ما يتسرّب من بين أصابعنا نحسّه؛ نلمسه ونراه بفضل ما يثبّته ويوثّقه. نعود إلى لحظات مرّت بنا وفي ظننا أن الصورة الفوتوغرافيّة تخدعنا؛ فمن ثبت رسمه داخل إطارها ليس نحن، هكذا نسرّ إلى أنفسنا! هي لعبة الزمن، بما هو حركة تضعنا وسط الملعب ونحن اللاعبون، إنما اللاعب الأكبر هو الزمن في حركته التي لا تهدأ. هنا تكمن فضيلة الصورة وجمالياتها، وإن حملت تاريخاً من القبح والآلام. عودتنا تحفّزها النوستالجيا بما هي حنين يولّد الفرح ويرسم ابتسامة على شفاهنا بغير تفكّر أو إرادة واعية منا.
فنّ الفوتوغرافيا وفينومينولوجيا الصورة
تبدو الصورة بدون صوت؛ ثابتة بغير حركة، إنما تبتكر صوتها بتخليق حركتها في ذاكرتنا حين تبدأ بحكاية قصصنا. هي علامة (سيمة) على وجودنا، على إقامتنا في العالم، لا التفكير فيه وحسب؛ لأنّها دليل على تجربة كنا قد خضناها، وعلى حضور الآخر معنا، وإن حدث أن كان خارج إطار الصورة. وهي علامة تقاوم النسيان والمحو. هذا هو تماماً المعنى المشترك للحضور، في ظهوره واحتجابه؛ وهذه هي متعة محاولتنا القبض على معنى التجربة من خلال ما يظهر في صورنا وما يخفى فيها.
ثمة وحدة صميميّة بين الرائي والمرئي، بين الذات والعالم وفق تصوّرات الفينومينولوجيا. وإذا كان "الأنا المتجسّد" يرى ويدرك ويحسّ ويشعر، وليس أداة تتوسّلها الأنا للرؤية، فإنّ الصورة هي تأكيد ظهور هذا التجسيد، والتعبير عنه انطلاقاً من تجربة إبصار بالفعل، والمولّدة عن ملامسة المصوّر الفنّان العالمَ وأشياءَه وموجوداته وأحداثه.
إن اللاعب الأكبر هو الزمن في حركته التي لا تهدأ. هنا تكمن فضيلة الصورة وجمالياتها، وإن حملت تاريخاً من القبح والآلام. عودتنا تحفّزها النوستالجيا بما هي حنين يولّد الفرح ويرسم ابتسامة على شفاهنا بغير تفكّر أو إرادة واعية منا
في مقدمة كتابه "الغرفة المضيئة"، يقول رولان بارت إنه عثر على صورة فوتوغرافية التقطت عام 1852 للطفل جيروم، الأخ الأصغر لنابليون بونابرت، فأسرّ لنفسه- في دهشة منه- بأنه يرى العيون التي رأت الأمبراطور، مكتشفاً أنّ الفوتوغرافيا تحمل مرجعها معها؛ فالصورة دالّ، وهي لا تتمايز عمّا تمثّله. ويطرح السؤال: "لماذا نختار هذا الموضوع في تلك اللحظة دون غيرها؟"، ويرى أنّه من دون انفعالات شخصية لن يكون ثمة فوتوغرافيا.
فنّ التصوير تقنيّة في خدمة التصوّر التخييلي
تتبدّى رؤية الروائي إلى العالم وأشيائه الحسيّة وأنواته المتجسّدة إعادة تأسيس فنّيّاً للممارسة التخيليّة؛ وهذا ما يجعل من الرواية انفتاحاً على العالم الإنساني بتوسّط الحواس، فنقل المحسوس بجوهره والانفعال فيه والموجود بتجربته، وليس من خلال النسخ؛ كل ذلك لاختبار المعاني في ما هو مشترك ومتفرّد في آن.
أنقل في هذه السطور متعة الكشف من خلال روايتين، إحداهما للسوري ممدوح عزّام بعنوان "أرض الكلام"، والأخرى بعنوان "رالف رزق الله في المرآة" للبناني ربيع جابر، وقد استخدما تقنية التصوير الفوتوغرافي في بناء العالم التخييلي من وجهتي نظر اجتماعيّة وتحليليّة نفسيّة. ابتكر عزام شخصيّة نازي هاوي تصوير الأحياء والجمادات، أما جابر فقد أجرى السرد على لسان راوٍ ذاتيّ الحكاية يبحث في أسباب انتحار الأكاديمي رالف رزق الله، أستاذ علم النفس والكاتب في صحيفة النهار؛ وهو شخصيّة روائيّة ذات مرجعيّة واقعيّة، لقي مصرعه أمام صخرة الروشة في بيروت.
للصور ذاكرة تتكلّم في الكثير من أعمال ربيع جابر، فقد كان سكّان الصور معيناً للروائي على الكتابة، وهو المسكون بالحكايات وشخصياتها. الحياة الحميمة لمن مرّوا في الأمكنة ورحلوا عنها، ومَن ورثوها، محور الحكي والصور معاً. لذا، فإنّ حضور فضاء الغياب يرهص بتداعيات الذاكرة في المتخيّل السردي.
إن كانت الرواية كلام لأصوات متعدّدة، فلنا أن نلتمس مقاصد "أرض الكلام" من عنوانها. رواية تصوّر أحوال المجتمع الريفي في الجنوب السوري في زمن الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة: 1958-1961). فقر، قحط ومجاعة، وندرة فرص العمل، جفاف عاطفي وشباب يعاني... بعض الكلمات شعارات – حبر على ورق- لا تشبه الحياة الملوّنة؛ وبعضها الآخر يحيل العالم كله إلى كلمات في كتب، تجسّد التخيّلات وتمتص النزوات وتوحّد الأشياء بها، لكنّ المحزن أن تباع المرأة "بشويّة كلام" لتصبح زوجة أحدهم بغير رغبتها.
سكّان الصور: أن توثّق القحط والنزوح والمناسبات واللقاءات
تمكّن نازي حطاب بغير دراية منه، من أن يملك أسراراً تخص أبناء قريته (السماقيات) خزينة في أفلام آلة التصوير "كوداك"، ويخبر الراوي أنّه اكتشف في مجموعته صور بشر يلوحون بأيديهم، وآخرين يحملون حقائب ويمضون. فوضع تلك الصور في ألبوم سماه: "كتاب العائدين"، لعلّ من سجّل رحيله في تلك الصور يعود، لكنّ الرجاء لم يتحقّق، والغياب استمر متلاحقاً. وفي صور نازي اكتشف كريم سرّ اختفاء حبيبته محمودة؛ إذ كانت من ضمن الراحلات تباعاً إلى بيروت للعمل في الخدمة المنزليّة.
ثمة تجربة للمصوّر الذي التقط الصورة، إما بحياديّة وإما بشحنة انفعاليّة؛ بحبّ، بفضول، بحزن أو بمحض مصادفة... في هذا وذاك سنستشعر بمسافة زمنيّة تعيد خلط الذات بالموضوع، فتغيب المسافة من جديد أمام ابتسامة ترسمها الرؤية على وجوهنا
عرف نازي خطورة غواية هوايته في التصوير، وأنّه في بعض من هذه الأوراق الكرتونيّة يمسّ وجود البشر؛ فثمة محرّمات في كشف المستور من خفايا الرجال وأسرار النساء. الطريف في وضع أسماء رمزية لألبومات صوره، مثل "كهف الزنابق" الذي يضمّ صور المتحرّشين بالفتيات في مواسم جمع الأزهار البريّة. و"عقد الجوز" يجمع صور المشاجرات والمعارك بين العائلات، حتى أنّ آلة نازي أصبحت مثالاً لدى حليم المتشدّد دينيّاً، متمنيّاً لو أنّ الربّ لديه كاميرا ليرسل إلى الكافرين صور جهنم علّهم يصدّقون فيتركون لينين وعبد الناصر وعفلق.
خلدت صور نازي لحظات تختزن تاريخاً، على غرار يوم نجدة الفقراء من المشروع الأميركي المسمّى بالنقطة الرابعة. فما سجّله في حينه هو "لحظة دركيّة" تظهر حزاماً مرفوعاً في الهواء في إثر شاب هارب، وسط جموع طالبي الإعاشة المتجمّعين في فوضى. لكنّها لم تلتقط حسرة الوجوه بعد اكتشاف نوعية الطحين؛ فما هو إلا علف حمير! كما وثّق نازي في صوره ثورة الذئاب الجائعة في سهل الزرازير، وهي تفتك بالحمير الداشرة بعد أن أفلتها أصحابها لقلّة الأعلاف.
وفي رواية ربيع جابر، يحاول الراوي فهم شخصيّة رالف بادئاً بتأمّل مقالاته ودلالاتها في عناوينها: "الفراولة الأخيرة" وقد كتبها بعد مرض والديه وشعوره بعجز الإنسان وهشاشته. "دراكولا" ويوضّح فيها السمة الرئيسة لشخصية الحي – الميت؛ و"مدخل إلى التعاسة" حيث يعلن فيها عبثية البحث عن معنى الحياة والوجود. و"ظاهرة النيرفانا والانتحار"، و"سن الأربعين" و"بلاغة السكوت"... والمقالة الأخيرة نُشرت بعد قفزته النهائيّة صوب البحر، يعلن فيها أنّه سيغادر إلى عالم السكوت.
ويتابع بحثه في صور رزق الله الفوتوغرافيّة، وما تخبر به عن مراحل مختلفة من حياته، فيكتشف من خلالها علاقته الجيدة بوالده، وبأنه فشل في مشروع دخوله المدرسة الحربية مخمّناً السبب في ضعف يعانيه في نظره؛ فهو يضع نظارات، وبأنه قرّر التخصّص في علم النفس كي يفهم أسباب انتحار خالته لودي التي وجدت نفسها وحيدة، وعندما لم تعد قادرة على نسيان مناماتها. يحاول فهم ابتساماته ونظراته ووضعيّاته في صور التقطت له في مناسبات عديدة.
أمام آلة التصوير قد تتقنّع بابتسامة خادعة
خلف نافذتها المشرّعة على حارة، وإزاء صورة الزوج الميت المعلقة على الجدار، تجلس لؤلؤة (شخصية في "أرض الكلام") في بيت فارغ. تطلب الموافقة من الوجه المبتسم في الصورة، والتي ستظل على حالها؛ "هي ابتسامة موجهة إليها منذ أن وقفت أمامه في ستوديو غزال بدمشق تسخر من جموده تحت الأضواء الحارقة". تراقب الغرف المؤجرة لتلاميذ جاؤوا من قرى مجاورة، تتحول النافذة إلى إطار يضم صوراً تحرّك حياتها ومشاعر أمومة لم تتحقّق.
وفي درج خزانتها يقبع الماضي: صورة زوجها المتبسّم دائماً. تتساءل بغرابة عن هذه الابتسامة الصادرة عن قلب حزين وفكر قلق ونفس غاضبة بلا أمل. تفكّر في الابتسامة الخادعة في الصورة؛ فلم تستطع ابتسامات الصور إنقاذه من الموت غمّاً. يسرّب الراوي على لسان لؤلؤة في وصف صور لقاءات زوجها مع آخرين بأنّه من النادر أن يظهر أحد منهم مقطّباً، أو ساخطاً تجاه أي شيء، ليقول إن الصور الشخصيّة قلّما تعكس الحقيقة. ولنا أن نعود إلى رالف رزق الله؛ فابتساماته في صوره لا تختلف عن مثيلاتها في صور زوج لؤلؤة.
نحن الآن مع صورنا إذن، لكن خبرتنا هنا حيث نكون ذاتاً تشاهد وترتحل في الذاكرة تختلف عن خبرتنا هناك عندما كنا موضوع الصورة، وتختلف أيضاً عن تجربة من يتأمل صورنا وهو ليس موضوعها. وثمة تجربة أخرى للمصوّر الذي التقط الصورة، إما بحياديّة وإما بشحنة انفعاليّة؛ بحبّ، بفضول، بحزن أو بمحض مصادفة... في هذا وذاك سنستشعر بمسافة زمنيّة تعيد خلط الذات بالموضوع، فتغيب المسافة من جديد أمام ابتسامة ترسمها الرؤية على وجوهنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت