شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ليلة في سجن إمبابة

ليلة في سجن إمبابة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الجمعة 7 أكتوبر 202201:50 م

تمساح صغير بأعلى الدولاب. أحدق فيه خائفاً، وأنكمش في فرشتي. فجأة يقفز نحوي، ويتشبث بكتفي.

أستيقظ من نومي مفزوعاً، أشعر بأنه لا يزال عالقاً بكتفي. أقوم وأتجه إلى المطبخ، حيث تشوي أمي السمك. وسمك أمي غير باقي الأسماك.

أحكي لها عن الحلم، فيتبدل لونها. تخبرني أن التمساح يدل على رجال الشرطة. يبدو عليها القلق وهي تحاول أن تطرد الفكرة من رأسها ورأسي: "دي تخاريف... المظلوم ما يخفش... أقعد كُل".

وأجلس لتناول الطعام فإذ بدقات متتالية وخفيفة على الباب. أنهض، وأفتح الباب، فتداهمني وجوههم، إنهم التماسيح، أخيراً عثروا على ضالتهم.

طالبوا مني أن أرتدي ملابسي وأذهب معهم. وقد وعدني رئيسهم بأنني سأعود إلى بيتي في نفس الليلة، وإنها مجرد إجراءات شكلية.

وعند مدخل البيت، نظر إليّ طويلاً، كأنه يتفحصني، ثم أعاد النظر إلى بطاقتي الشخصية متسائلاً بتعجب: "قضيتك إيه؟".

بصوت خفيض أجبت بأنها قضية نفقة، نفقة صغاري الذين لا أعلم عنهم شيئاً منذ سنوات.

أجلس لتناول الطعام فإذ بدقات متتالية وخفيفة على الباب. أنهض، وأفتح الباب، فتداهمني وجوههم، إنهم التماسيح، أخيراً عثروا على ضالتهم.

بدا التعاطف عليه واضحاً وهو يهز رأسه بحسرة: "يا أخي ملعون أبو النسوان".

بعدها سألني عن مهنتي. 

"كاتب". قلت.

بدت له الكلمة غير مفهومة، فأوضحت له أنني أكتب الرواية والسيناريو والمقال. نظر إلي طويلاً ثم تساءل: "وليه ما رفعتش قضية حق رؤية؟".

في الحقيقة، كنتُ قد رفعت دعوة لرؤية الأطفال بمحكمة الأسرة. 

قبلها كنتُ محطماً تماماً. مر أكثر من عام دون أن أعرف عنهم شيئاً حتى أصبت بنزيف داخلي، وتدهورت حالتي النفسية. فاضطررت إلى مهاتفة زوجتي السابقة. كان ردها حاداً كالعادة. 

 "لن تري أولادك إلا إذا رأيت حلمة ودنك... إذا كنت ترغب في رؤيتهم فعليك باللجوء إلى المحكمة".

وهذا ما كان.

في اليوم التالي، توجهت إلى محكمة الأسرة. كانت الموظفة المختصة عصبية. صاحت في وجهي وطلبت مني الجلوس حتى تنتهي من عملها.

جلستُ ساعة وثانية حتى جاء دوري. نظرتْ في أوراقي متسائلة: "يعني إيه كاتب دي؟ شغال معانا في المحكمة؟".

وأوضحت لها الأمر، فابتسمت لأول مرة، ودعتني للجلوس مرحبة بحفاوة. هي أيضاً تحب الكتابة، وتكتب الشعر والنثر، وقد بحثت طويلاً عمن يكتشفها. وطلبت مني الإيميل الخاص لإرسال قصائدها، ثم أجرت اتصالاً هاتفياً بزميل لها أنهى جميع أوراقي في دقائق.

كان عليّ بعد ذلك أن أتجه إلى الأخصائي الاجتماعي والأخصائي النفسي لتحديد أهلية الرؤية. وقد حددا لي ميعاداً، غير أنني فوتت هذا الميعاد مجبوراً. وفي اليوم التالي، ذهبت إليهما – كانتا فتاتين في أوائل الثلاثين- فوجدت ترحاباً كبيراً في الاستقبال. وقد رددت إحداهنّ: "عمرو عاشور... كنا في انتظار حضرتك"

بدا الأمر غريباً، فاسمي في الأوراق الرسمية عمرو مصطفى عاشور... فـكيف عرفوا اسم الشهرة؟

أعتقد أنني أمزح، فصدر لي وجهه الحاد أو كما نقول: "الوش الخشب". وبدأ يزوم كأسد غاضب، وكأنه مشهد سينمائي فعلاً. صوت أجش من العمق رج المكان: "انت عمرو!". "مجدي كوكو": هكذا صحت بفرح صادق

وجاءت الإجابة، حين باحت المختصة بأن زوجتي حضرت بالأمس، وقد أخبرتهما أنني مصاب بالجنون - وربما بما هو أسوأ- وأنها تخشي على الأولاد من رؤيتي، وحين عرفتا أنني أكتب، بحثتا عن مقالاتي على الانترنت، فتعرفتا على صفحتي بموقع رصيف22 ومواقع أخرى.

ويبدو أنهما عكفتا على قراءة المقالات. فـكانت الجلسة تدور حول تلك المقالات، وبخاصة مقالة: "كيف نفهم أطفالنا قبل النطق، ابني عبقري فكيف أتعامل معه؟"

وبذلك فقط فزت بالقضية، وأصبح من حقي قانونياً أن أري أبنائي. ولكن، زوجتي ماطلت في الحكم. 

وكان بإمكاني أن أرفع قضية أخرى. ولكن، أي قضية؟ لم – ولن – أرغب في إيذائها. كل ما رغبت فيه – ولا أزال- مشاركتها في رعاية الأطفال.

ومع ذلك، لم تتوقف هي عن ملاحقتي بالقضايا، حتى جاء اليوم التي قُبض عليّ فيه، لأكون أحد نزلاء حجز إمبابة في مصر.

غير أنها لم تكن تجربة قاسية كما اعتقدت، لعله حسن الحظ أو ربما احتراماً للمهنة تستحق أو تقديراً للفن. لا أعرف.

في القسم، تلقيت تعاملات خاصة بعد توصية من رئيس المباحث نفسه. ولم أسمع كلمة سيئة من أحد.

حتى الأمين رفض أن يضع "الكلبشات" في يدي أو وضعي في التخشيبة لحين العرض على النيابة ليلاً.

وكيل النيابة أيضاً كان متفهماً للغاية، وكان عليّ أن أدفع 50 جنيهاً ككفالة. ولم أكن وقتها أملك غير 49 جنيهاً، فطلبتُ منه أن يسامحني في الجنيه المتبقي. غير أنه بادر: "مش هاخد منك حاجة. حط فلوسك في جيبك". ودفع الكفالة من جيبه.

هنا، كان علينا العودة إلى القسم للعرض ثم إخلاء السبيل. ولكن، أثناء العرض، أخبروني بأنني سأقضي ليلتي معهم، وذلك لوجود عرض آخر بالصباح.

مئات من المشاهد السينمائية تضاربت في رأسي. نزيل خام ومستجد سيقع ضحية كبار المجرمين. ولكن ما حدث غير ذلك تماماً.

تم إنزالي في حجز 2، وهو الحجز المتعلق بقضايا محكمة الأسرة. الزنزانة الضيقة مفروشة الأرضية بالبطاطين ونظيفة. على الفور استقبلني النباطشي - وهو نزيل مسؤول على حركة الحجز وهو وسيلة الوصل بين النزلاء ورجال القسم، ومن خلاله يتم حصد "نبطيشية" الليلة، وهي تختلف من حجز لآخر بحسب مستواه، من حيث خدماته ونزلاؤه - وكانت "نبطيشية" هذا الحجز 200 جنيه.

 بالطبع، لم أكن أملك هذا المبالغ. وكانت ردة فعله غريبة. سألني: "جعان؟" وكنت ميتاً من الجوع، فطلب مني أن أخلع حذائي عند الباب، وأن أدخل الحمام وأغسل قدميّ.

وحين خرجت من الحمام النصف متر في نصف متر، وذات حنفية منخفضة، وجدته قد حضر العشاء. وهي الوجبة الرئيسية والسائدة، التعيين: عيش، حلوة، جبنة. الآن فقط عرفت لمَ ارتبطت الحلاوة بالسجون. 

جاء جلوسي بجوار شاب، عرفت أنه رجل أعمال، وأنه تزوج مرتين، فتحالفت الزوجتان ضده، جعلتاه على الحديدة ثم زجتا به إلى السجن.

مسجون آخر كان قد حضر معي، لم يتوقف عن الصراخ وضرب رأسه بالحائط وهو يردد متعجباً: "إزاي... إزاي؟"

وعرفت أنه كان نائماً في حضن زوجته حين داهمه ضباط تنفيذ الأحكام، وذلك لأن الزوجة رفعت عليه قضية تبديد لقائمة الزوجية – وهو زوجها لا يزال، والقانون لا يمنع ذلك- وكانت تخفي جوابات المحكمة حتى حكم عليه بالفعل.

العشرات من القصص المتشابهة. كان النزلاء يتناوبون على روي قصصهم كما كانوا يتناوبون على السجائر.

بالحجز، تعرفت أيضاً على المحاسب الشاب الذي يقضي يومه في كتابة السيناريوهات السينمائية، وعلى مهندس البترول الذي يحب الشعر، ويتفنن في قصائده العامية. والصيدلي صاحب الصوت الشجي الجميل، فقضيت ليلتي بين الغناء والطرب، وتبادل أبيات الشعر. كانت أمسية أنس وفن مع شركاء التجربة والمأساة.

بالحجز، تعرفت أيضاً على المحاسب الشاب الذي يقضي يومه في كتابة السيناريوهات السينمائية، وعلى مهندس البترول الذي يحب الشعر، ويتفنن في قصائده العامية

الغريب أنني نمت بعمق فعلاً، نوم لم أذق مثله من عدة سنوات. وفي النوم، زارني منام واحد وثابت. كنتُ في الحلم نائماً أيضاً بنفس الحجز وأمامي شاشة عرض عملاقة تعرض الفيلم الكوميدي الذي تمّ إخراجه عام 1954 "الآنسة حنفي". كان الحلم يكرر مشهداً ثابتاً لا يتغير: زكية ست أشهر تطارد أبو سريع برفقة العسكري. كانت تردد صائحة: "أنا زكية ست أشهر... يا الدفع يا الحبس"

في السادسة صباحاً انتبهت من غفوتي على إثر يد تهزني. كان "النبطشي" ينظر إلي مستغرباً: "بتضحك وأنت نايم؟ قوم... نادوا على اسمك"

لبيت النداء، وذهبت للنيابة التي أخلت سبيلي بلا كفالة تُذكر. وعدت القسم مجدداً حتى العرض المسائي.

وقتذاك، كانت الساعة الواحدة ظهراً تقريباً، وكانت هناك مجموعة كبيرة من النزلاء عائدة. وكان الضابط منفعلاً، وهو يصيح: "كله ينزل بطن الجبل".

وصُدم الشاب المرعب الذي كان يقف إلى جواري: "بطن الجبل!".

سمعت صوت أمعائي وهي تتحرك. يبدو أن وقت الدلع قد مضي وأنني سأواجه الآن متاعب لا حصر لها. خصوصاً بعد معرفتي بسبب تسمية حجز 9 بهذا اللقب، فـهو يقع في جوف الأرض، حيث يتوجب عليك نزول درجات ضيقة محني الرأس، لتصل إلى قاعة جافة تهب من جوانب رائحة الرطوبة. وكأنك بداخل قلب الجبل بالفعل، حيث بإمكانك أن ترى الجدران وهي تبكي على المحابيس.

ما إن وضعت قدمي بداخل بطن الجبل حتى هبت رائحة عفنة، مزيج من العرق وبقايا الطعام. وقتها أيقنت أن هنا غير. 

"لقد كان الفن – وهو دائماً كذلك- طوق نجاة، وسلطة تحترمها كل سلطة، وحرية حتى بين القضبان، وهو وحده القادر على تحويل أسوأ اللحظات إلى أسعد الأوقات"

وبالفعل، استقبلني "النبطشي" الجديد – وهو عكس "النبطشي" القديم تماماً- طالباً مني 50 "نبطشية" العنبر. ولم يكن معي غير ربع جنيه فضة – آه والله- وقلت له إنني لا أملك غيره فخذه حلال عليك.

أعتقد أنني أمزح، فصدر لي وجهه الحاد أو كما نقول: "الوش الخشب". وبدأ يزوم كأسد غاضب، وكأنه مشهد سينمائي فعلاً. صوت أجش من العمق رج المكان: "انت عمرو!".

"مجدي كوكو": هكذا صحت بفرح صادق. كان كوكو صديق الطفولة، عشت معه مراحل حياتي حتى افترقنا حين التحقت بالجامعة. استمر هو في مغامراته وجنونه حتى أصبح أسطورة في عالم الجريمة. بينما اتخذت أنا طريق العلم. وها هو القدر جمعنا من جديد. وجاء اللقاء في الوقت المناسب تماماً.

سب أم "النبطشي" وهو يشير إليّ كي أقاسمه فرشته. أزاح المخدة فوجدت دولاباً كاملاً للمخدرات بأنواعها. عينات من كافة أنواع المخدرات، وحكايات، ذكريات رحنا نسترجعها عن الطفولة والمراهقة.

 كان مجدي – ولا يزال- حكاءً من نوع خاص. وكانوا النزلاء قد تجمعوا حولنا، يستمعون ويستمتعون بحكاياته، وفنه المتفرد.

"لقد كان الفن – وهو دائماً كذلك- طوق نجاة، وسلطة تحترمها كل سلطة، وحرية حتى بين القضبان، وهو وحده القادر على تحويل أسوأ اللحظات إلى أسعد الأوقات".

هذا ما كنت أقوله لأمي وأنا آكل من سمكها. السمك الذي تتفنن في طهوه، والذي كدتُ أن أُحرم منه بسبب التماسيح. ولكن، حتى التماسيح تقدر الفن وتحترمه.   


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image