ما إن تحط قدماك على أرض مطار آخر، بعيداً عن مطار بلدك الأصلي، حتى تشعر بالحاجة إلى التواصل مع من كانوا في وداعك والمقربين. تخبرهم بأنك قد وصلت، وها أنت تخطو أولى خطواتك بحثاً عن رقاقة هاتفية، أو شبكة "واي فاي"، في المطار أو التاكسي، لتتكلم معهم.
مشهد يعرفه الكثيرون ممن خرجوا خلال الفترة الأخيرة من سوريا، أو من أي بلد أنهكته الحرب، مع بعض الاختلافات عما كان سائداً في القرن الماضي، إذ لم تكن هنالك طريقة سوى الرسائل للتذكر دوماً، أو اتصال هاتفي سريع وعابر من المغترب إلى أهله.
تضارب جاء بين فترتين عاشها السوريون على امتداد زمن الاغتراب، سواء في منتصف القرن العشرين تجاه الخليج وأمريكا، أو في 2010 نتيجة الحرب، وعوضاً عن الورقة البريدية المحمولة برائحة المرسل وخط يده، جاءت التكنولوجيا لتعيدنا إلى الوطن كل يوم، بتواصل مباشر واطمئنان متبادل، بصورة حيوية تفاعلية، لكن من غير لمس الورقة التي لمسها كاتبها، أو رائحته التي تعشّقت فيها في أثناء الكتابة.
نوعية التواصل التفاعلية سهّلت اللقاء على الآباء والأبناء في آن معاً، وحتى الاطمئنان، لا سيما عدم وجود فترة زمنية معيّنة للاغتراب، أو بقائه لأجلٍ غير مسمى، نتيجة ظروف معينة، وجاءت هذه المكالمات "الفيديو-الصوت"، بشكل عشوائي في اليوم الواحد مثالاً، ومن دون انتظار شيء عدا الإنترنت، والذي يكون في غالبه "منقّطاً" داخل سوريا، إما لانتهاء الباقة، أو لانقطاع الكهرباء، وعدم وجود بطارية تشغّل "الراوتر".
ما كنت أذكره وأكرره طوال فترة إقامتي في سوريا، حول التواصل وسهولته، بدأ يندمل شيئاً فشيئاً، فلا تواصل متاحاً مع الجميع، على الرغم من توفّر الأدوات، ولا مكان للتواصل مع العائلة بأكملها في اليوم الواحد
مكالمات في الصباح، وأخرى في المساء، وقد تأتي بشكل مفاجئ لسبب ما من قبل الآباء، لشيء أحسوا به، وأرادوا الاطمئنان تجاهه، وبالعكس أيضاً من المغترب نفسه الذي قد يجد ضرورةً للكلام، إما لمشاركة خبر، مفرحاً كان أم سيئاً، والأخيرة قد تقلّ نظراً لحجم المشكلات التي يعيشها السوريون في بلدهم، لذلك يفضّل الابن عدم مشاركة كل شيء ليبقي أهله بعيدين عن دائرة الخوف.
أمر مغاير تماماً عما كان عليه الواقع، إذ يميل البعض المسافر إلى العودة إلى الأسلوب التقليدي البعيد عن الديمومة في التواصل، وتكون الرسالة حاملةً لكل التفاصيل، وموجهةً إلى أكبر عدد ممكن من العائلة الكبيرة والضيقة، مع التخصيص بالاسم لكل شخص ربما، بالإضافة إلى الكلمات المشبعة بالحب، وقبلة في الترويسة تحمل الحب مع صورة مرفقة في الغالب تشرح حاله، والرد مماثل تماماً كما هي العادة.
كل ما جاء في الأعلى، هو شيء من بعض ما وصلنا إليه، أو من قصصٍ سمعناها لأقارب لنا سافروا، ونُقلت إلينا من أسرتنا.
ما كنت أذكره وأكرره طوال فترة إقامتي في سوريا، حول التواصل وسهولته، بدأ يندمل شيئاً فشيئاً، فلا تواصل متاحاً مع الجميع، على الرغم من توفّر الأدوات، ولا مكان للتواصل مع العائلة بأكملها في اليوم الواحد، إذ العمل يسرق كل شيء، خاصةً وإن كان المغترب طامحاً إلى دراسة وعمل وتطوير وراحة، والأخيرة هي التي تجلب ما سبقها من أمنيات. وقد تكون الراحة هي السبيل الجديد لأي مغترب يأمن لحاله الجديد من أجل تحقيق ما لم يستطع تحقيقه أيام الاغتراب في الوطن، حيث التعب اليومي المفاجئ في كل خطوة، وفي أي تفصيل.
التواصل العشوائي كل يوم ينصبّ على الأقربين تحديداً، فلا وقت يتسع للجميع، وعندما حاولت مرةً التواصل مع خالتي، أخبرتني بأن الكهرباء مستعصية في المنزل، وعندما تجيء تهمّ إلى التواصل مع ابنها وابنتها في الغربة أصلاً، وهنا يأتي الإحساس بالفقدان، ليس على مكانك في العائلة الكبيرة، بل على الوقت الذي لن تحصل عليه.
يتحقق التواصل الشامل في هذه الأيام، في حال أراد المغترب الكلام مع العائلة برمّتها، في أن ينتظر يوم اجتماع الأسرة، ويتّصل يهاتفهم، وهم بدورهم يحرّكون الهاتف بينهم كي ينتقل افتراضياً بين الأيدي، حتى يصل في نهاية المطاف إلى يدّ أمه التي تقول: "الله معك يمّا... الكل بيسلم عليك"
كذلك الأمر بالنسبة إلى أمي وأبي، فعليهما أن يختارا بين التواصل معي، أو مع أهلهما في الغربة. خيار واحد لا ثاني لهما، بالطبع يختاران التواصل معي، وهما كذلك، وعلينا إذاً النظر إلى الشاشة الصغيرة، وهي تأخذنا إلى أحبّتنا المقرّبين كلّ يوم، كي لا ننسى أشكالهم، ونحاول ملاحظة التغييرات في أجسادهم ووجوههم، هم من غادروا أجساداً، إلا أن أرواحهم بقيت معلقةً على جدران الحائط بصور قديمة تعرض لمحات من الطفولة تجمع فتات لوحة البازل الموزّعة بين بلدان العالم.
بإمكان أن يتحقق التواصل الشامل في هذه الأيام، في حال أراد المغترب الكلام مع العائلة برمّتها، في أن ينتظر يوم اجتماع الأسرة في البيت الكبير، ويتّصل يهاتفهم، وهم بدورهم يحرّكون الهاتف هناك كي ينتقل افتراضياً بين الأيدي، حتى يصل في نهاية المطاف إلى يدّ أمه التي تقول: "الله معك يمّا... الكل بيسلم عليك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...