شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ثلاثة آباء أو هشام سليم بين جيلين

ثلاثة آباء أو هشام سليم بين جيلين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والميم-عين

الجمعة 30 سبتمبر 202204:04 م

كان سائق التاكسي واثقاً تماماً -كمعظم أقرانه- من الحكاية التي يرويها، وكأنه كان حاضراً في أثنائها. في الحكاية، كان صالح سليم، لاعب كرة القدم والقائد ثم الرئيس التاريخي للنادي الأهلي، جالساً وحده في مكتبه المهيب، في "القلعة الحمراء" الكائنة في منطقة الجزيرة، قبل أن يستقبل اللاعب حسام حسن، قائد هجوم النادي والهدّاف التاريخي لكرة القدم المصرية و"عميد لاعبي العالم" لفترة ليست بالهيّنة، وكانت فترة توتر غير معهودة بين النجم القديم "الملقَّب بالمايسترو" صالح سليم، والنجم الحالي، آنذاك نهاية القرن الماضي، والذي لم يعد شاباً، لكنه يتمسك بمطالبه المالية. في حكاية سائق التاكسي، لم يسمح سليم (الأب، ثم الجد في ما بعد)، لنجم الهجوم بمجرد الجلوس في حضرته، احتجاجاً منه -واحتقاراً ربما- على وضع الهداف نفسه في موقع الند للنادي الأعرق في المنطقة. هكذا مضت المفاوضات في الحكاية؛ صالح جالساً وحسام واقفاً، وكلما ذهب ليرتاح على أحد المقاعد، نهره سليم: ما سمحتلكش تقعد!

لم تغير الأدوار الجديدة، ولا المشكلات العائلية من انطباع الجمهور عن "الولد" هشام، الذي احتفظ بالعينين الحزينتين ذاتهما والصوت الخفيض ذاته.

ما حدث حقاً خلال الجلسة لا أحد يعرفه، والأكيد أن النجم الهداف ترك النادي الأهلي بعدها مباشرةً، وذهب إلى منافسه التاريخي "الزمالك"، وفاز معه في بطولات عدة في السنوات الأربع اللاحقة. أما حكاية سائق التاكسي، فلم تكن تعبّر إلا عن رؤية الجماهير -بمن فيها العديد من جماهير الأندية المنافسة- لشخصية "المايسترو" صالح سليم، نجم ستينيات القرن العشرين في الملاعب، وأحد أقدم اللاعبين المصريين احترافاً في أوروبا، و"بطل" فيلم "الشموع السوداء"، مع نجاة الصغيرة وفؤاد المهندس، وأخيراً إحدى أقوى الشخصيات التي تولت رئاسة النادي الأهلي، المنصب الذي كان إلى حد قريب، أقرب إلى منصب الرئاسة، "رئاسة جمهورية الكرة"، خصوصاً في ظل وجود "كاريزما" صالح المميزة، وملامحه القوية ونظرته الصارمة وجلسته الواثقة. في منتصف التسعينيات، حضر سليم نهائي مباراة دولية في ستاد القاهرة، وحضر بجواره الرئيس المصري -وقتها- حسني مبارك. وحين أحرز الأهلي هدفاً انتفض مبارك فرحاً، بينما ظل صالح، الذي نادراً ما كان يحضر المباريات بنفسه، جالساً يصفق بهدوء.

في ظل تلك الشخصية الصارمة، والذكورية، والأبوية، والغارقة في التستوستيرون، والتي تضم بين ذراعيها طارق سليم، الشقيق الأصغر الذي عمل طيّاراً بالإضافة إلى ممارسة الكرة... نشأ الصغير هشام

في ظل تلك الشخصية الصارمة، والذكورية، والأبوية، والغارقة في التستوستيرون، والتي تضم بين ذراعيها طارق سليم، الشقيق الأصغر الذي عمل طيّاراً بالإضافة إلى ممارسة الكرة، وبالملامح الصارمة نفسها تولى منصب "مدير الكرة" في النادي لسنوات. نشأ الصغير هشام، الوسيم بملامح رقيقة أقرب إلى ملامح "الأجانب"، والذي، على النقيض من الأب، لم يكن التمثيل هوايته والكرة حرفته، بل العكس، كانت الكرة مجرد هواية، أما التمثيل فهو الاحتراف. هكذا بحث الأب عن أبناء "كرويين" آخرين، من طارق الشقيق الأصغر إلى محمود الخطيب الرئيس الحالي. بينما تنقّل الشاب الرقيق، صاحب الصوت الخفبض بين آباء وأمهات آخرين، في السينما والتلفزيون؛ بين فاتن حمامة وشكري سرحان ويحيى الفخراني، في "إمبراطورية ميم" و"عودة الابن الضال" و"ليالي الحلمية". بدا هشام في كل تلك الأدوار -بمصادفات السيناريو أو باختيار الدور له- أقرب إلى من يتمرد على الأب في عالم الفن. إنه "الولد" الذي يقبّل الخادمة في المصعد، أو يريد السفر إلى القمر، أو يحب مناضلةً فلسطينيةً.

بدا هشام سليم في كل تلك الأدوار -بمصادفات السيناريو أو باختيار الدور له- أقرب إلى من يتمرد على الأب في عالم الفن. إنه "الولد" الذي يقبّل الخادمة في المصعد، أو يريد السفر إلى القمر، أو يحب مناضلةً فلسطينيةً

رحل الأب صالح عام 2002، وخلال عشرين عاماً غاب شبحه تدريجياً، وصار هشام هو الأب بذقن أخذت تشيب، وشعر يتراجع عن مقدمة الرأس، وانفصال ومشكلات عائلية، وأدوار فنية ودّعت المراهق/ الشاب المتمرد، ليحل مكانه الأب الحكيم أو ضابط الشرطة الوطني. لم تغير الأدوار الجديدة، ولا المشكلات العائلية من انطباع الجمهور عن "الولد" هشام، الذي احتفظ بالعينين الحزينتين ذاتهما والصوت الخفيض ذاته، وتراث من الرقة والدفاع عن الفن و"فيلا الدكتور أبو الغار" في "الراية البيضا" ضد السوقية ورأس المال. هكذا حين مات الابن الذي صار أباً، هشام صالح سليم، عاد شبح الأب الأصلي، صالح، ليطلّ في حكايات عن "تربيته لابنه"، بعضها من حكايات هشام نفسه، والبقية من حكايات آخرين لم يعد ممكناً التأكد منها. في تلك الحكايات يضرب صالح ابنه الطفل هشام "علقةً ساخنةً"، لأنه عندما تشاجر في مكان ما قال: "إنتو مش عارفين أنا ابن مين؟". وفي أخرى، يطرده في منتصف الليل لأنه تأخر في العودة إلى المنزل، فيذهب المراهق إلى فنانة كبيرة وزوجها الصحافي من أجل أن "يتبنياه" كما قال الأب، ويعودان به و"يقنعان" صالح بإعادته إلى البيت.

وفي أخرى، يطرده في منتصف الليل لأنه تأخر في العودة إلى المنزل، فيذهب المراهق إلى فنانة كبيرة وزوجها الصحافي من أجل أن "يتبنياه" كما قال الأب، ويعودان به و"يقنعان" صالح بإعادته إلى البيت

ليس المهم هنا عدد الحكايات ومدى مصداقيتها، وإنما الترحاب الواسع الذي قوبلت به على وسائل التواصل الاجتماعي، مصحوبةً بالترحم على "زمن الأخلاق والتربية السليمة"، والتي لا تتأتى -في نظر هؤلاء- إلا من خلال الحزم والصرامة إلى درجة العنف والطرد لينشأ الأطفال "محترمين مهذبين مثل هشام سليم".

غير أن القدر، كما نعلم، كان يخبّئ لهشام، قبل ذلك بسنوات، مهمةً أخرى، هي "تقبّل" قرار ابنته "نورا" بإجراء عملية عبور جنسي لتعبر إلى الابن "نور". الجدل الذي احتدم بخصوص الواقعة انطفأ سريعاً بفضل ظهور هشام التلفزيوني وحسمه سريعاً مسألة تقبّله لابنه وحبه غير المشروط له، "ويكفي ما عانيته"، يقول هشام لنور. لكن "المدققين" لم يتركوا عبارةً جاءت على لسان هشام لتمر مرور الكرام، فقد قال شيئاً من قبيل "الحمد لله أن التحول لم يكن في الاتجاه العكسي"، أي من ولد إلى بنت. "لكن كيف يقول هشام ذلك؟"، تساءل المدققون، فـ"معنى هذا أن حبه لابنه حب ذكوري أيضاً"، وليس صحيحاً أنه "غير مشروط" يتابعون القول. لم يفضّل هؤلاء أن يأخذوا القول على المحمل الحسن، أي أن هشام كان يعبّر عن مدى صعوبة ما كان سيواجهه -هو وابنه- لو كان العبور عكسياً، من رجل إلى امرأة، وأخذوا العبارة على أسوأ معانيها؛ الذكورية والحب المشروط، وربما كان في أذهانهم أيضاً أنها لا تزال عائلة صالح سليم. غير أن باب الاحتمالات "لو"، مدخل للشيطان، أما باب الواقع، أو ما جرى حقاً، فهو أن هشام تقبّل ابنه أمام الجميع، وهذا هو المهم.

غير أن باب الاحتمالات "لو"، مدخل للشيطان، أما باب الواقع، أو ما جرى حقاً، فهو أن هشام تقبّل ابنه أمام الجميع، وهذا هو المهم

هل تسمح البيولوجيا للابن نور، بأن ينجب بدوره؟ هل يتزوج؟ هل يتبنّى طفلاً؟ هل يُسمح له بذلك؟ لا نعلم. لكن الأكيد أنها عائلة قُدّر لها، من "المايسترو الذكوري الذي صفع زميله في الفريق يوماً ما لأنه صفّق لمهارة المنافس"، إلى الابنة نورا التي صارت نور، أن تكون أقرب إلى مؤشر يأخذ كل تغيّر اجتماعي إلى أقصى الحدود.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image