اعتاد منيب، تدخين سيجارته في الصباح الباكر من دون إفطار، وهو متوجه إلى عمله في بلدة الرفيد، في البقاع اللبناني.
منيب، البالغ من العمر 14 عاماً، ينحدر من ريف العاصمة السورية دمشق، ونزح مع عائلته إلى لبنان عام 2016. ترك المدرسة منذ بداية جائحة كورونا، بسبب تحول العملية التعليمية إلى تعلّم عن بعد، ولم يتمكن من الاستمرار لصعوبة توفر الإنترنت والكهرباء. اضطر إلى العمل في ورشة نجارة قريبة من منزله للمساعدة في إعالة أسرته المكونة من خمسة أفراد، وهناك تعلم التدخين مع صديقه عمران، وأصبحا يتعاونان لشراء علبة السجائر.
أخفى منيب الأمر عن والديه، إلا أن والدته عرفت لاحقاً أنه يدخن، وساهم في استمراره في الأمر تغيّب والده المتكرر عن منزله بسبب عمله في بيروت.
عند سؤاله "لماذا تدخن وأنت ما زلت صغيراً؟"، قال: "عم فش خلقي فيها. لا أستطيع العودة إلى المدرسة، وعائلتي تحتاج إلى أن أعمل وأساعدهم في مصروف البيت. عندما أدخن أشعر بأنني مسترخٍ ومرتاح".
عم فش خلقي فيها. لا أستطيع العودة إلى المدرسة، وعائلتي تحتاج إلى أن أعمل وأساعدهم في مصروف البيت.
انتشار لافت
تنتشر ظاهرة التدخين بشكل لافت بين كثير من الأطفال السوريين في لبنان، الذين يعيشون ظروفاً اقتصاديةً ونفسيةً صعبةً للغاية، وللأمر أسباب عدة على رأسها التسرّب المدرسي، وغياب رقابة الأهل، وتوافر المنتجات وسهولة الحصول عليها وانخفاض أسعارها نسبياً، وعدم وجود تطبيق عملي للقانون الذي يمنع بيع مثل هذه المنتجات للأطفال، وهو القانون رقم 174 الصادر عام 2011.
ومن الأسباب أيضاً، الترويج للأمر من خلال المشاهد الدرامية ومواقع التواصل الاجتماعي، عن طريق إظهار المدخن على أنه قوي الشخصية، والسيجارة تضيف إلى شخصيته جاذبيةً أكثر، وتكريس الأفكار والمعتقدات الخطأ بأن التدخين عادة مرتبطة بالكبار، مما يدفع الأطفال إلى تقليدهم، والاقتداء أحياناً بأفراد مدخنين في عائلاتهم، أو بأطفال آخرين في المحيط.
ونشرت جريدة الأخبار اللبنانية، في حزيران/ يونيو 2020، تقريراً يتحدث عن أن "21.5% من الإناث البالغات في لبنان و48.6% من الذكور البالغين، يدخّنون السجائر، مقابل 46.2% من الإناث البالغات و32.7% من الذكور البالغين يدخّنون النرجيلة". وأضافت أن الوضع بين المراهقين أسوأ، إذ إن "32.9% من الإناث و40.9% من الذكور، الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و17 سنةً، هم مدخّنون حاليون، بمعدّل أكثر من 36% من إجمالي القاصرين"، مما يجعل لبنان في المراتب الأولى عالمياً من حيث استهلاك الشباب للسجائر والنراجيل.
أحد الأطفال السوريين المدخنين في لبنان - خاص رصيف22
"من دونها لا أستطيع الدراسة"
يمان، طفل سوري من حمص، أكمل سن السادسة عشر، وهو طالب في مدرسة تابعة لإحدى منظمات الأمم المتحدة العاملة في لبنان. تعرّف يمان على النرجيلة قبل سنتين مع أصدقائه في أثناء ذهابهم إلى المسبح الصيفي، وهناك تعلق بها وعدّها مساعِدةً له في تحسين المزاج، وتعلم من أصدقائه شراء المعدات والمعسل وطريقة تعبئة رأس النرجيلة بحرفية عالية.
يعلم يمان، كما يقول، أن النرجيلة مضرة أكثر من التدخين، لكنه لا يستطيع الخروج من دونها. "حين أجتمع مع رفاقي، لا بد من وجود النرجيلة معنا في المطعم أو المسبح أو الملعب أو البيت. وأحياناً أدخن السجائر حين يصعب وجود النرجيلة. وبّختني والدتي مرات عدة بسببها، خاصةً عندما أحرقت لها عن طريق الخطأ سجادة الصالون".
ويشير الشاب إلى أن الأمر يؤثر من دون شك على دراسته. "بس تجي ببالي ما بقدر لا أدرس ولا آكل ولا أعمل شي".
وبحسب "أطلس التبغ" الأمريكي، فإن "نَفَس" النرجيلة أو الشيشة الواحد يعادل تدخين سيجارة واحدة بأكملها، كما أن جلسة شيشة واحدة توازي تدخين 20 إلى 30 سيجارةً، ما يبرز المخاطر الكبيرة للأمر.
حين أجتمع مع رفاقي، لا بد من وجود النرجيلة معنا في المطعم أو المسبح أو الملعب أو البيت. وأحياناً أدخن السجائر حين يصعب وجود النرجيلة. وبّختني والدتي مرات عدة بسببها، خاصةً عندما أحرقت لها عن طريق الخطأ سجادة الصالون
تسرّب مدرسي
في حديثه إلى رصيف22، يقول حسام صوان (40 عاماً)، وهو مدرس لمادة العلوم في إحدى المدارس التي تعلم الأطفال السوريين في منطقة البقاع، إن نسباً كبيرةً من الطلاب السوريين وفي أعمار متفاوتة من المدخنين، وهم إما مدمنون وإما في بداية طريق الإدمان.
ويضيف: "لاحظنا بشكل كبير ظاهرة التدخين، خاصةً بعد الانصراف من الدوام الرسمي. كثير من المشاجرات تحدث لهذا السبب، وبالرغم من جلسات التوعية التي نقوم بها عن ضرر التدخين، إلا أننا لا نجد تراجعاً لهذه الظاهرة بل هي في ارتفاع متزايد، حتى أننا نلاحظ عدوانيةً عند الطلاب المدخنين وتحدياً أكبر في المجاهرة بذلك. كما أن أحد أسباب التسرب المدرسي للطلاب السوريين، يعود إلى الإدمان على التدخين واللجوء إلى المقاهي لتدخين النرجيلة أيضاً".
قرابة نصف الأطفال السوريين في لبنان لا يذهبون إلى المدرسة.
ومن الحالات التي صادفها المعلم، طفل يبلغ من العمر 16 عاماً، يوقف زملاءه وتحت التهديد بالضرب يطلب السجائر منهم بالقوة. "نحن المدرسين، نحاول المحافظة على هؤلاء الأطفال من الضياع، كون الفرصة سنحت لهم لإكمال تعليمهم بالرغم من ظروف اللجوء الصعبة، لكن ليست لدينا إجراءات رادعة. وبالرغم من أننا أخبرنا الأهالي عن سلوك أبنائهم، لم نجد آذاناً صاغيةً".
وتقول منظمة هيومان رايتس ووتش، إن قرابة نصف الأطفال السوريين في لبنان، وعددهم 660 ألفاً، لا يذهبون إلى المدرسة، وقرابة 200 ألفاً منهم لم يرتادوا المدرسة قط.
حسين، البالغ من العمر 15 سنةً، طفل من مدينة درعا ويقيم مع عائلته في بلدة بر الياس البقاعية.
يقول لرصيف22، إنه مدخِّن منذ سنة تقريباً، وأيضاً من مدخّني النرجيلة. "منذ فترة ذهبت إلى صالة ألعاب الفيديو وتعرفت إلى شاب عشريني، باعني سجائر غالية الثمن وكان شكلها غريباً، لكنه أقنعني بأنها جيدة وعالية التأثير. بعد أن دخنتها شعرت باسترخاء شديد، وكل شيء من حولي جعلني أضحك، وبدت الأشياء أمامي شبه مشوشة، وبعد ساعتين تقريباً بدأ تأثير السيجارة يزول. لاحقاً، عرفت أنها سيجارة حشيش. سألت البالغين من رفاقي فحذروني من تعاطيها ومنهم من هددني بإبلاغ الدرك عني إن عدت إلى تدخينها مرةً أخرى".
"هل تعرف شباناً في مثل عمرك يتعاطون مثل هذه السجائر؟"، نسأله، فيجيب: "نعم، هم كثر، وخاصةً في السهرات الليلية والأعراس، لكن لا يمكنني إخبارك من هم".
جهود تحتاج إلى دعم
تسعى العديد من الجمعيات في لبنان إلى مكافحة ظاهرة إدمان الأطفال على التدخين بمختلف أنواعه، ويتطلب الأمر منها، بالرغم من كثرة عددها كما توضح تصريحات صحافية، من رئيس شعبة مكافحة المخدرات في الجمارك اللبنانية، جهوداً أكبر للحصول على نتائج فعلية على أرض الواقع، كما تحتاج إلى تمويل أكبر من الجهات المانحة للوقوف في وجه هذه الظاهرة المتفاقمة في البلاد.
في مقابلة مع الدكتور فراس الغضبان، وهو مدير جمعية "Endless Medical Advantage" الطبية التي تغطي مناطق مخيمات اللاجئين السوريين وبعض المناطق التي يتواجد فيها السوريون واللبنانيون في المنازل، يتحدث عن سبب انتشار ظاهرة التدخين بين الأطفال السوريين في المخيمات، والتي لاحظها في أثناء عمله في الجمعية.
