إنغريد هي أول من رأت القارب. كانت حينئذٍ جاثية على ركبتيها في الثلج اللزج على الرأس البحري بجوار سقيفة القارب، وما عادت تشعر بالبرد في أصابعها على الرغم من أنها كانت تصنع كراتٍ من الثلج وتقذف بها طيور النورس التي تعتقدها طعاماً، فتنقضّ عليها وتتصارع في ما بينها. وكانت تغطّي رأسها بشالٍ واحد، بينما اعتادت أن تلبس ثلاثةً في أوقات الصقيع، وشالاً آخر لحماية وجهها. في هذه اللحظة، خلعت شالها ولوّحت به، وشعرت لأول مرة هذه السنة بالريح في شعرها، لقد انتهى فصل الشتاء.
لم يكن قارباً واحداً، بل قاربين، والأول يقطر الثاني وراءه. وفي القارب الأول يجلس أربعة مُجدّفين بثيابٍ سوداء وثلاثة أشخاص آخرين، بينما كان القارب الثاني فارغاً، وهو قارب بارأوي الذي اختفى مع باربرو.
عرفت إنغريد القارب من الألوان على جانبيه، فركضت صاعدةً إلى البيت لتخبر أمها بالأمر. لكن ماريا رأت القاربين أيضاً، وكانت في طريقها إلى الرصيف؛ ثم جاء مارتن يمشي متثاقلاً، من سقيفة القارب الجديدة؛ ورأى الثلاثة، من مكانهم على الرصيف الجديد، واقية الحديد الأمامية في القارب الأول تلامس الشاطئ. وكان في القارب الأول زوجة القسّ، وامرأة أخرى لم تميّزها ماريا في البداية. وفي مؤخرة القارب وراء المجدّفين جلست باربرو بثياب غير مألوفة لدى ماريا وإنغريد. نهضت باربرو وخَطَتْ فوق المجاديف، وضعت يداً على كتف زوجة القسّ وصعدت إلى الرصيف، ثم انطلقت مباشرة إلى البيت دون أن تنبس بكلمة واحدة. وقفوا جميعاً يراقبونها حتى وصلت إلى البيت ودخلت وأغلقت الباب وراءها. وحدها إنغريد ركضت إليها.
رواية "اللامرئيون" لروي ياكبسون ترجمة محمد حبيب، صدرت عن دار سرد ودار ممدوح عدوان، نقرأ فيها عن حلم مغادرة جزيرة نرويجية ومواجهة العالم الخارجي لأول مرة
قالت كارين لويس مالبيرغيت إن باربرو لم ترضَ أن تبقى عندها أكثر من ذلك، وقد حاولت بشتى السبل أن تقنعها بالبقاء، لكنها لم تنجح، فكانت باربرو تبكي وتصرّ على العودة إلى بارأوي، ولم يستطيعوا جلبها قبل الآن بسبب الرياح والصقيع.
وضعت زوجة القسّ كلتا يديها على فمها، عندما عرفت أن باربرو لم تغادر الجزيرة بالاتفاق معهم، بل هربت، وقد ظنّ أهلها أنهم فقدوها. ثم في اللحظة ذاتها، تلفّتت كارين لويس حولها، كما فعل زوجها منذ دَهرٍ، وحدّقت إلى البيوت على البرّ من حيث جاءت، وكأنها لم ترَها من قبل قطّ، وقالت: «أنتم تعيشون في مكانٍ رائع!».
كانت تلك جملة لا معنى لها في نظر مارتن الذي لم يجد سوى كلمة «أوخ!» للردّ عليها، وقال أيضاً «كلّا!» فظّة للمجدّفَين اللذين سألاه ما إن كان بحاجة إلى مساعدة كي يُدخل القارب إلى السقيفة. ثم اتجه إلى السقيفة وعاد بمزلاقين خشبيين، وطلب منهم أن يدفعوا القارب فوقهما، ثم سحبه هو إلى السقيفة. وكانت تلك فرصة مناسبة سنحت لماريا أن تتعرّف إلى المرأة الثانية، واسمها إليسا هافستاين، فقد كانتا زميلتين في المدرسة ذاتها.
تصافحتا وتبادلتا الابتسامات. لقد كان لقاءً قاسياً. ترتدي إليسا ثياباً لم تُخِطها بيديها، وتربط حول رقبتها وشاحاً أبيض جعلها تبدو مثل راهبة، وهي قابلة قانونية، وأخبرتها أن باربرو حامل، وسوف تضع مولودها في الصيف، وهذا ما دفع كارين لويس إلى جلب إليسا معها إلى الجزيرة، كي تتعرّف إلى المكان.
اقتربت ماريا من باربرو، ووضعت يداً على كتفها، فصعدت إلى أنفها رائحة الورد، والليلك، والقرّاص التي تفوح منها، كما لاحظت أنها قد قصّت شعرها وسرّحته مثل النساء على البرّ أو في الجزر الكبيرة. واحتارت في أمرها هل تصفعها أم لا، لكنها تركت يدها فوق كتفها
لم تستطع ماريا فهم الأمر، فمنذ الأزل وهنّ يلدن أطفالاً في هذه الجزيرة وكلّ الجزر الأخرى دون مساعدة قابلة. لكن كارين لويس تتمتّع بسلطة، وقد قرّرت أن باربرو تحتاج إلى مساعدة أكثر من غيرها، ومن خبرتها في هذا المجال تعرف أن باربرو مختلفة عن الأخريات. وافقتها إليسا الرأي تماماً، واكتفت بإيماءة من رأسها بطريقة توحي أنها ليست مضطرّة إلى إضافة أي كلمة إلى ما قالته كارين لويس.
بعد أن وضعت زوجة القسّ الخطوط العريضة للولادة، تصافحتا ثانيةً، وساعد المجدّفون السيّدتين في ركوب القارب ثانية وبدؤوا التجديف.
بقيت ماريا واقفةً في مكانها وهي تتساءل لماذا لم تقدّم لهما قهوةً أو طعاماً، فلم يحدث قطّ أن جاء زائرٌ إلى الجزيرة دون أن يحظى بضيافة لائقة.
سارت على الشاطئ وهي تفكّر كيف ستخبر الآخرين بأمر باربرو، ابنتها وحماها. ثم قرّرت أن تبدأ مع إنغريد، فقد كبرت كفايةً. أما زوجها فسوف تخبره حالما يعود من لوفوتن. لكنها تردّدت في العودة إلى المنزل.
خلعت شالها وسارت على الشاطئ باتجاه الرصيف الجديد، ثم تابعت باتجاه الجنوب وسمعت خرير الجداول التي بدأت تنقل الشتاء من الجزيرة إلى البحر. جلست على صخرة، عَرّت قدميها ووضعتهما في ماء البحر. وبقيت على هذه الحالة حتى ابيضّتا وبدأ الخدر يسري فيهما، فأخرجتهما من الماء وجفّفتهما كما جفّفت دموعها بالشال، ثم لبست جوربيها والخفّين الصوفيين، وعادت إلى المنزل ودخلت إلى المطبخ، حيث كانت إنغريد تقف بجوار جدّها وتلعب بيديه، وهو جالس في كرسيّه الهزّاز ويحدّق إلى باربرو كما لو أنه ينتظر الإثبات النهائي على أنها لا تزال حيّة. لم تنبس باربرو بأي كلمة. بدا كما لو أنها لم تعد إلى البيت ولن تعود أبداً.
اقتربت ماريا من باربرو، ووضعت يداً على كتفها، فصعدت إلى أنفها رائحة الورد، والليلك، والقرّاص التي تفوح منها، كما لاحظت أنها قد قصّت شعرها وسرّحته مثل النساء على البرّ أو في الجزر الكبيرة. واحتارت في أمرها هل تصفعها أم لا، لكنها تركت يدها فوق كتفها. أمسكت باربرو بيد ماريا، ضمّتها بين يديها بقوّة، ثم نظرت إليها كما لو أنها تنظر في بئر من اليأس، ثم أفلتتها، ونهضت إلى غرفة الطعام وعادت بعلبة الخبز، وقالت إن أكثر ما افتقدته هناك، في بيت القسّ اللعين، كان الطعام اللذيذ.
...
الغلاف الخلفي للكتاب
ولدت "إنغريد بارأوي" في جزيرة صغيرة قبالة الساحل الشمالي الغربي للنرويج، جزيرة يقطنها أفراد أسرة واحدة فقط، يعيشون طموحاتهم وأحلامهم التي تصطدم بحدود الأرض والطقس، ورحمة البحر الذي يوفّر لقمة العيش، لكنّه يجلب الموت أيضاً.
يحلم الوالد "هانس" ببناء رصيف يربطهم بالبرّ الرئيس، لكن الاتصال بالعالم الخارجي له ثمن، ستعرفه "إنغريد" تماماً بعد أن تكبر وتذهب لتعمل هناك عند عائلة ثرية، وتعتني بطفليها. ومع اختفاء الزوجين ذات يوم، لا تجد بدّاً من العودة إلى بيتها برفقة الطفلين، وهكذا يزداد سكّان الجزيرة عدداً، وتبدأ حياة مختلفة، خصوصاً مع استيقاظ النرويج على عالم أوسع، عالم حديث متقلّب ويمكن أن يكون قاسياً.
"اللامرئيون" هي استجوابٌ عميق للحرية والقدر، مكتوبٌ بسردٍ رهيف، وجمل مقتضبة بسيطة هادئة تشوبها توتّرات شعرية، لتكوّن لوحةً من السينما الطبيعية تجعل "اللامرئي" مرئيّاً بوضوح.
..
روي ياكوبسن: كاتب نرويجي من مواليد أوسلو 1954. أصدر مجموعته القصصية الأولى «حياة مصادرة» في 1982، ونال عليها جائزة تريا فيسوس (جائزة أفضل أول عمل أدبي، تمنحها جمعية الأدباء النرويجيين). تفرّغ للكتابة في عام 1990. ألّف ياكوبسن خمس مجموعات قصصية، وكتاباً للأطفال، وتسع عشرة رواية، ونال خمس عشرة جائزة أدبية مرموقة. ورُشِّحت روايته «اللامرئيّون» لجائزة مان بوكر الدولية في عام 2017، وكانت أول رواية نرويجية تُرشّح لهذه الجائزة.
يتميّز ياكوبسن بإنتاجه الأدبي المتنوّع من القصص القصيرة المشبعة بالمحتوى النفسي، وتقنيات السرد المتعددة، وباستخدامٍ انتقائيّ للصور واللغة، إضافةً إلى الروايات الأوسع نطاقاً التي تتميّز بثروة من المعرفة التاريخية والأدبية واللغوية والسياسية، من عصر ملحمة آيسلندا إلى تاريخ الحرب في القرن العشرين في القارة الأوربية وفي روسيا وفنلندا. هذا النوع من الكتابة جعل الناقد النرويجي الكبير «تريغفي براتيلي» يصف روايات ياكوبسن بأنها سينما طبيعية. وقد تُرجمت أعماله إلى 41 لغة عالمية.
..
محمد حبيب: محمد حبيب مترجم من سورية، عمل مدرسا في ثانويات تربية اللاذقية. يعمل في الترجمة منذ عام 1992. صدر من ترجمته مسرحية «اجتماع شمل العائلة‘ للشاعر الكبير ت.س. إليوت، ورواية «العمى» لجوزيه ساراماغو، ورواية "تحت البركان" لمالكوم لوري.
..
جميع الحقوق محفوظة لدار سرد للنشر و دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع.
..
الكتاب متوافر في المكتبات وعلى نيل وفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...