جَسَدٌ ملتبس
أسمع العبارة المفزعة، تطرق أذنيّ بإلحاحٍ مضجر، أسمعها في أماكن متفرّقة وفي سياقات متراوحة:
– لقد صرت رجلًا!
– ستصبح رجلًا!
أرتعب من أن أستيقظ ذات صباح لأجد نفسي وقد صرت إلى تلك الحال، أفكّر ببؤس كيف لي أن أتجنّب هذا المصير المقيت؟ لا أريد أن أصير رجلًا، ذهني يقول لي بإلحاحٍ عاصف بأنّ ما أخشى أن أصير إليه هو يقينًا ليس هويّتي الحقيقيّة.
تضيق بي نفسي، يضيق بي بيتنا، أهرب في الخفاء لأختبئ خلف شجرة عيسى الأمهق، الذي لا يجالسه سوى صمته الطويل وعزلته المزمنة وذبابٌ يطنّ بلا انقطاع قبالة عينيه الذابلتين. يُنَفّر جلده المسلوخ والدامي الصبيان من صداقته، أفكّر أنّه مثلما يضايقونه لأنّه أمهق؛ يقهرونني لأنّني حبيس جسد لا يمثّلني.
رواية شمسان على النيل للكاتب السوداني عاطف الحاج سعيد تصدر قريباً عن دار نوفل -هاشيت أنطوان، لنكتشف فيها رحلة تتداخل فيها الهويات والذاكرة والجغرافيا
يقعد عيسى الأمهق وحيدًا تحت شجرة النيم الآيلة إلى يباس، بفروعها المتفرّقة وأغصانها الذاوية، لترمي بظلال شحيحة يتحيّنها عيسى خلال نهاره الطويل الحزين. ترتمي بعض أفرع الشجرة على غرفته البائسة المنصوبة بإهمال على طرف بيتهم. أراه في غدوّي ورواحي ممعنًا في وحدته يتأمّل العابرين برأس مطأطِئ، وذباب أخضر يقيم محفلًا غير منقطع أمام عينيه، يهشّه بصبر لا يطاق. لون بشرته، لون اليقطينة المنهكة يدخل في نفسي الرعب، ثمّ إنّ أمّه سوداء وأباه كذلك فكيف له أن يصير إلى هذا اللون الأبيض المعتكر والمنفّر؟! يكبرني بسنوات ولم يرتد المدرسة إلّا لأيّامٍ شحيحة. وإذ ينهكني سؤال الرجولة، أتسلل إلى عزلته وأسأله وبي يقين صلد يصعب عليّ أن أتقصّى مصدره، بأنّ عيسى يملك الإجابة: «كيف يعرف الإنسان أنّه صار رجلًا؟».
يهشّ الذباب المعلّق على الفضاء القريب من عينيه، ثمّ يرفعهما نحوي بمشقّة. كان الذباب غير مرئيّ، كأنّ محجريه جبٌّ مهجور نبتت على حافاته عشبات سوداء. يرفع يده ويعلّقها أعلى الحاجبين ليصدّ ضوء الشَمْس المتناثر بسخاء في النهار الصيفي، ويتأمّلني لبعض الوقت ثمّ يشير لي: «تعال!». أتبعه، فيدخلني غرفته القريبة من الباب: فرشٌ من الحصير، ووسادة قطنيّة قذرة، وبعض أوانٍ متّسخات مبعثرات هنا وهناك، وملابس مرهقة معلّقة على مشجبٍ منصوب على الحائط. الغرفة سيّئة التهوية ويعتكر فضاؤها بروائح زنخة. يقف عيسى عند المدخل في مواجهتي ثمّ يسحب سرواله، فيبرز عضوه الداكن منتصبًا بصلابةٍ ممعنةٍ في قسوتها. بدا لون عضوه، المغاير للون جسده، مثل فطرٍ أسود منغرس في رمالٍ بيضاء لشاطئ غير مرتاد. يرطّب يده باللعاب ثمّ يفركه برتابة، وإذ يستمرّ في الفرك ينظرني بوجه مفزع وضائع، هنيهةً وتعبره بعض تقلّصات، يعضّض على شفتيه ثمّ يشخر مثل عجل صغير ويقذف. يمسك ببعض من السائل بطرف إصبعيه ويرفعه أمام وجهي: «عندما يخرج منك مثل هذا تكون قد أصبحتَ رجلًا». يحدّجني برجاءٍ يائس: «هل تريد أن أفرك لكَ؟».
قبل ذلك بأشهر أعرف كيف يدرك الإنسان أنّه اكتمل امرأةً. أحسُّ أنّ روحي تحلّ بجسدٍ غريب عليها، أو أنّ هذا الجسد لا ينتمي إليها، لذا أتطلّع بأسى أن أفهم أين ستنتهي بي الحال. أسأل جدّتي مريم: «كيف يعرف الإنسان أنّه اكتمل امرأةً؟».
كنت في الثانية عشرة من عمري عندما ذهبتْ أمّي زَهْرة في رحلتها الأبديّة.
تأتي جدّتي لأمّي وتمضي معنا بعض الوقت لتخفّف وطأة الغياب. تمسك جدّتي مريم بيدي. يدها متغضّنة ووجهها أسود صافٍ، وتعتمل في ثيابها روائح حكايات أزمان غابرة: «لم تعد صغيرًا يا شَمْس الدين، يجب أن تفهم». وتتابع السرد: «عندما حدث الأمر كنت أجلس في غرفة المكتبة بمدرستنا أكتشفُ متعة القراءة ومتعة العيش في عوالم موازية. أمسك بكتاب (جين إير) لشارلوت برونتي، ويشدّني إليه بقهر ويستغرقني. يصل مستر بروكلهيرست إلى مدرسة لاوود وينادي جين إير: «تعالي هنا أيّتها الفتاة المهمِلة»، ثمّ يخاطب جميع الفتيات والمدرسّات المجتمعات: «أترون هذه الفتاة؟ إنّها شرّيرة ويجب على عمّتها الطيّبة أن تبعدها عن المنزل، أيّتها الفتيات لا تتحدّثن إليها، أيّتها المدرّسات راقبنها بانتباه». أبكي من أجل جين المسكينة والمقهورة، أتماهى معها، أراها فيّ، وبغتةً أشعر بسائل دافئ يسيل بين فخذيّ. أرتعب. فكرتي باهتة وغير يقينيّة عن الذي يحدث. أذهب إلى السيدة إليزابيث في مكتبها:
– انظري؟!
تعي في الحال ما يصيبني. تبتسم بلطف:
– لا تخافي يا مريم، هذا أمر طبيعي.
تذهب نحو الدولاب الوحيد في المكتب وتعود بعد هنيهة حاملةً قطنًا طبّيًا في يدها:
– نظّفي نفسك وضعي هذا القطن في موضع النزف.
أذهبُ إلى الحمّام ثمّ أعود بعد برهة. تحضنني بمودّة:
– هذا أمر يحدث لكلّ الفتيات عندما يصبحن في مثل عُمْرك. كلّ ما في الأمر أنّ الرحم يعدّ كلّ شهر عشًّا صغيرًا ليستقبل فيه البويضة المخصّبة التي ستصير جنينًا في ما بعد، ينتظر الرحم بلهفة أن تأتي البويضة المخصّبة وعندما لا تأتي يهدم العشّ ويرسله إلى الخارج ثمّ يأخذ في بناء عشّ جديد وهكذا. الدم الذي رأيته قبل قليل هو العشّ أو المشيمة. لا تخجلي... هذا هو المكان الذي تُصنع فيه الحياة.
جدّتي تتواطأ معي. أحسُّ أنّها تدرك ما يسكن قلبي من بؤس. لكنّ أبي يظنّ أنّه فقط يسيء تربيتي. أتفلّتُ عبر مسامّ رغبته في أن أصير رجلًا، قحًّا وخشنًا ومصادمًا. لا أفهم لمَ عليّ أن أكون كما يصبو هو، أريد أن أكون كما أنا، كما الشعور الذي يغمرني.
ترمي لي جدّتي مريم عندما تجيء لتَعود أمّي زَهْرة، بدمية لفتاة بيضاء، شعرها كستنائي طويل. ترمي لي بمشط صغير وطلاء للأظافر ثمّ تغمز لي. أضعُ الدمية على حجري وأناجيها: «سنصير صديقين، سأجدل لكِ شعرك الجميل مثل الأميرة المسحورة، سأطلي أظفارك بلونٍ وردي». يستغرقني اللهو، وتتشعّبُ خيالاتي مع صديقتي الدُّمْية وتذهب كلّ مَذهب إلى أن يعيدني صوت أبي الغليظ الغاضب إلى بؤس واقعي:
– ما هذا؟!
أصمتُ مرتعبًا، أعرف أيّ مآل سيؤول إليه الحوار.
– سبق أن قلت لكَ ألف مرّة ألّا تلهو بدُمى الفتيات.
أستجمعُ بؤسي وقهري وأرمي به في وجهه بيأس:
– لكنّني فتاة!
تضيق بي نفسي، يضيق بي بيتنا، أهرب في الخفاء لأختبئ خلف شجرة عيسى الأمهق، الذي لا يجالسه سوى صمته الطويل وعزلته المزمنة وذبابٌ يطنّ بلا انقطاع قبالة عينيه الذابلتين. يُنَفّر جلده المسلوخ والدامي الصبيان من صداقته، أفكّر أنّه مثلما يضايقونه لأنّه أمهق؛ يقهرونني لأنّني حبيس جسد لا يمثّلني- عاطف الحاج سعيد
يسحبني بغضب من يدي وينهضني، ثمّ يسحب سروالي، يمسك بعضوي الصغير، ينظرني بعينين مثل جمرات سُحبت للتوّ من الجحيم:
– إنّ منْ يملك عضوًا مثل هذا يُسمّى رجلًا. والرجل يفعل ما يشاء: يشرب الخمر، ويزني بالنساء، ويتسلّط، لكنّه لا يسرق، ولا يصير لوطيًا.
ثمّ يدفعني حتى يرتطم قفاي بالأرض الصلبة. أسمعه بعدها يصيح في جدّتي: «أنتِ تفسدين الولد، سيصير خائبًا ويجلب لنا العار». لم أقل بعدها لأبي إنّي فتاة
....
الغلاف الخلفي للكتاب
نقرأ في شمسان على النيل رحلة «شمس الدين» نحو هويّته. تكبر روحه على غفلةٍ من جسده العاصي، فيترك اسمه خلفه ويعبر من السودان إلى الضفّة الأخرى من النيل. يصير هناك أنثى، اسمها «شمس». تبدأ شمس حياةً جديدة في القاهرة. تجرّب الانتظار الطويل مع زملاء اللجوء أمام أبواب المنظّمات الدولية، وتلتقي بمهمّشين آخرين يبحثون عن أحلامهم وهويّاتهم بدورهم، وينتظرون مغادرة النهر، نحو البحر في القاهرة الشاسعة تجرّب «شمس» اللقاء مع ذاكرة «شمس الدين» في أكثر من مرّة. مرّة تتذكّر «زوربا السوداني» أيام الجامعة، ومرّة تتذكّر رقّة الوالدة وقسوة الوالد. لكنّ الصوت الذي يرافقها دائماً هو صوت مريم، الجدّة التي عاشت معها شمس أيّامها الأولى، وعاشت هي أيّامها ضحيّةً للمجتمع الأبوي، قبل أن تموت ضحيّةً للاستعمار"
...
عاطف الحاج سعيد
روائي سوداني نشر أعمالاً قدّمت مقاربات سردية لموضوعات الهجرة، اللجوء، اضطرابات الهويّة الجنسية والوطنية والدينية، وصدام الثقافات. حصلت روايته «عاصف يا بحر» على جائزة الطيّب صالح للإبداع الروائي عام 2016، كما في فاز في 2021 بجائزة توفيق بكّار للرواية العربية.
...
جميع الحقوق محفوظة لـنوفل-دمغة الناشر هاشيت أنطوان ©
الرواية متوافرة في أفرع نوفل-هاشيت أنطوان في لبنان، والعالم، ومتوافرة على نيل وفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.