لاحظنا بشكل كبير ظاهرة التدخين، خاصةً بعد الانصراف من الدوام الرسمي. كثير من المشاجرات تحدث لهذا السبب، وبالرغم من جلسات التوعية التي نقوم بها عن ضرر التدخين، إلا أننا لا نجد تراجعاً لهذه الظاهرة بل هي في ارتفاع متزايد
"السبب الأساسي هو الفراغ عند الأطفال في المخيمات، ومعظمهم ليسوا في مؤسسات تعليمية. يدخنون لملء الفراغ، وقسم منهم اكتسب هذه الظاهرة من بيئة العمل، بالإضافة إلى انعدام الرقابة الأبوية"، ويضاف إلى ذلك أن هناك أطفالاً يدخنون في وجود أهاليهم، ويدل ذلك على عدم الاكتراث بهم، أو ضعف دورهم في ردعهم عن الإدمان.
وعن عمل الجمعية يقول: "نحن بطبيعة عملنا نقدم نصائح إلى الأطفال والأهالي، ولكن النصح وحده غير مجدٍ. نحتاج إلى حلول جذرية، وإلى توفر الدعم الكافي والوقت كي نستطيع تطبيقها. الحل مرهون ببناء الوعي أولاً عند الطفل، ثم الأهل ثم دور الجمعيات في المكافحة، إلى جانب وجود قانون رادع أو لجنة محاسبة لمن يروّجون للتدخين، وأيضاً الذين يبيعون الأطفال هذه المادة السامة".
أيضاً، تنشط جمعية "النجم"، في مجال محاربة الإدمان بأشكاله كلها، وهي عضوة في الهلال الأخضر العالمي لمكافحة الإدمان، وذلك من مركزها في مدينة طرابلس، وتغطي كافة المناطق اللبنانية ومن ضمنها مخيمات اللاجئين، من خلال حملات التوعية والعيادات المتنقلة وتقديم الفحوصات الطبية اللازمة، مثل فحص الجهاز التنفسي.
مسؤولة المشاريع في جمعية النجم، ياسمين مروان صبيح، تحدثت عن أنشطة الجمعية إلى رصيف22: "نقدّم محاضرات التوعية في المؤسسات التعليمية والتربوية والجمعيات الأهلية والدولية، وتشمل المخيمات الفلسطينية والسورية، ونقوم بتدخلات مع أخصائيين نفسيين اجتماعيين من خلال تحويل الحالات من إدمان المخدرات والكحوليات والمدمنين إلكترونياً والمدمنين على التدخين من كافة الأعمار، إليهم".
نحتاج إلى حلول جذرية، وإلى توفر الدعم الكافي والوقت كي نستطيع تطبيقها.
وتتعاون الجمعية مع أطباء، لوضع جدول زمني للمدمنين، وتقديم نصائح ونظام غذائي سلوكي معيّن، ليتخلص الشخص من التدخين. وأيضاً بالتعاون مع البلديات والجمعيات والمدارس والجامعات، تنفذ حملات توعية تشمل مخيمات اللاجئين، تعرض من خلالها كيف تكون طرق المساعدة والتحفيز للإقلاع عن التدخين والتخلص من الإدمان، وكيفية التعاطي مع المدمن من الناحية الصحية والنفسية والاجتماعية، بالإضافة إلى محاضرات ونصائح لتعزيز الثقة بالنفس وتقوية الإرادة لترك التدخين، ونشاطات وتدريبات منها الرياضة والقراءة. وتكرّم الجمعية من يقلعون عن التدخين بفعاليات جماعية كخطوة تحفيزية لهم.
كما أوجدت الجمعية، وفق حديث صبيح، حلاً بتوزيع "المسواك" كبديل للتدخين، لأنه يحقق اللذة الفموية للمدخّن بلذة السيجارة نفسها، ويطهّر الفم والحلق الذي يسممه التدخين، وهو بديل طبي جيد أثبت فاعليته.
ويمكن التواصل مع هذه الجمعيات من خلال صفحاتها على مواقع التواصل، والبريد الإلكتروني والأرقام المخصصة لها، أو من خلال التوجه إلى مراكزهم حيث يوجهون الأشخاص مباشرةً نحو العلاج وبسرّية تامة.
تحتاج مكافحة ظاهرة الإدمان لدى الأطفال في لبنان، خاصةً من يعيشون في مجتمعات اللجوء والأماكن المهمشة والأكثر فقراً، إلى تضافر جهود كبيرة ودعم هذه الجهود بشكل مستدام، لإنقاذ الآلاف من هذه الدوامة التي يمكن أن تبتلعهم، والتي يصبح الوقوف في وجهها، عاماً بعد آخر، أكثر صعوبةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون