"25 يناير" فعل ثقافي بامتياز، تمرد حضاري على وضع غير طبيعي. وقد أدى السقوط السريع لحسني مبارك إلى شيء من الزهد في بحث أسباب "25 يناير" وما كان يجب أن تؤدي إليه من نتائج. هذا الزهد، أو الغفلة، جعل من فرصة "25 يناير" أزمة جديدة، بصعود الإسلام السياسي في الجولة الأولى، وبعودة القبضة البوليسية في الجولة الثانية. سمحت الانتكاستان بمرور قوى مضادة للثورة، خطأ أقرب إلى حادث سير ثوري، يدفع المتفائلين إلى الرهان على أن اللحظة الحالية عابرة، ولن تكون أبدية، ودليلي على ذلك هو الرعب الرسمي من ذكر 25 يناير، رعب يسبب كوابيس لمن يتوهمون انتصارهم على الثورة.
باستثناء ثورة 1919، كانت الثورات السابقة (عرابي 1882، العمال والطلبة 1946، يوليو 1952) فرض كفاية، أبطالها نخبة عسكرية أو قانونية أو عمالية، نخبة لديها فائض وعي وخبرة. ثورات بالنيابة عن الشعب، مثل حروب على الحدود تخص الجنود، ولا تحظى فيها الجماهير بشرف التضحية بالدماء. ثم جاءت "25 يناير"، تحديداً في يومها الرابع، "جمعة الغضب"، فرضَ عين، وذلك سرّ عبقريتها وكبوتها؛ فكلّ مشارك اعتَبرها حدثاً يخصّه، وانتظر حلم التغيير، وتأخرت الثمرة، فليست الثورات بالنيات. ربما تؤدي النيات الحسنة إلى قتل فكرة الثورة، حين تنهض قوى مضادة للثورة، وتحصّن نفسها بأمصال تَرك بقاياها الثوار المنتظرون.
نجاح الثورة يقترن بنسف ما أدى إليها، بإسدال الستار على ما ومن جعل الثورة ضرورة. من الإهانة للثورة وتضحيات شهدائها وجرحاها، ومن الاستخفاف بشعار يوم "25 يناير": "تغيير ـ حرية ـ عدالة اجتماعية"، قبل أن تعاد صياغته في وقت لاحق إلى "عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية"، ألا تتوارى وجوه كانت في صدارة مشهد أرادت "25 يناير" طيّه، تمهيداً لفتح صفحة جديدة؟ ففي 30 سبتمبر 2010 قابل مبارك أحد عشر رجلاً: فوزي فهمي، وصلاح عيسى، ويوسف القعيد، ومحمد سلماوي، وعائشة أبو النور، والسيد يسين، وأنيس منصور، وخيري شلبي، وسامية الساعاتي، وأحمد عبد المعطي حجازي، وجابر عصفور (حسب ترتيب وقوفهم في الصورة التذكارية بعد المقابلة).
لم يكن السياق العام يحتاج إلى عبقري يخبر رئيس الجمهورية، ولو بأدب يناسب مقام الرئيس، أننا على وشك انفجار أكبر من قدرة البوليس على المواجهة، انفجار يكفي ما يثيره من غبار وأتربة لإحداث فوضى لن ينجو منها أحد.
هم بالطبع أحرار، لهم أن يقابلوا من يشاؤون، ولنا أيضاً ذاكرة عصيّة، وإن غفرت فلا تنسى. هم أحرار، والذين اجتمع بهم جمال مبارك ـ في الشهر السابق لاجتماع أبيه بغيرهم ـ أحرار. وكان بين منتخب جمال ومنتخب أبيه "خبراء ثقافيون" عابرون للعصور والأنظمة، بحجم جابر عصفور ويوسف القعيد وفوزي فهمي والسيد يسين الذي انفعل، بعد انكشاف الأمر، وكاد يقول: "خذوني".
مواقف المثقفين في الثورة المصرية
هاج السيد يسين كمن ضبط متلبساً بجريمة، وكتب في "الأهرام المسائي"، يوم 14 أغسطس 2010، كلاماً إنشائياً انفعالياً عنوانه "أساطير المثقفين"، قائلاً إن الاجتماع نظمته لجنة الثقافة بأمانة السياسات بالحزب الوطني، وإن جمال "رأس اجتماعاً يناقش فيه مستقبل الثقافة في مصر"، بحضور أعضاء لجنة الثقافة في أمانة السياسات، وآخرين منهم جابر عصفور، وفوزي فهمي، ويوسف القعيد، وإبراهيم المعلم.
في انتخابات 2014 تبارى مرشحا الرئاسية عبد الفتاح السيسي وحمدين صباحي في مغازلة الإسلام السياسي. لعب كلا الرجلين "سياسة" لا "ثورة"
فيما بعد، حين سقط نظام مبارك، سينشط السيد يسين، ويمارس مهنة المثقف، ويصدر عدة كتب تلاحق الحدث، فالبضاعة لا بدّ أن تواكب السوق، ومن هذه البضاعة زكيبة من المقالات، سعتها 450 صفحة، وعنوانها "ثورة 25 يناير بين التحول الديمقراطي والثورة الشاملة"، يتكلم فيها "عن" الثورة وحولها، لأن الحديث "في" الثورة يحتاج إلى ثوري، يرى الهدف بوضوح، ولا يحوم حول ظواهر لا يجرؤ على تسميتها بغير أسمائها الحقيقية.
السيد يسين الذي مهنته الثقافة تنبأ بالثورة بعد وقوعها، وأعلن إيمانه بالثورة، كمن يؤمن بالله عصر يوم القيامة، ويكتب مبتهجاً: "ها هي ثورة 25 يناير أشرقت شمسها وبسطت ضياءها على الكون." ولم ينس أن يؤكد أن مبارك ""فتقد الرؤية السياسية، كان متخبطًا... لم يكن لديه مشروع ولا رؤية، مبارك موظف بدرجة رئيس جمهورية"، وأن جمال مبارك "لم تكن لديه رؤية لأي شيء".
وسيكتب عصفور تحت عنوان "ما فعله الحزب الوطني بمصر" مقالات في "الأهرام"، عن "كوارث" الحزب الوطني، وأنه فعل بمصر ما لم يفعله بها حزب آخر في تاريخ الأحزاب المصرية من "إفساد الحياة السياسية باحتكار السلطة، وما لازم ذلك واقترن به من تزوير إرادة الأمة والتلاعب الفاضح بانتخابات مجلسي الشعب والشورى وآخر كوارث هذا التلاعب التزويرُ المشين الذي حدث في كارثة الانتخابات الأخيرة لمجلسي الشعب والشورى... وتشجيع التحالف الشائن بين السلطة ورأس المال، وتبنيه والدفاع عنه للأسف وهو الأمر الذي تسبب في نهب المال العام... ومع ذلك كانت حكومة الحزب الوطني وأمانة سياساته تتباهى بمعدلات تنمية لم ينل منها المحرومون شيئًا." (21 فبراير 2011).
بعض الذين حضروا لقاء الابن ربما كانون مضطرين، بحكم وظائفهم، ولا أحد يلومهم فلم يكتبوا شيئاً عن عبقرية الوارث. فما الذي يجبر الذين حظوا بلقاء مبارك على المبادرة إلى مدحه؟ لا شيء ولا أحد يجبرهم على ذلك، فهم شيوخ وحكماء ينبغي ألا يقفوا بباب أي سلطان، وإذا أصابهم ضعف بشري، وهو غير مسوَّغ، فما كان لهم أن يهينوا ذاكرتنا بالإسراع، بالوتيرة نفسها، إلى سباب مبارك. سباب مبارك لا يغني عن اعتذارهم إلى القارئ.
في 2 أكتوبر 2010، بعد يومين على اللقاء، نشرت "الأهرام" صفحة عنوانها "لقاء مبارك مع المثقفين... بأقلام كتّاب الأهرام"، تتوسطها صورة لمبارك أكبر من صور مادحيه. كتب السيد يسين مقالاً عنوانه "لقاء ثقافي فريد". وكتب يوسف القعيد: "لقد كان المهم بالنسبة لي صحة الرئيس وحضور ذهنه وتوقده وبساطته ورغبته في الاستمرار معنا أطول فترة ممكنة". وكتب خيري شلبي تحت عنوان "مصر في بعث جديد" أنهم كانوا "مجموعة من الأصدقاء في ضيافة أخيهم الأكبر. هذا الشعور أخذ يتأكد ويتعمق من لحظة إلى لحظة. في ظني هذه الأريحية التي أغدقها علينا الرئيس بكرم لم أشهد له من قبل نظيراً لدرجة أن الجلسة استمرت أربع ساعات لم نشعر بمرورها على الإطلاق.
أول شعور مبهج تناقلته نظراتنا كان مبعثه الاطمئنان على صحة الرئيس. كانت الشائعات ـ قاتلها الله ـ قد ألقت في روعنا أن الرئيس في وعكة صحية؛ إن أكبر وأهم محصول خرجنا به من لقاء الرئيس هو الرئيس نفسه. لقد خُيل إلي شخصياً أنه كان على سفر ثم عاد إلينا قوياً فتياً ليقود أحلام مصر وطموحاتها في بعث جديد".
المثقف الذي وظفه نظام مبارك في ضرب الإسلام السياسي غابت عنه الفطنة، ونسي أنه مجرد أداة، واستمرأ الدور. صدق نفسه بالوهم وأوهم نفسه بالصدق
وعبر أحمد عبد المعطي حجازي عن سعادته "حين وجدت الرئيس في كامل لياقته، موفور الصحة، حاضر البديهة، متوقد الذاكرة... أسعدني كذلك أن أرى الرئيس متفقاً معنا إلى حد كبير حول المبادئ الفكرية والأخلاقية التي يجب أن يكون عليها وجودنا كشعب." سيعود إلى حجازي حدّ أدنى من الوعي يساعده على اكتشاف حقيقة كانت واضحة لغيره، ألا وهي "طغيان مبارك والذين سبقوه قد أنهك المصريين وأذلهم وبدّد ثرواتهم واستنفد قدرتهم على الاحتمال ودفعهم أخيراً إلى الثورة." (الأهرام 30 مارس 2011).
أما خيري شلبي فلا أظنه كان معنياً ومهموماً بالبحث والتحري، لكي يعيد النظر، ويكتشف بسرعة أن مبارك، الذي راهن على أنه سيقود "أحلام مصر وطموحاتها في بعث جديد"، هو نفسه "الرئيس المخلوع" الذي نفى المصريين "وسحقهم... حيث تخلّت حكوماته عن جميع مسؤولياتها تجاههم، وأصبحت الدولة المصرية ترعى طبقة الأغنياء وحكوماتها حارسة لرأس المال الطفيلي، المنهوب، فحكومة الحزب الوطني منذ إنشائه إلى اليوم الذي تمّ حلّه، كانت هي الفساد بعينه، وكانت تمثل تحالفاً للّصوص والسفاحين والقتلة والقراصنة"، ولم ينس المزايدة، والتحلّي بحدّ أقصى من الشجاعة بعد انتهاء المباراة، إذ قال "إنني أشدد على استمرار محاكمة مبارك. ولو أنه حكم عليه بالإعدام في حالة إدانته سيكون شيئاً عظيماً." (الأخبار 26 أبريل 2011).
ولن تنفد الشجاعة منتهية الصلاحية بانتقاده "مبارك وأهله غير الكرام"، والردّ على سؤال "أخبار الأدب": هل توقعت كلَّ هذا الكمِّ من الفساد؟ أجاب خيري شلبي: "أنا كنت أراه، وما خفي أكثر مما تمّ كشفه." (15 مايو 2011).
المثقفون والديكتاتور
ليس مطلوباً من المثقف أن يصارع السلطة، ولكن من العيب أن يهوى إلى حد التزلّف. هناك مسافة بين صمت المثقف عن إعلان ولائه ومراوغته حين يتعرض لضغط من جهة، وإسراعه إلى الإشادة بإنجازات وهمية من جهة أخرى.
لن يضار المثقف إذا لم يؤيد الدكتاتور، ولكنه ربما يتعرض لأذى إذا انتقد أو اصطدم. توجد مساحة لتفادي الحرج، وقد فعلها محفوظ عبد الرحمن، إذ أبلغه سكرتير مبارك رغبة الرئيس في كتابة فيلم عنه، غيرة من نجاح فيلم "ناصر 56"، فما كان من محفوظ عبد الرحمن إلا استحضار "نظرية الحمار" التي تنسب إلى جحا، إذ زعم أنه يستطيع أن يعلم الحمار القراءة والكتابة بعد عشرين عاماً، وراهن السلطان على ذلك، وأشفق عليه الناس، فقال: بعد عشرين سنة إما أن يموت السلطان، أو يموت الحمار، أو أموت!
في أكتوبر 2003، وقف صنع الله إبراهيم على منصة دار الأوبرا أمام أكثر من 200 مثقف عربي وأجنبي، بعد أن تسلم جائزة ملتقى الرواية العربية، في دورتها الثانية. وضع الجائزة والشيك المالي على منصة صغيرة، وأخرج من جيبه ورقة. لم يكن يرتدي إلا قميصاً فضفاضاً يتسع لهذا البيان/الرصاصة، وأعلن رفضه الجائزة، وقدم حيثيات وسط تصفيق بعض أعضاء لجنة التحكيم أنفسهم (منهم محمود أمين العالم)، قائلاً إنه يرفض الجائزة "لأنها صادرة عن حكومة غير قادرة على منحها"، واتهمها بالفساد والقمع والتبعية.
المثقف هو اختياره؛ إما شهيد، وإما شيطان أخرس، وإما شاهد زور
أطلق صنع الله سهمه، وترك الجائزة والشيك، ولجأ إلى الجماهير في المسرح. وفي نهاية 2004 ولدت حركة "كفاية"، وبين الحدثين نشرت مجلة "الإذاعة والتليفزيون" الحكومية مقالاً لمحمد جلال عنوانه "يا حبيب الملايين"، يذكرنا بأغنية عبد الحليم حافظ عن عبد الناصر.
ليس في مقال جلال مفاجأة، وإنما في صورة قلمية (بورتريه) بالعدد نفسه، تحت عنوان "النسر"، في ثلاث صفحات تضمّ صورتين لمبارك، بقلم خيري شلبي الذي يصف مبارك بأنه "حفيد اخناتون وحور محب معاً، نبي السلام وقائد الوغى... صوت الرئاسة لم يعد كلاسيكي النبرة يفتن دهماء العالم الثالث يثير فيهم الحماسة الخرقاء يبعث الهياج ضد المستعمر الغاصب، لكي يغطي بالطنين الحنجوري على الفراغ من المحتوى... صعودنا في حرب الكرامة... (1973) بقيادة الرئيس مبارك." (3 يوليو 2004).
المثقف هو اختياره؛ إما شهيد، وإما شيطان أخرس، وإما شاهد زور. جاءت "25 يناير" ضاحكة، خفيفة الظل في صرامتها، تحمل ابتسامة طفل لا تريد له الأقدار أن يبلغ سنّ الرشد، وهو يريد أن يظل نزقاً يستمتع بثمار العفوية على أن يحاسب على مسؤولية الحكمة.
تفرز كل ثورة نخبتها الثقافية القادرة على التعبير عنها. عرابي كان صوته عبد الله النديم؛ ثورة 1919 دفعت إلى الواجهة بأبناء لطفي السيد ونجوم مدرسة/صحيفة/حزب الأحرار الدستوريين؛ يوليو 1952 أسدلت الستار على الجيل السابق، وصعد محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس "في الثقافة المصرية"، وعلي الراعي وشكري عياد ورجاء النقاش، وفي القصة يوسف إدريس، وفي الشعر صلاح عبد الصبور، وفي المسرح نجوم صغار السنّ فجّار الموهبة، مؤلفين ومخرجين.
لدى "25 يناير" قدرة وحيوية تجعلها تواصل السخرية من أعدائها، تضحك ضحكاً كالبكا، وهي تراقب أوصياء في صحبة عبد الفتاح السيسي، يقولون عنه كلاماً قالوه عن مبارك وقالوا بعضه عن محمد مرسي في لقائه بهم (سبتمبر 2012). تتبدل صورة الرئيس والمثقف هو هو لا يخجل، لا يريد أن يحترم ذاكرة الناس ولا شرط الثورة، ولا نفسه بالابتعاد عن ملعب لا يتسع لمسنين لم تعد ظهورهم قادرة على مزيد من الانحناء.
مستقبل الثورة، مستقبل الثقافة
المثقف الذي وظفه نظام مبارك في ضرب الإسلام السياسي غابت عنه الفطنة، ونسي أنه مجرد أداة، واستمرأ الدور. صدق نفسه بالوهم وأوهم نفسه بالصدق، وتنازل عن دوره الرسولي، وتخلى عن شارع احتلّه اليمين الديني.أخشى أن تكون "25 يناير" ثورة الفرص الضائعة. وأولى الفرص لتأسيس "الدولة" أضاعها تواطؤ/استفتاء 19 مارس 2011 وما تلاه. وبصعود الإخوان كاد أعتى المتفائلين ييأس من استعادة "الدولة"، وفي انتخابات 2014 تبارى مرشحا الرئاسية عبد الفتاح السيسي وحمدين صباحي في مغازلة الإسلام السياسي. لعب كلا الرجلين "سياسة" لا "ثورة". في السياسة سيحظى بأنصار ومهاجرين وحلفاء خائفين أو طامعين، وفي الثورة لن يجد إلا المغامرين، ومن المهم أن يكون هو نفسه مغامراً.
أما "الأخونة" فلم تبدأ بصعود تنظيم الإخوان. تذكر الأمريكية ماري آن ويفر في كتابها "صورة لمصر" أنها ذهبت إلى منطقة شبرا، في مطلع التسعينيات، بمصاحبة المحامي ممدوح إسماعيل (في فبراير 2012 أصرّ المحامي ممدوح إسماعيل على أن يؤذن للعصر في البرلمان) لمقابلة سلفي اسمه محمد عبد المقصود، حاصل على الدكتوراه في علوم الزراعة.
لم يكن مهموماً بحماية زراعات تتعرض للتدمير، ولا استحداث أنواع جديدة تسمى الطفرات، وإنما بابتكار وسائل إجرامية لانتزاع السلطة: "سنشلّ الدولة تماماً كما حدث في إيران، يمكن أن تكون النتيجة دموية ومأساوية ولكننا نعلم أننا مبررون بأقوال القرآن الكريم".
في ذلك الوقت المبكر، لم ننتبه للسلفي المسّمى محمد عبد المقصود، وقد صار من نجوم ما بعد 25 يناير، ثم تابعناه على الهواء مباشرة يوم 15 يونيو 2013 في مؤتمر "الأمة الإسلامية لنصرة سوريا"، في الصالة المغطاة بإستاد القاهرة، يخاطب رئيس الجمهورية: "مهما استطعنا أن نستغني عن هؤلاء الأنجاس (الشيعة) الذين لا يعترفون بالنبي وآل بيته فلنفعل، وأعلم أن التركة ثقيلة، ولكنها عواطف أحببت أن أسمعها للسيد الرئيس"، فاستجاب للتحريض الطائفي مهووسون، وقتلوا أربعة من المصريين الشيعة وسحلوهم، في قرية زاوية أبو مسلم في الجيزة. وهتف شهود القتل: "الله أكبر"، جزلين بالنصر.
في التنافس الرئاسي التمثيلي بين السيسي وصباحي، عام 2014، أرجئ حسم مستقبل "الدولة"، وكانت الأجواء ملغومة بفتاوى "دينية" تفضل مرشحاً على منافسه في ضوء ارتفاع منسوب التقوى، وهي شأن يخصّ الله، لأن محلها القلب. في هذا السياق لا يملك العاقل إلا أن يتحسس رأسه.
حين كتب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" كان يدعو إلى ثورة في التعليم، وهذا ما يجب أن نبدأ به ونركز عليه. من السخف والترف المجاني أن نتكلم عن الثقافة في ظلّ أمّية تزيد على 30 في المئة. رقم مخيف لضحايا أو وقود التخلف والاستبداد بشقّيه الديني والعسكري معاً. لن تحقق "25 يناير" أهدافها إلا بوعي يبدأ بالتعليم، والإيمان بقيمة الحرية، والحق في الثروة، والاستمتاع بوقت للفراغ.
لم تؤسس "25 يناير" جبهتها الثقافية، باعتبار الثورة الشعبية المهيبة ثمرة لثقافة جيل تمرد على نظام قمعي، وتحدى جهاز شرطة غاشماً. في فترة مبكرة من الثورة، قبل أن نفاجأ بمرور عشر سنوات على انطلاقها، حلمتُ ببرنامج تنجزه الجبهة الثقافية للثورة وفقاً لجدول زمني:
ـ الإيمان بأن التعليم الأساسي المجاني حق أصيل "كالماء والهواء"، ترتبط به بقية الحقوق الأخرى للطفل، ويمنع التسرب من التعليم قبل الجامعي.
ـ كلّ من تخرج في الجامعة يتحمل، قبل منحه الشهادة، مسؤولية محو أمية عشرة مواطنين، وإعادة الاعتبار إلى "القِسم الليلي" بالمدارس الحكومية، ليسهم في هذا الشأن.
ـ تنقية المناهج الأزهرية من تأويلات فقهية انتهى سياقها التاريخي، واستبعاد أي نصّ يحضّ على الإرهاب أو التمييز أو الكراهية، وتستبدل به نصوص تدعو للتسامح "الإنساني"، وتؤكد أنه "لا نفرق بين أحد من رُسلِه"، وأنه "لا فرق بين عربيّ وغير عربي إلا بالتقوى"، والتقوى محلّها القلب، وهي شأن يخص الله. أما القانون فهو ميزان سلوك جميع المواطنين باعتبار القانون دين الدولة، التي ليس من مهامّها أن تسوق الناس إلى الجنة، وإنما تحمي أصحاب أي دين ومذهب.
ـ توحيد مناهج التربية الدينية في المدارس (حكومية وخاصة وأجنبية) فيتلقى التلميذ المسلم والمسيحي المواد نفسها، وتشمل نصوصاً من الكتب المقدسة، ومأثورات من كل الأديان تهدف إلى العيش الإنساني المشترك، ونبذ الاستعلاء والطائفية.
ـ وضع منهج دراسي خاص بحقوق الإنسان الأساسية. هذه الحقوق إحدى ثمار الثورة، وأولّها الحرية كحقٍّ لا هبة، فضلاً عن حقّ السكن والعلاج والعمل (فترة واحدة بدلاً من مذلة العمل 12 ساعة يومياً، وإهدار بضع ساعات في الشارع).
ـ وضع مادة للتاريخ المصري في كلّ سنوات التعليم قبل الجامعي، تضيء جوانب من الحضارة المصرية منذ ما قبل عصر الأسرات حتى 25 يناير 2011.
ـ منع الرقابة بكافة أشكالها على الإبداع والفنون، والإيمان بأن أخطاء الإبداع ـ إن وجدت ـ لا تستدعي تدخل جهة حكومية، فالإبداع يصوب بعضه بعضاً، تماماً مثلما رفعت الرقابة على الكتب منذ السبعينيات.
أمامنا معركة طويلة، فبعد عبد الناصر حكمنا أنصاف جهلة، لا يدركون أكثر من حدود الاختصاص. وعلى غزارة أحاديث السيسي لا يبدو أن له علاقة بالثقافة، ولم يذكر عنوان كتاب ألهمه شاباً أو قرأه حديثاً. وما يقال عن الكتب ينسحب إلى ألوان الثقافة كلها.
مستقبل الثورة هو نفسه مستقبل الثقافة. ويبدو أن لعنة "25 يناير" أصابتني، وبدلاً من استشراف "مستقبل" الثقافة، انزلقت إلى "ماضي" المثقفين. ذاكرتي مثقلة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي