قبل أن ينحت جوزيف ناي، مصطلح "القوة الناعمة"، كانت العرب منذ قديم الزمان، ومن قبلها شعوب أخرى بالتأكيد، قد أدركت أهمية التعبير عن مكونات حالة الوعي التي تشكلها الجماعة البشرية، قبيلةً كانت، أم كياناً سياسياً، أم حتى مجموعةً منشقّةً في هيئة "عصابة".
ولعل المثال الأكثر سطوعاً في أهمية الإبلاغ، هجاءً جاء أم مدحاً، يتمثل في قول الشاعر دُريد بن الصِمَّة: "وما أنا إلا من غزيّة إن غوت غويت، وإن ترشد غزيّة أرشد"، في إشارة لا تقبل الالتباس إلى الذوبان في القبيلة، خطّاءةً كانت أم مُحقّة.
وكانت العرب تحتفي بشعرائها، الذين جعلتهم بمثابة ناطقين إعلاميين باسم قبائلها.
وكانت العرب تحتفي بشعرائها، الذين جعلتهم بمثابة ناطقين إعلاميين باسم قبائلها، فيشنون الحملات ضد خصومهم، تمجيداً أو تقريعاً، ما يستدعي قول الشاعر حسّان بن ثابت، محتقِراً قبيلة بني عبد المدان: "لا بأس بالقوم من طولٍ ومن عِظَمٍ، جسم البغال وأحلام العصافير"، قبل أن يتراجع الشاعر فينقلب على ما قاله، بعد أن طبّق قوله الآفاق، فصار مجلبة عار على قبيلة كانت تمجّد طول أبنائها الفارع وقوتهم، وتختال ببأسهم الشديد.
العوالم تبدّلت، لكنّ الموقف ثابت، لجهة قدرة الإبلاغ عن تشكيل الانطباعات، وفي تلك الانطباعات تكمن قوة الصورة. ولهذا أدركت المجتمعات الحديثة أهمية إنتاج صورة ذهنية متفوقة عنها، لترسيخها في مخيلة الآخرين، فكانت أكثرَ الطرق أماناً وديمومةً هي الثقافة والفنون بما يتفرّع عنهما من أشكال وتعبيرات تتسع يوماً بعد آخر.
سقطت القوة العسكرية الغاشمة في اختبار تشكيل الانطباعات بمحض الخاطر الإنساني، أي بلا إكراه أو تحريض يعتمد البروباغندا. خرجت الجيوش وظلت أطلالها: المدرجات، والمساجد، والمآذن، والكنائس، والأديرة، والتماثيل. وفي غمرة ذلك نسيت الشعوب، أو تناست، أنّ هذا التراث يعود إلى دولة غازية. هزم التاريخ بسلطته الطاغية الممتدة نزعات الانتقام العابرة، وظل العقل الإنساني محتفظاً بعافية الرغبة في الاستمرارية. وقليلة (أو ليست غالبةً) النماذج التي استدعت إرث "طالبان" الهمجيّ عندما حطّمت، عام 2001، تماثيل بوذا التي وصفها الملّا عمر بأنها "حجارة تخالف الشريعة".
محاربة التشدّد والحدّ من غلوائه، ليسا مسؤولية المجتمعات وحدها، بل هما أحد أبرز مسؤوليات الجهاز التنفيذي في الدولة
الملّا عمر وما يمثّله، تعبير عن التطرف الذي تسعى القوة الناعمة إلى مكافحته، بعد أن أخفقت قوتان عسكريتان جبارتان (الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة) في إنجاز نصر عسكري في هذا البلد الذي مزقته النزاعات.
لا أحد يخشى الثقافة كما يخشاها المتطرفون والمتشدّدون والطغاة. ألم يقل غوبلز، وزير إعلام هتلر: "كلما سمعت كلمة مثقف تحسّستُ مسدسي". ألم ينهمك الفقه المتشدّد في تحريم الموسيقى، وتالياً الغناء والرقص، وما ينجم عنهما من أشكال التعبير الجسدي، بذريعة أنها تنشر الابتذال، وتشجّع على العري والفواحش، وتضرم الرذيلة في هشيم المجتمعات؟
محاربة التشدّد والحدّ من غلوائه، ليسا مسؤولية المجتمعات وحدها، بل هما أحد أبرز مسؤوليات الجهاز التنفيذي في الدولة. وإذا أخذنا الدول العربية مثالاً، نرى أنّ عقلها الثقافي الإستراتيجي ما زال مغمض العينين عن أهمية الثقافة في تشكيل خزّان القوة الناعمة، وتعويض العقل العسكري والأمني في تلك الدول من الإسراف في إعلاء التسليح مرتبةً أكثر من قدره، والحطّ من قيمة الثقافة إلى حد عدّها شأناً هامشياً، حتى تم في إحدى الدول العربية، وفي أثناء تشكيل حكومة جديدة، نسيان وزارة الثقافة، فأُبلغ صانع القرار بذلك، فقال لمبلّغيه دعوا الوزير السابق في مكانه. إنها ليست نكتةً، بل حقيقة في واقع أضحى نكتة!
لا أحد يخشى الثقافة كما يخشاها المتطرفون والمتشدّدون والطغاة.
ووفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، بلغ مجموع الإنفاق العسكري لعشر دول عربية خلال عام 2021، ما قيمته 110 مليارات دولار، مع أننا لم نسمع بأي نصر عسكري قد تحقق، بل على العكس ما زال صوت التشدّد عالياً صدّاحاً.
ماذا لو أنفقنا 1% من تلك المليارات، على الثقافة والفنون، فدعمنا صناعة السينما، وشكلنا فرقاً مسرحيةً، وأخرى موسيقية، وثالثة للرقص؟ وماذا لو أقمنا المهرجانات الفنية على مدار العام، وأتحنا للكتاب المنتقى بعناية أن يصل إلى أكبر شريحة من القراء، وخصصنا برامج تلفزيونيةً، واستثمرنا في مواقع التواصل الاجتماعي، وشجعنا المبدعات والمبدعين؟ ماذا لو أضحت وزارة الثقافة وزارةً سياديةً لا يتم نسيانها في التشكيل الحكومي؟
أليس ذلك أدعى إلى تجنيب المجتمعات العربية نيران التطرف الذي تنتجه الخطابات المغلقة، والعنصرية، والطائفية، والإقصائية، والناطقة بلسان الماضي، والمولعة بالتحليل والتحريم، كأنّ الدين تمّ تلزيمه لها، فمضت تفخّخ الاجتماع البشري بما شذّ من فتاوى وافتراءات بهدف سجن الناس في زنزانة المقدّس؟
الثقافة، التي نأمل أن تكون خزّان القوة الناعمة، لم تكن في يوم من الأيام، عامل تشظٍ، أو داعيةً لاحتراب، أو وقوداً لفتنة، أو هدّامةً للمنجز الإنساني
لا يمكن محاصرة التطرف إلا بإشاعة قيم الحياة، والتبشير بالعيش الذي يؤثث الكون بالخير والعدل والحب والجمال، والرغبة في التخطي عبر إعمار الأرض، وتنمية العلوم، والتشجيع على تمكين العقل من هزم الخرافة، من خلال إنضاج التفكير الفلسفي الناقد الذي يتحدى هرقطة المشعوذين.
الثقافة، التي نأمل أن تكون خزّان القوة الناعمة، لم تكن في يوم من الأيام، عامل تشظٍ، أو داعيةً لاحتراب، أو وقوداً لفتنة، أو هدّامةً للمنجز الإنساني، بل ظلت منذ انبثاق قمرها متوهجةً بالوعود، فيّاضةً بالدعوات إلى التحرر والتجاوز وهدم القديم المتكلس الذي يقيّد الحرية الإبداعية، ويلجم قوى العقل الخلاقة التوّاقة إلى معانقة المستحيل، إذ لا مستحيل أمام الفكر الوقّاد.
الثقافة عمل دؤوب متعب يشبه المنهمك فيه مَن يرتقي جبلاً لا نهاية لقمّته. بينما التشدّد وليدُ الدِعة الحمقاء والتثاؤب، وتالياً استهلاك ما ينتجه الآخرون، والتغني بـ"ما لهذا خُلقنا".
لا يمكن محاصرة التطرف إلا بإشاعة قيم الحياة، والتبشير بالعيش الذي يؤثث الكون بالخير والعدل والحب والجمال
1% من 110 مليارات دولار التي أنفقتها 10 دول عربية (بعضها لا يجد مواطنوها قوت يومهم!)، تكفي لتغيير خريطة وعي مجتمعات بأسرها. الثقافة تدعم الاقتصاد، وتشجع السياحة وترفد التنمية، وترشّد التربية والتعليم، وتفجّر الرؤى لإنتاج حياة جديدة تستحقها المجتمعات العربية، قبل أن يأكل التطرف أخضرها ويابسها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين