تندرج المقالة ضمن مشروع "بيروت بلا نوافذ" وهي مساحة مخصصة لشابات صحافيات يتحدثن عن بيروت بعد الانفجار. يقدم رصيف22 السلسلة ضمن منحة "قريب" من CFI، الممولة من قبل AFD.
رمّم أهالي بيروت بعض البيوت التي تضررت من انفجار المرفأ في آب الماضي، لكن غالبيتهم لم يستطيعوا "ترميم" أرواحهم والتحرر من الصدمة، لا سيّما الأطفال.
بحسب منظمة اليونيسف، فإن نحو مئة ألف طفل لبناني تأثروا بكارثة انفجار المرفأ، وسبّبت الفاجعة لنصفهم أمراضاً نفسية، مثل التبّول اللاإرادي، الكوابيس ومشاكل في النوم، بالإضافة إلى نوبات الغضب.
ما وُصف بـ "بيروتشيما"، ترك آثاراً نفسية هائلة، وصلت حتى إلى أحلام الأطفال ويومياتهم، بخاصة وأن هؤلاء الصغار لا يعرفون كيف يعبّرون عن مشاعرهم ومخاوفهم.
ومن أجل مساعدتهم على التخلص من هواجسهم وإيجاد طريقة لمساعدتهم، تمّ إطلاق مبادرة "كتاب بيروت" التي، ومن خلالها، يرسم الطفل ما يشعر به، ليتمّ بعدها تجميع الرسومات ووضعها في كتاب يكون لسان حال الأطفال.
كسر جدار الكلمات
شارك 130 طفلاً، ممن تضرروا من انفجار بيروت، في رسم لوحات على امتداد أربع ورش فنية.
تحدثت صاحبة المبادرة، رولا يوسف، لرصيف22، عن الأيام الصعبة التي مرّت على لبنان، بدءاً من الحرب الأهلية وصولاً إلى اليوم: "ما مرّت به بيروت خلال الانفجار لم نشهده سابقاً، حتى نحن جيل الحرب الأهلية. ما عشناه قبل العام 1990 غيّر، بشكل مباشر أو غير مباشر، طفولتنا وزرع الخوف في نفوسنا، لكن المفارقة أنه، من جهتنا، لم يساعدنا أحد للتخلص من هذه الآثار النفسية".
وأضافت يوسف: "ما نحاول فعله حالياً، هو مساعدة الأطفال المتضررين من انفجار المرفأ على النهوض مجدداً، من دون أية آثار سلوكية أو نفسية سلبية، وذلك عبر الرسم".
رمّم أهالي بيروت بعض البيوت التي تضررت من انفجار المرفأ في آب الماضي، لكن غالبيتهم لم يستطيعوا "ترميم" أرواحهم والتحرر من الصدمة، لا سيّما الأطفال
ولفتت رولا إلى أن "لبنان يفتقر للاهتمام بالفنّ، مع أنه جزء من الحضارة والثقافة ويستخدم في بعض الحالات للعلاج النفسي"، مشددة على أن الفن هو "الإحساس واللغة التي يستطيع الجميع التحدث بها، فهو لا يحتاج إلى دين أو طائفة، الألوان للجميع".
وكشفت أنه خلال تجربة "كتاب بيروت"، لاحظت استجابة كبيرة من قبل الأهل والأطفال: "تعاونوا معنا كثيراً، وفجّر الأطفال مخاوفهم وطاقاتهم بالرسم رداً على انفجار المرفأ، والأهم أن رسوماتهم وألوانهم ستكون سفيرة بيروت إلى العالمية عبر الكتاب".
واستطردت قائلة: "ما يثير الاهتمام أن اللوحات في نهاية الورشة كانت تحمل رسالة أمل، ما يشير إلى أن الأطفال يؤمنون بلبنان، ويريدون أن تعود بيروت جميلة كما كانت عليه في السابق، وهذا مؤشر على مدى تعلّق الأطفال بمدينتهم وبمكان سكناهم".
ما يُحزن أن الأطفال ببراءتهم لا يعرفون أنهم في حالة تروما، ولكن الرسومات تصف حالتهم
قبل البدء بالرسم، تبادل الأطفال الأحاديث مع بعضهم البعض ومع المنظمين/ات، وذلك لكسر حاجز الرهبة والخوف، ومن ثم رسموا ما حدث معهم، قبل وخلال وبعد الانفجار: "معظم الرسمات كانت تلوّن بألوان الأحمر والأسود، وهو تعبير عن التروما"، بحسب ما قالته رولا يوسف، مشيرة إلى أنه وبعد الرسومات الأولى، حدث تدخّل مباشر من أربعة معالجين نفسيين، تحدثوا مع الأطفال عن الغد والمستقبل والطموح.
وقالت يوسف: "ما يُحزن أن الأطفال ببراءتهم لا يعرفون أنهم في حالة تروما، ولكن الرسومات تصف حالتهم. طلبنا منهم أن يرسموا بيروت في المستقبل، وما حصلنا عليه هو رسومات أكثر من رائعة، وجميعها حملت الأمل، مثل طائر الفينيق الذي تقصدنا صنعه خلال الورشة".
هذا وكشفت رولا يوسف أن "الكتاب سيبصر النور في الربيع المقبل، وهناك مشروع أن يتمّ تسجيل رسالة بصوت كل طفل"، مشيرة إلى أن المبادرة التي انطلقت لبلسمة جروح أطفال الانفجار، تحولت إلى بصمة ونعمة أمل ترافقهم في المستقبل: "المشروع بمثابة أرشيف لذاكرة هؤلاء الأطفال، ويرافقهم في حياتهم المستقبلية".
نقطة فاصلة
عندما علمت والدة الطفلة جينفر بمبادرة "كتاب بيروت"، رغبت بشدة أن تشارك ابنتها بها، نظراً لما عانته بعد الانفجار: "جينفر عانت من نوبات بكاء وضيق في التنفس، ولم تعرف كيفية التعامل معها لأنها لم تكن تستوعب ما حدث".
وأضافت لرصيف22: "تلقينا دعوة تفيد بأن مختصين نفسيين سيعالجون الحالة النفسية للأطفال عبر الرسم، في قصر سرسق في الأشرفية. وما ميّز الدعوة أنها كانت موجهة للأطفال، فهم أضعف حلقة في مشهد الدمار وما خلّفه".
وبعفوية، قاطعت جينفر والدتها بالقول: "كتير كنت فرحانة لما شاركت بكتاب بيروت. رسمت الأبنية عم تضحك. شفت طائر الفينيق، وعرفت إنو كل واحد فينا ممكن يكون طائر".
وعن أكثر ما أثر فيها خلال تجربة مشاركتها في ورشة الرسم، قالت: "خبّرونا أن رسماتنا رح يشوفوها أطفال العالم، فحبّيت أرسم شيء جميل لحتى أطفال العالم ما يحزنوا متل ما حزنت، فرسمت أبنية بيروت عم تضحك".
بدورها، قالت الطفلة ماريا التي شاركت في المبادرة: "شعرنا أننا يجب أن نكون أقوياء، لأن بيروت بحاجة إلينا. التُقطت لنا صور منفردة، وبدت كأنها أجنحتنا التي خرجت من الدمار"، وأضافت لرصيف22: "أكثر ما أعجبني أن جميع الأطفال لطخوا أيديهم بالألوان ووضعوا بصمتهم على غلاف كبير، وكتبوا رسائل لبيروت ولأطفال العالم."
وبدورها أكدت الطفلة سيلا، أن الساعات الثلاث التي قضتها في "كتاب بيروت"، من أجمل ما عاشته: "شاهدت العالم الذي حلمت به بعد الانفجار في حديقة قصر سرسق".
وأضافت لرصيف22: "بعد الانفجار، خفت كثيراً أخسر ماما وبابا، شفت زجاج بيتنا مكسّر. خفت وما عاد بدي أعمل شي، بس لما بابا أخدني على ورشة الرسم، وشفت أطفال عم يحكوا يلي صار معن، وعم يرسموا أشياء حلوة، عرفت أنو منّي لوحدي". وبعد أن دمعت عيناها، ضحكت من جديد وهي تقول: "يا ريت أقدر عيش كل حياتي متل (كتاب بيروت)، والأغاني والألوان في كل مكان".
العلاج بالفن
أكدت المتخصّصة بالعلاج الحركي النفسي، ليا ماريا دامين، والتي شاركت بمبادرة "كتاب بيروت"، أن الرسم يساعد كل الأطفال على "ترميم" بعض الاضطرابات النفسية التي مروا بها: "نسميه (ترميم)، لأن هذا النوع من العلاج يحتاج إلى أكثر من ورشة لنحصل على نتيجة علاجية."
وشرحت دامين لرصيف22 أن "الألوان والرسومات أدخلت البهجة على قلوب الأطفال، وما شهدناه من تحول من الرسمة الأولى إلى الأخيرة، يدل على أن هناك فرقاً بالفهم والإدراك والوعي عند الأطفال، وتسلحهم بالأمل يؤكد أن تأثير الورشة كان إيجابياً جداً".
إذا تمكن 130 طفلاً من العلاج عبر الرسم، فبكل تأكيد تحتاج بيروت وأهلها إلى ورش مستمرة وأدوات مختلفة، لعلاج صحتهم النفسية التي تدمّرت مع دمار بيروت
ولفتت ليا إلى أن "الأطفال عبروا عن أنفسهم فنياً، واستطعنا أن نقرأ ما لم يتمكنوا من قوله، وسمعنا ألمهم من خلال الألوان، وهذا ساعدنا كثيراً على فهم اضطراباتهم."
وأوضحت دامين أن الأطفال توزعوا على 3 فئات: الفئة الأولى ضمّت الأطفال الذين سمعوا عن الانفجار، الفئة الثانية شملت الأطفال الذين شاهدوا تحطم الزجاج بعد الانفجار، وتخيّلوا ما حدث، أما الفئة الأخيرة فقد شملت من شاهد الدمار والضحايا، كاشفة أن الأطفال رسموا ما حدث بالتفصيل: "الحقيقة، إن في معظم رسوماتهم تفاصيل مرعبة".
إذن، الفن هو اللغة التي يعبّر الأطفال من خلالها عن أفكارهم ومشاعرهم، بخاصة تلك التي لا يستطيعون التحدث عنها، وذلك بمساعدة الأخصائي/ة النفسي الذي بوسعه فهم مشاعر الفرد وسلوكه من خلال رسوماته أو أعماله الفنية، ما يساعده على معالجة مشكلاتهم النفسية.
وفي الختام، إذا تمكن 130 طفلاً من العلاج عبر الرسم، فبكل تأكيد تحتاج بيروت وأهلها إلى ورش مستمرة وأدوات مختلفة، لعلاج صحتهم النفسية التي تدمّرت مع دمار بيروت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...