة) وتُطرح بسببه مجموعة من الأسئلة، هل ما نراه حقيقي؟ أو مفرط في واقعيته؟ هل هذا الجسد الذي أراه سيتحرك ؟ أم أن الدماغ/دماغي يفترض أنه سيتحرك؟ هل يشبهني؟ أم أختلف عنه؟ المثال الأشهر على هذه الحالة الشعورية هو التوأم، التطابق المرعب بينهما جعلهما محط الدراسات النفسية والطبيّة، وكأنه لا يمكن للجسد البشري أن يكون نفسه مرتين، هذا حرفياً، ما لا يستوعبه العقل.
ما يشبهني وأختلف عنه
يستضيف متحف مايول في العاصمة الفرنسية باريس، معرض "الواقعية الفائقة- هذا ليس جسداً"، القسم الثاني إشارة إلى لوحة "هذا ليس غليوناً" لرينية ماغريت، أما فيما يخص الواقعية الفائقة، فهي إشارة إلى التيار الفني الذي ظهر ستينيات القرن الماضي، وما زال مستمراً إلى الآن، وعبره عمد الفنانون من أوروبا وأمريكا إلى إنتاج منحوتات فائقة الواقعية، تبدو وكأنها حيّة، لنرى أنفسنا حين ندخل صالات العرض أمام أجساد بشرية تبدو وكأنها على وشك التحرك. هي موجودات تزرع فينا الرعب، أجساد وأنصاف أجساد وتفاصيل شديدة الواقعية نحاول لمسها للتأكد من حقيقة حياتها، لكن دماغنا وقوانين المعرض نفسها تمنعنا، إذ نعلم أنها منحوتات، لكن ماذا لو كانت حيّة، هكذا يردد صوت في مؤخرة الرأس.
يستضيف متحف مايول في العاصمة الفرنسية باريس، معرض "الواقعية الفائقة- هذا ليس جسداً"، القسم الثاني إشارة إلى لوحة "هذا ليس غليوناً" لرينية ماغريت، أما فيما يخص الواقعية الفائقة، فهي إشارة إلى التيار الفني الذي ظهر ستينات القرن الماضي، ومازال مستمراً إلى الآن
الجولة في المعرض تثير القشعريرة. امرأتان مستلقيتان هناك، وفي الممر طفلة تثير الرعب تحتضن مسخاً، ثم حلمة عملاقة وسط جدار تغيظ الزوار، لكن سبب القشعريرة ليس طبيعة الأشكال نفسها، بل واقعيتها المفرطة، تلك التي تدفعنا للتشكيك بذاتنا نفسها، فأن نتأمل الخطوط على راحة الكف، أو ثنايا الأجفان على وجه أندي وارهول العملاق تجربة لا تتكرر يومياً، لأن أسلوب إدراكنا نفسه مُهدد بسبب هذه التماثيل، ما أراه/نراه يشبه البشر. نَفَسٌ واحد فقط يكفي كي تبعث "الحياة" ويرف جفنٌ أو تنتفخ رئة. لا بد أن نشير أيضاً أن زيارة المعرض تترافق مع هلع طفيف ورغبة بالهرب والابتعاد، فهذه الأجساد المُتقن تصويرها للواقع، لا تشبهني، بل تختلف كلياً عنا نحن الجمهور. الندبة على جسد مثالي منحوت تختلف عن صفعة لا أثر لها على الوجه، أو جرح قديم على ساعد إحداهن.
هذه الأجساد لا تشبهنا بالرغم من تطابقها مع أشكالنا وملمسنا، ولا يمكن أن أستبدل ملامحي بملامحها، أختلف عنها كليّاً، وهنا المفارقة، الديون، الجراح القديمة، الفقدان، كل ما يختزنه جسدي أو جسد أي واحد من المشاهدين غير موجود في التماثيل، هي أجساد بلا تاريخ، بالرغم من أن بعضها يمثل أشخاصاً حقيقيين، لكنها لحم اصطناعيّ مرصوف بدقة، استعراض للمهارة حد الرعب. لا ننكر جهد الفنان، لكن هذه الغرابة المألوفة تفعل فينا حساً باللامعقول، سببه ربما، العجز عن التماهي مع ما نراه، أو وضع أنفسنا مكانه. ربما يكون الشأن أيضاً مرتبطاً بالسكون نفسه، فالتماثيل لا تتحرك، ولا تفنى، ولا تتحلل، ولا تنبض، وهنا المفارقة، لا يمكن لجسد يشبهنا حد التطابق أن يبقى ثابتاً كـ"تمثال". هذا ما لا يستطيع الدماغ إدراكه، لكن أكثر ما يثير الفزع هو اكتشافنا أثناء التحديق بالتماثيل أن مطابقة الشكل البشري، على الأقل، مكوناته الخارجيّة، شأن ليس بمستحيل التحقيق.
الملفت أن الحس بالغرابة المألوفة، يتحرك بشكل آخر ضمن المعرض نفسه، لا ضمن صالات العرض، بل داخل الحمامات، حيث توجد مرآة نحدق/ أحدق بها، إذ بمجرد الوقوف أمامها يُطرح سؤال من هذا الآخر الذي نراه في عمق المرآة، كائن الانعكاس فاقد اللغة (حسب بورخيس)
الواقعية الفائقة والعنف السياسيّ
اللافت أن الحس بالغرابة المألوفة، يتحرك بشكل آخر ضمن المعرض نفسه، لا ضمن صالات العرض، بل داخل الحمامات، حيث مرآة نحدق/ أحدق بها، إذ بمجرد الوقوف أمامها يُطرح سؤال من هذا الآخر الذي نراه في عمق المرآة، كائن الانعكاس فاقد اللغة (حسب بورخيس)، ذاك الأخرس الذي يكرر ما أقوله فقط؟. اللافت أن حتى ذاك الذي يشبه وجهي في المرآة، لا يشبهني. أشبه بكائن غريب، يتطابق معي لكنه عاجز عن مشابهتي. وهنا تظهر مفارقة مريبة، إن كان التحديق بالتماثيل الفائقة الواقعية يفعل الغرابة المألوفة، التحديق بالمرآة يفعل النوستالجيا، الحنين إلى "أنا" مفقودة، لا نعلم حتى إن كنا نمتلكها أو إن كانت موجودة في لحظة ما.
نعود للمشي في صالات المتحف، أجساد مفرطة في الواقعية تحيط بنا، نتأمل التفاصيل، شعر اليد المقشعرّ، شفافية العين أمام الضوء، لحم مترهل هنا، وشقوق في وجه عجوز هناك، كلها اختزال لأشهر من العمل المضني لتكوين جسد يشبه البشر تماماً، دقائق ثم يعود الرعب مرة أخرى، ملايين الصور المتداولة لمئات آلاف ضحايا العنف السياسي يمكن الوصول إليها بنقرة زر واحدة، أوجه محروقة، بلا معالم، ولا تحتاج أي جهد من أجل تكونيها، الجاذبية نفسها تتكفل بأن تصنع هكذا أوجه وأجساد تستعرض علناً، الملفت، أن أوجه الضحايا، تُشبهني.
نقرأ في مقدمة كاتالوغ المعرض عن الواقعية الفائقة بوصفها محاولة للتخلي عن المقاربة الجمالية اليونانية، تلك التي ترى في الجسد المثالي مركز العالم، إذ تسعى الواقعية الفائقة إلى الإغراق في الجسد الإنساني الطبيعي، ذاك المثالي في واقعيته، لا بشكله، الشأن الذي يتجلى بشكل الجلد مثلاً ومسامه، والشعر، والتجاعيد، والترهلات، نحن لسنا أمام أجساد رياضيّة ممشوقة كما في المنحوتات الكلاسيكية بل أمام أجساد ذات عيوب بشريّة، تلك التي تُنتج من القوة المختلفة التي تترك أثرها في اللحم نفسه، كالزمن، الحوادث، الجينات، الجهد، لكن، ماذا عن الخوف من الموت ؟ ماذا عن القلق الدائم ؟ ما هي آثارها على اللحم ؟ هذه الأسئلة ترتبط بالواقعية الفائقة نفسها، وقدرتها "الفوتوغرافيّة" على التقاط "لحظة" ما، لحظة خالية من "الأنا"، لحظة تثير الرعب، والغرابة المألوفة. والأهم، لحظة تنفي قدرة الذات على التماهي مع ما تراه، حتى تلك المنحوتات العملاقة التي تراهن على الـSublime لتخلق فينا الدهشة، تبدو، لثانية، مبتذلة، ذات أعين شديدة الواقعية لكنها خالية، نحدق بها لنرى أنفسنا، دون أن نتمكن من ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 20 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت