شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
صفحة من كتاب

صفحة من كتاب "الشتاء في لشبونة" لأنطونيو مونيوث مولينا‎‎

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 7 أكتوبر 202203:33 م

كانت لوكريثيا قد تمدّدت على الفراش، وما زالت ترتجف، وتبتلع بنهم دخان السيجارة. في قدميها العاريتين لاحظ بيرالبو برقّةٍ دائمةٍ العلامات الحمراء للكعوب التي لم تكن معتادة على استخدامها. مُنحنياً قبّلها بخفة على وجنتيها. كانت قد هربت، مثله تماماً، وكان شعرها رطباً ويداها متجمّدتين.

تحدّثت ببطءٍ بالغ، بعينين مغمضتين، جازّة أحياناً على شفتيها حتى لا يسمع بيرالبو الطقطقةَ الجافة لأسنانها حين تصطكّ بفعل رجفةٍ طويلة. متشبثةً بيد بيرالبو على صدرها، غارسة أظافرها الشاحبة في عُقَلها، كأنها تخشى أن يرحل أو أن تسقط في الخوف إذا تركها. وحين ترتجف تفقد مسار كلماتها، التي تمحوها فورةٌ شعورية أشبه بالحمّى، تنتصب في الفراش، وتظلّ ساكنةً بينما يضع هو سيجارة بين شفتيها، اللتين لم تعودا ورديّتين، مثلما في زمنٍ آخر، بل جافتين ومُلخّصتين في خطٍّ مزدوج من العناد والوحدة يتبدّد أحياناً إلى شكل ابتسامتها القديمة، التي نسيها بيرالبو تقريباً، فهكذا كانت تبتسم له لوكريثيا حين تكون على وشك أن تقبّله، منذ سنين طويلة. فكّر أن تلك الابتسامة لم تكن موجّهةً إليه، لأنها مثل تلك الإيماءات الطفولية التي نكرّرها في الأحلام.

تحدّثت للمرة الأولى عن حياتها في برلين: عن البرد، وعدم اليقين، عن الغرفِ المستأجَرة الأشدّ قذارةً من بنسيون كوبانا، عن مالكولم، الذي لسببٍ لم تعرفه أبداً فقد حماية رؤسائه القدامى والعملَ في تلك المجلّة الفنية المشكوك فيها التي لم يرها أحد؛ قالت إنها بعد عدة أشهرٍ اضطُرّت فيها إلى العناية بالأطفال وتنظيف المكاتب والمنازل لألمانٍ لم تستطع حلّ شِفرتهم، عاد مالكولم ذات يوم ومعه بعض النقود، وهو يبتسم كثيراً، ويفوح برائحة الكحول، معلناً أنه قريباً جداً سينتهي حظّه السيّئ: وبعد أسبوع أو اثنين انتقلا إلى شقةٍ أخرى وظهر توسان مورتون وسكرتيرته، دافني.

- أقسم لك إنني لا أعرف ممّ نعيش... لكن لم يكن يهمّني. فأنا على الأقل لم أعد أرى صراصير عند الثلاجة حين أضيءُ النور. بدا أن مالكولم وتوسان يعرفان كلٌّ منهما الآخر من قديم الأزل، يتبادلان النكات كثيراً، يضحكان بقهقهة، ويغلقان على نفسيهما مع السكرتيرة للحديث عن الأعمال، كما كانا يقولان، يذهبان في رحلة ويتأخران في العودة أسبوعاً، عندئذٍ أراني مالكولم حزمةً من الدولارات أو الفرنكات السويسرية وقال لي: «أنا وعدتُك، يا لوكريثيا، وعدتك أن زوجك سيصنع شيئاً ضخماً...»، وعلى الفور اختفى توسان ودافني. أصبح مالكولم عصبيّاً جداً، واضطررنا لترك الشقة وذهبنا إلى شمال إيطاليا، إلى ميلانو، لتغيير الجوّ، كما كان يقول...

- هل كانت الشرطة تبحث عنهما؟

- عدنا إلى الغرف ذات الصراصير. وأخذ مالكولم يقضي النهار ممدّداً على الفراش ولاعناً توسان مورتون، وأقسَم إنه سيجعله يتذكّره إذا أوقع به. وذات يوم تسلّم رسالة من مكتب البريد. أتى بزجاجة شمبانيا وقال لي إننا سنعود إلى برلين. كان ذلك في أكتوبر من العام الماضي. عاد توسان مورتون ليصبح من جديدٍ أفضل أصدقائه، ولم يعد يتذكّر كل الشتائم التي كان يفكّر في قولها له. ومن جديد أخذ يُخرج حزماً من الأوراق المالية من جيب السروال، فلم تكن تعجبه الشيكات ولا الحسابات المصرفية، قبل أن ينام كان يعدّ النقود ثم يتركها في درج الكومودينو وفوقها المسدس...

رواية "الشتاء في لشبونة" لأنطونيو مونيوث مولينا ، ترجمة أحمد حسان صدرت عن دار سرد ودار ممدوح عدوان، ونقرأ فيها حكاية بوليسية في عشق الموسيقا والبحث عن ذاكرة الألحان

توقّفت لوكريثيا؛ وخلال بضع ثوانٍ لم يسمع بيرالبو سوى الصوت المتقطّع لتنفّسها، ملاحظاً رجفةَ الصدرِ العنيفة تحت يده الممدودة. عاضّةً شفتيها، حاولت لوكريثيا احتواء الرجفةِ العنيفة كاختلاجات حمّى. أدارت عينيها باتجاه الكومودينو، باتجاه المسدس الذي كان يلمع تحت الضوء الخافت للمصباح. ثم نظرت إلى بيرالبو بتعبير البعدِ والامتنان الذي ينظرُ به مريضٌ إلى من أتى لزيارته.

- كلّ الأيام تقريباً كان توسان ودافني يأتيان لتناول الطعام معنا. كانا يحملان أنبذة غاليةً جداً، وكافياراً، مزيّفاً، في ما أفترض، وسلموناً مدخّناً، أشياء من هذا القبيل. كان توسان يربط الفوطة على رقبته ويقترح نخباً دائماً، ويقول إننا نحن الأربعة عائلة كبيرة... وأيام الآحاد، إذا كان الجوّ صحواً، كنا نذهب جميعاً إلى الريف، كان يسعد مالكولم وتوسان أن ينهضا مبكراً ليُعدّا الطعام، ويملأا حقيبة السيارة بسلالٍ ذات مفارش وصناديق زجاجات، لكن قبل الخروج يكونان قد سكرا، على الأقل مالكولم، فأنا أعتقد أن الآخر لا يسكر أبداً، فرغم أنه يتكلّم ويضحك كثيراً، بدا أنهما يتظاهران دائماً بأننا مثل أولئك الأزواج المتّحدين تماماً، وكان الأمر سواء بالنسبة لدافني، تبتسم، وتتكلّم قليلاً جداً، وتراقبني على الدوام، لم تكن تثق بي، لكنها تتظاهر، بتلك الطريقة التي تبدو بها وكأنها تشاهد التلفزيون ويعتريها الملل الشديد، وأحياناً كانت حتى تخرج إبراً وشلّة صوف وتشرع في شغل التريكو... كانا وحدهما، يشربان، يقطعان الحطب من أجل النار، يطلقان النكات التي يستلطفانها كلاهما، ويقصّان نكاتٍ قذرة بصوتٍ خفيض، حتى لا نسمع.

توقّفت لوكريثيا؛ وخلال بضع ثوانٍ لم يسمع بيرالبو سوى الصوت المتقطّع لتنفّسها، ملاحظاً رجفةَ الصدرِ العنيفة تحت يده الممدودة. عاضّةً شفتيها، حاولت لوكريثيا احتواء الرجفةِ العنيفة كاختلاجات حمّى. أدارت عينيها باتجاه الكومودينو، باتجاه المسدس الذي كان يلمع تحت الضوء الخافت للمصباح. ثم نظرت إلى بيرالبو بتعبير البعدِ والامتنان الذي ينظرُ به مريضٌ إلى من أتى لزيارته

وفي الكريسماس جاءا يقولان إنهما استأجرا كوخاً بجوار بحيرة، في غابةٍ، وسنذهب لنقضي هناك ليلة رأس السنة، احتفالاً حميماً، مع قلةٍ من المدعوين، لكن في النهاية لم يظهر سوى واحدٍ، يدعونه البرتغاليّ، رغم أنه يبدو بلجيكياً أو ألمانياً، بالغ الطول، بوشمٍ على ذراعيه، سكّيرُ بيرةٍ، وحين ينهي قنينةً يفعصُها بين أصابعه ويلقيها في أيّ مكان. أذكر أنه في ذلك اليوم، الحادي والثلاثين صباحاً، كان يشرب واقترب من دافني، أعتقد أنه لمسَها، عندئذٍ، وكانت تشتغل تريكو، قبضت على إبرةٍ وغرستها في رقبته، ظلَّ هو هادئاً وبالِغَ الشحوب، وانصرف من الغرفة ولم يعاود النظر إلينا أنا ودافني، بل نظر إلينا بعد ذلك، في الليل، حين كان توسان يخنقه على الأريكة نفسها التي يتمدد عليها ليشرب البيرة، وما زلت أذكر اتساعَ عينيه، والسحنة الحمراء والزرقاء، واليدين... كان مالكولم قد أبلغني أنهما سيُبرمان مع البرتغالي أكبر صفقةٍ في حياتهما، وسيربحان نقوداً كثيرة، وبذلك فإننا جميعاً سنتمكّن بعدها من التقاعد في الريفييرا، الأمر على علاقةٍ بلوحةٍ، كانوا طوال الصباح يتمشّون ثلاثتهم على ضفة البحيرة، رغم سقوط الثلج الكثيف، كنت أراهم يتوقّفون بين الحين والحين ويشيرون كأنهم يتجادلون، ثم أغلقوا عليهم غرفةً أخرى بينما نُعدّ الطعام أنا ودافني، كانوا يصيحون، لكنني لم أستطع سماعهم، لأن دافني رفعت صوتَ الراديو.

الغلاف الخلفي للكتاب

يعزف "بيرالبو" موسيقا الجاز، في "الليدي بيرد"، وهناك سمعَته "لوكريثيا" فشُغفت بموسيقاه، وأُغرم هو بغموضها.

بعد وقتٍ طويل يقابل الراوي ذاك العازف "بيرالبو" مجدّداً، لكنه الآن يتخذ اسم "جياكومو دولفين"، ويعيش حياة مختلفة، فما الذي جرى خلال هذه السنوات؟ ولماذا غيّر اسمه؟ وما حكاية اللوحة المسروقة؟ أيكون في عنوان الأغنية "لشبونة" التي تتكرّر مراراً وتكراراً مفتاحُ الماضي الغامض؟

في الشوارع الممطرة الرطبة، وفي البارات الليلية الغارقة في الدخان، وفي الليالي المليئة بأضواء زرقاء ووردية، وعلى إيقاع موسيقا الجاز، يسعى أبطال الرواية لفهم الحب والموسيقا وسرّ مدينةٍ لا جدوى من الهروب منها، لأنها ستلاحقهم إلى آخر العالم.

في هذه الرواية التي حازت على الجائزة الوطنية للأدب وجائزة النقاد في إسبانيا، يكتب "أنطونيو مونيوث مولينا" بحبكة بوليسية رشيقة، قصيدة حبّ في عشق الموسيقا. 

...

أنطونيو مونيوث مولينا: روائي إسباني من مواليد 1956. درس تاريخ الفن في جامعة غرناطة، والصحافة في مدريد. حاز على عدة جوائز محلية وعالمية أبرزها جائزة «أمير أستورياس» للأدب عام 2013، وجائزة «بلانيتا» عام 1991. يتمتّع مولينا بعضوية الأكاديمية الملكية الإسبانية المسؤولة عن استقرار اللغة منذ 1995.

من أبرز رواياته: "طوبى له"، "الشتاء في لشبونة"، "الفارس البولندي"، "في غياب بلانكا"، "كظلٍّ يرحل".

...

أحمد حسان: مترجم مصري قدم مع زميله المترجم بشير السباعي كتباً أساسية من بينها "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية" لإدواردو غاليانو و"استعمار مصر" لـتيموثي ميتشيل. ومن ترجماته البارزة: "صناعة الجوع: خرافة الندرة" لفرانسيس لابيه. وفي الأدب ترجم أعمالاً للوركا وبريخت وفوينتوس وبولانيو وجيجيك وبنيامين، وكذلك "كيف يمكن أن نحيا.. مقدمة لفلسفة جيل دولوز" لتود ماي.

...

جميع الحقوق محفوظة لدار سرد للنشر و دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع.

...

الكتاب متوافر في المكتبات وعلى نيل وفرات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard