5:50 p.m.
هند
"هل ظننت أن الأسد نائم لأنه لم يزأر؟"
فريدريش شيلر
في أحد الصباحات كنّا أنا وبلال أول من وصل إلى الصفّ. اقترب مني وأحاط رقبتي بيديه كأنه يريد أن يخنقني لكني لم أخف. ثم قبّلني بوحشية. ثم صفعني. صفعني لأنه لم يكن قادراً أن يصفع نفسه. رأى حقيقته التي كان يرفضها في وجهي، ذاقها بين شفتيَّ. صرنا نتواعد بلا أن نتواعد. يحرص كلانا على الوصول قبل الجميع إلى الصف. يبدأ بضربي وينتهي بتقبيلي. أو العكس. كمثل خطة ضمنية تجعل الفكرة أكثر احتمالاً لديه. ازداد شغفه بي يوماً بعد يوم ومثله حنقه عليَّ. كلما تعلّق بي أكثر كرهني أشدّ. بقي كل هذا سرّاً طبعاً... قال لي في أحد الأيام: "ليش انتَ هيك؟".
"شو يعني هيك؟ سألته. "هيك يعني بتزيدا. مأوفر باللوطنة. بتمشي متل البنات وبتحكي متل البنات وع شوي ح تلبس تنورة ع الطريق لو ما عارف إنك بتنقتل بنفس اللحظة. ليه ما بترجّل شوي؟ ضروري الكلّ يعرفوا إنتَ شو؟". لم أعرف بمَ أجيبه. كيف تشرح لأحدهم أنك ولدت في الجسد الخطأ؟ أن خطيئتك مزدوجة ومصيبتك مزدوجة لأنهما أعظم من أن تُخفَيا، لكنك لا تعرف لهما اسماً تدلّ به عليهما؟ "أنا لستُ مثلياً يا بلال. لستُ رجلاً ينجذب جنسياً إلى الرجال. أنا امرأة تحبّ الرجال لكنها عالقة في جسد رجل. يعني أنا هيتيروسكشوال من جوّا، بقلبي وروحي وغريزتي، وهوموسكشوال من برّا، بجسمي ولحمي ودمي. يعني خبيصة. عم تفهم عليّي؟ أكيد لأ. معليش. حتى أنا ما بفهم عليّي يا بلال".
بعد البروفيه انتقلت عائلة بلال للعيش في الضاحية ولم نعد على اتصال. أما أنا فأجبرتني إنعام على ترك المدرسة رغم أني كنت متفوّقة. "العِلم مش لـ شكالَك. انقبر لقطلَك شي صنعة وساعدنا بمصروف البيت". بعد أسبوع من ذلك بدأتُ العمل لدى ميكانسيان أرمني تقع ورشته على الاوتوستراد المقابل، واحد من عشرات الغراجات في ذلك الحيّ. كنت أستخدم جسر المشاة لأجتاز الأوتوستراد. سببٌ آخر لتتمسخر عليّ إنعام. "إي أكيد يلي بيتغندر متلك ح تقشّو سيارة إذا قطع الطريق متل البني آدمين". "البني آدمين" يستخدمون جسر المشاة يا إنعام، أجيبها. طبعاً ودائماً في سرّي.
(اسكت أيها الإنسان، أسكت. خلاصك في الصمت. إياك أن تتكلّم، إياك أن تسأل: لماذا؟ إلى أين؟ حتّام؟ من أجل من وماذا؟ السؤال دمارك أيها الإنسان. اسكت وتجاهل واركض. اركض خصوصاً. إلى الأمام هيّا! لكلّ منا طريقته في الركض. بالنسبة إلى البعض، هي جمع المال. لآخرين هي العلاقات. أنت يا هند تركضين في رحمك. رحمك الغائبة، المرغوبة في غيابها، المرغوبة بسبب غيابها. ميشا هي الأخرى تركض في رحمها. رحمها التي حرموها منها غدراً. تجمعكما، أنت وهي، هذه الرحم المشتهاة، المسلوبة، المهدورة. الرحم، وشقاؤكما طبعاً. شقاؤكما العظيم، الأعظم منكما أنتما الاثنتان.)
...
صدرت رواية "القتيلة رقم 232" للكاتبة اللبنانية جمانة حداد عن دار نوفل-هاشيت أنطوان، نتعرف فيها على شخصيات اختبرت الحياة قبل ساعة من الانفجار الرهيب الذي حصل في مرفأ بيروت عام 2020
5:51 p.m.
ميشا
"العيش سقطة أفقية"
جان كوكتو
"جيبيلي الكاس".
على الوقت، مثل البيغ بن، ومن دون أن ينظر حتى إلى الساعة. تأخّر دقيقة واحدة اليوم. أو لعلّي لم أنتبه وهذه المرة الثانية يناديني. كنتُ أمضيتُ الدقيقتين الأخيرتين في الحمّام أطحن الحبوب بمدقّة الثوم على مهل، كي لا ينتبه إلى شيء. لكنه مأخوذ بالفيلم ولم يتحرّك. أنتقل إلى المطبخ، أضع البودرة في كعب الكأس، أسكب قليلاً من الويسكي وأخلطها بالبودرة جيداً حتى تذوب تماماً. ثم أزيد الويسكي شيئاً فشيئاً وأتابع التحريك بالملعقة. عندئذ أضع مكعبات الثلج وأخلط كل شيء مرّة أخيرة قبل أن أزيد قليلاً من الويسكي على وجه القدح. أتناول صحن اللوز الجاهز من البراد، أضع فوقه بعض مكعبات الثلج وأتوجه إلى الدار حاملة الكأس بيدي اليسرى. أضعهما على الطاولة أمامه. أراقب يديَّ إذ أفعل. أنا لا أرتجف. غريب. حتى إني لستُ خائفة ولا قلقة.
)يُحكى أنّ أميرةً في قديم الزمان أغرمت بخنزير بريّ. جنّ جنون والدها الملك عندما أخذت الخنزير إليه وقالت له: "هذا هو عريسي ولا أريد عريساً سواه، وإذا لم تقبل به فسأهرب معه. وإذا لم أستطع أن أهرب معه فسأقتل نفسي.")
عندما وصل الخبر إلى أمّها الملكة، أغمي عليها وتطلّب إيقاظها عشرين قبلة من عشرين فارساً باسلاً. أما البلاط فوقع في فوضى لا مثيل لها. صياح وهمهمات وبكاء وتأوهات. "ماذا؟ أميرتنا الوحيدة تتزوّج بخنزير؟ هذا لا يعقل يا مولاي!"، قال مستشار الملك لسيّده. لكنّ الملك، رغم استفظاعه الخبر استفظاعاً شديداً، كان يحبّها أكثر من كل شيء، وكانت سعادتها همّه الوحيد في الدنيا، قبل الملكة وقبل البلاط وقبل كل المستشارين. هكذا قرّر أن "طز بالجميع"، وأوّلهم زوجته إيزابيل دي لا مورا فلور، التي كانت أصلاً لا تطاق ودائماً تعيّره بأنها هي التي جعلته ملكاً، ولأجل ذلك كان يتحيّن أي فرصة لإغاظتها. "هذه أعظم فرصة"، قال في سرّه وهو يفرك يسراه بيمناه مسروراً. "ثم لماذا نحكم هكذا على الخنازير؟ قد نكتشف أنه أفضل الأزواج.
أنظروا إليّ: كنتُ في ما مضى ضفدعة وعندما قبّلتني القحبة إيزابيل صرتُ أميراً ثم ملكاً، ولم أخيّب ظن أحد بي– سوى ظنّ إيزابيل الشمطاء التي لا يعجبها العجب، تلك الساحرة السليطة". هكذا وافق الملك على زواج ابنته الوحيدة، الفائقة الذكاء والثقافة والجمال، من الخنزير البريّ. لم تكن الأميرة تتوقّع أبداً هذا الجواب، فطارت من الفرح، وتزوجت بحبيبها في عرس مطنطن دام سبعة أيام وسبع ليال. في الليلة الثامنة قام زوجها الخنزير بقتل والدها الملك والتهامه. ثم التهم حماته الملكة أيضاً، والمستشار، والأميرة، وأصبح حاكماً مطلقاً بأمر المملكة.
كيف تشرح لأحدهم أنك ولدت في الجسد الخطأ؟ أن خطيئتك مزدوجة ومصيبتك مزدوجة لأنهما أعظم من أن تُخفَيا، لكنك لا تعرف لهما اسماً تدلّ به عليهما؟ "أنا لستُ مثلياً يا بلال. لستُ رجلاً ينجذب جنسياً إلى الرجال. أنا امرأة تحبّ الرجال لكنها عالقة في جسد رجل- جمانة حداد
لعلّكِ تتساءلين يا ميشا ما الحكمة من هذه القصة؟
لنحاول أن نحزرها معاً.
هل الحكمة أنّ "من يتجرّأ ينل"؟ (تجرّأت الأميرة أن تواجه والدها فحصلت على مرادها رغم استحالته الظاهرة).
هل الحكمة أن الخنازير يحكمون هذا العالم؟ (هذه فرضية مقنعة ومنطقية للغاية).
هل الحكمة أن طبيعة الإنسان لا تتغيّر ولا تتهذّب مهما تحوّلت الظروف؟ (الخنزير يظلّ خنزيراً).
أم أن الحكمة أن الرغبة في الانتقام لا تُحمد عقباها دائماً؟ (أراد الملك إغاظة زوجته الملكة فوافق على زواج ابنتهما من خنزير وكان ما كان).
نقّي واستحلي يا ميشا. ولكن اعرفي شيئاً واحداً: مهما قرّرتِ وأينما اتجهتِ، فسيكون هنالك دائماً خنزير في انتظاركِ. (دائماً).
...
الغلاف الخلفي للكتاب
يمكن القول إن هذه هي الرواية اللبنانية الأولى عن انفجار الرابع من آب ٢٠٢٠. الأحداث الرئيسية تدور قبل ساعة من الانفجار الرهيب، لكن عمر معاناة الضحايا قد يكون أطول من ذلك بكثير. في رواية تقوم على تصميم متقن للوقت، نقرأ سرداً لقصتين، تجمعان الكثير من الأبطال، والقليل منهم أيضاً: الزوج الذكوري والمتسلّط، ميشا الزوجة الضحية لزوجها وللنظام، وعباس، الذي يسمّي نفسه هند ويعلن نفسه امرأة. خلال أحداث ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩ في لبنان، التقت ميشا بهند، وجمعتهما صداقة سمحت لهما بتبادل الألم، ولكن وفرّت مساحةً للأمل أيضاً. لكن، فجأة، حدث الانفجار وانتهى ما لم يكد يبدأ.
جمانة حداد: شاعرة وكاتبة لبنانيّة حازت جوائز عربيّة وعالميّة عدّة، فضلاً عن كونها صحافيّة ومترجمة وأستاذها جامعيّة. شغلت منصب المسؤولة عن الصفحة الثقافيّة في جريدة «النهار» لأكثر من عشر سنوات، وعلّمت الكتابة الإبداعيّة في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة في بيروت. اختارتها مجلة «آربيان بيزنيس» للسنوات الأربع الأخيرة توالياً واحدة من المئة امرأة عربيّة الأكثر نفوذاً في العالم، بسبب نشاطها الثقافي والاجتماعي. من أعمالها عن دار نوفل: «هكذا قتلت شهرزاد» و«بنت الخياطة».
....
جميع الحقوق محفوظة لـنوفل-دمغة الناشر هاشيت أنطوان ©
الرواية متوافرة في أفرع نوفل-هاشيت أنطوان في لبنان، والعالم، ومتوافرة على نيل وفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...