لمسميات الأحياء والمناطق في العالم مرجعيات غريبة، فمنها ما يرتبط بحادثة تاريخية، أو ينسب المكان إلى شخص بعينه، أو يكون نتيجة وصم المنطقة وسكانها من قبل بقية شرائح المجتمع، وهناك أيضاً مسميات غريبة، كأن تكون في سوريا وحدها ثلاث مناطق على الأقل يرتبط مسماها الشعبي أو التاريخي بـ"اللصوصية"، من دون أن يكون لعلي بابا والأربعين حرامياً، أي علاقة بأي منها.
حارة الحرامية
تغطية أخبار المنطقة الشرقية من سوريا مكّنتني من الوقوف على مسمّى "حارة الحرامية"، الحي الذي بدأ بناؤه يتطور في تسعينيات القرن الماضي في مدينة الرقة، وتشبه منازله القصور إذا ما قورنت بالأحياء العشوائية المجاورة له مثل "حي الدرعية"، بالرغم من أن هذا الحي اسمه "حي المرور"، في التنظيم الإداري للمدينة ضمن سجلات الحكومة السورية، وذلك لوجود "فرع شرطة المرور" فيه، إلا أن تسمية "حارة الحرامية"، بقيت ملاصقةً له في محاولة من سكان المدينة للإشارة إلى مكامن الفساد المالي والإداري في مؤسسات الدولة قبل الحرب، والتي كانت تنعكس من خلال ظهور قدرة مالية مفاجئة للمسؤول على شراء أو بناء منزل فخم في هذا الحي دون سواه، واقتناء سيارة حديثة، حتى أن الطبقية بلغت ذروتها ليكون هذا الحي راقياً بما يسمح بسكن من يعدّون أنفسهم من الطبقة المخملية.
مع الدخول في زمن تنظيم "داعش" في المدينة، ظلت الطبقية تسيطر على المجتمع. ففي حسابات التنظيمات المتشددة، المتطرفون الأجانب ممن يُطلق عليهم تسمية "مهاجرون"، هم "أصحاب فضل في الجهاد"، ومغادرتهم دولهم الأم في سبيل القتال لتحقيق حلم "دولة الخلافة"، تجعلهم أكثر قرباً من الله، وتالياً من قيادات التنظيم، لذا كانت لهم الأحقية في السكن ضمن مباني "حارة الحرامية" الفارهة التي هجرها سكانها من مسؤولي الحكومة السورية وموظفيها. ولأن اسم "حارة الحرامية"، لا يناسب مثل هؤلاء السكان "المخمليين" في تطرفهم، فقد حرّف التنظيم الاسم ليصبح "حارة الحرمين"، وأغلظ العقاب يقع على من يلفظ مسمى "حارة الحرامية"، مجدداً.
تسمية "حارة الحرامية"، بقيت ملاصقةً لحي المرور في الرقة في محاولة من سكان المدينة للإشارة إلى مكامن الفساد المالي والإداري في مؤسسات الدولة قبل الحرب، حيث كان يقطنه موظفون حكوميون
يقول عبد الله الذي يقطن حالياً في الحي ذاته متخذاً من أحد المباني سكناً له بعد دمار منزله: "نزحت إلى أطراف الرقة بسبب المعارك، وبعد خروج التنظيم عدت إلى المدينة لكن منزلي بالقرب من الجامع العتيق وسط المدينة كان قد دُمر تماماً، ولهذا اتخذت من أحد منازل حارة الحرامية مأوى لي ولعائلتي حتى إيجاد بديل أو تمكّني من إعادة إعمار منزلي"، مضيفاً: "لم يختلف الحال كثيراً، فقبل الحرب كان يسكن هذا الحي لصوص وفاسدون، وسكنه خلال زمن داعش أيضاً لصوص وفاسدون، والمهاجرون كانوا أكثر تطرفاً من غيرهم، وتسلّموا مناصب قياديةً وإداريةً مكّنتهم من مراكمة ثروات مهولة".
"حرامية" وسط العاصمة
المسير وسط دمشق والانتقال من منطقة المرجة إلى العمارة، أو من منطقة البحصة إلى الحميدية، سيجبر المرء على العبور بالقرب أو ضمن سوق يعود إلى خمسينيات القرن الماضي، ويحمل اسم "سوق الحرامية"، ويقول أبو محمد، السبعيني الذي يبيع الألبسة المستعملة فيه، أن "سكان العاصمة وسموا السوق بكونه تجمعاً للصوص لكون كل ما كان يباع فيه هو بضائع مستعملة من أثاث وأدوات كهربائية وملابس وأدوات خردة، ولأن الناس تجد أسعاراً رخيصةً في هذا السوق لأن مؤسسيه كانوا يعملون بـ"نور الله"، ويقبلون بالربح القليل، لذا عدّ البعض البضائع مسروقةً وتالياً فإن أي سعر سيُدفع هو ربح بالنسبة إلى البائع".
يقول الرجل خلال حديثه إلى رصيف22: "أعمل في هذا السوق منذ خمسين عاماً، ربما شهدت حوادث، لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، يتم فيها ضبط مسروقات تباع فيه، وأغلب الظن أن التسمية مصدرها تجار البضائع الجديدة، في محاولة منهم للتشويش على السوق وزبائنه بزعم أن ما يباع فيه هو بضائع مسروقة".
تحوّل حال السوق كثيراً خلال سنوات الحرب، فدخلت إليه محال تبيع بضائع جديدةً وغير مستعملة، منها ما هو رخيص الثمن وقليل الجودة، ومنها ما هو باهض الثمن، لكن محال بيع المستعمل ما تزال هي الأقوى لرخص بضائعها قياساً إلى القدرة الشرائية المتدنية لزبائن مثل هذا السوق، وأي بضاعة مستعملة يشتريها صاحب المحل يتم توثيق شرائها بإيصالات نظامية تؤخذ فيها بيانات البائع، وفي حال سؤال الجهات الأمنية عن مصدر البضائع المعروضة يكون لدى صاحب المحل ما يقدمه كدليل على نظافة تجارته.
يسخر أبو ماجد، وهو رجل يقارب العقد الثامن من عمره، من تسمية السوق، ويقول لرصيف22: "نحن مجرد أناس تبحث عن لقمة عيشها، الحرامية الحقيقيون يقطنون في أحياء الأغنياء والمسؤولين مثل أبو رمانة وتنظيم كفرسوسة، ومحالهم في المولات والأسواق الغالية. هناك الربح بمقدار ألف في المئة، هنا لن تجد من يبيعك أي سلعة بمربح يزيد عن عشرين في المئة. هذا عُرفنا: كل ألف تربح مئتين، والحمد لله".
سكان العاصمة وسموا السوق بكونه تجمعاً للصوص لكون كل ما كان يباع فيه هو بضائع مستعملة من أثاث وأدوات كهربائية وملابس وأدوات خردة، ولأن الناس تجد أسعاراً رخيصةً في هذا السوق
مصادر في محافظة دمشق تحدثت إلى رصيف22، قائلةً إن "سوق الحرامية"، يقع ضمن مناطق مستملكة أساساً من قبل الحكومة تبعاً للقوانين المعمول بها في سوريا، ليكون جزءاً من طريق مختصرة تربط وسط العاصمة بشرقها بسهولة من دون الحاجة إلى الالتفاف حول جزء من المدينة القديمة في "حي العمارة"، إلا أن الأمر لم ينفَّذ لكون المنطقة التي ستمرّ بها الطريق تقع ضمن خريطة موثوقة لدى اليونسيكو التي تصنفها جزءاً من التراث الإنساني كونها جزءاً من مدينة دمشق القديمة. وبالرغم من إلغاء المشروع إلا أن قرار الاستملاك لا يزال معمولاً به ويحتاج إلى قرار قضائي لإنهائه.
عمر السوق بشكله الحالي، يعود حسب معلومات متعددة المصادر إلى ثمانينيات القرن الماضي، لكنه مهدد بالزوال بحكم تحول المنطقة في محيطه إلى مبانٍ حديثة، خاصةً أن شركةً استثماريةً قررت أن تحيي مشروع "مجمع يلبغا"، الذي كان هيكل بنائه الأولي بكل طبقاته قد اكتمل منذ سبعينيات القرن الماضي، لكنه تحول إلى مضرب مثل في المشاريع المتوقفة، وكان من الطريف جداً أن يكون "بناءً على العظم"، كما يسميه السوريون، وضمن قائمة عقوبات أمريكية فُرضت قبل عام تقريباً على الحكومة السورية، علماً أنه بناء خاص، ويجاور سوقاً لا يحبّذه السوريون لكونه مقروناً باسم "الحرامية".
"قسطل حرامي"
لا يرتبط اسم حي "قسطل حرامي" بالفساد، أو ببيع بضائع مشبوهة المصدر، فالحي الذي يقع خارج سور مدينة حلب القديمة، هو حي سكني فيه متاجر تقليدية وحمامات وخانات وقبر "برد بك-تاجر الممالك السلطانية"، الذي بنى القسطل الذي سيعطي لاحقاً للحي اسمه، لكون القسطل الذي بُني في العام 1491، استجرّ مياهه نحو جامع الحي من دون موافقة الوالي، إذ كان الماء الآتي من "قناة حيلان" يوزَّع على الأحياء والقساطل وفق حجة شرعية، فسُمّي هذا القسطل بـ"قسطل حرامي"، أي أن ماءه سرقة، والقسطل كلمة يونانية معربة تعني مكان توزيع الماء.
لا يرتبط حي "قسطل حرامي" بالفساد، أو ببيع بضائع مشبوهة المصدر، فهو حي سكني فيه متاجر تقليدية وحمامات وخانات وقبر "برد بك-تاجر الممالك السلطانية"، الذي بنى القسطل والذي سيعطي لاحقاً للحي اسمه
هناك رواية ثانية لتسمية حي "قسطل حرامي"، لا سند تاريخياً واضحاً لها، وتقول الحكاية المجهولة الزمن والتي يتناقلها كُثر، إن لصاً بارعاً كان يعيش في الحي، لم يسبق أن عرف بأمره أحد حتى بعد موته، وكان لهذا اللص ولد تقي يرتاد حلقات التعلم في المساجد، وحين اشتد عوده وبقية رفاقه، أمرهم معلمهم بأن يذهبوا ويعملوا في مهن آبائهم وأن يتّقوا الله في ممارستها، فلما عاد الفتى إلى أمه ليسألها عن صنعة أبيه، أبت أن تُخبره، وبعد إلحاح، باحت له بما يمتهنه والده.
قرر الفتى أن يطبّق أمر معلمه، فخرج ليلاً يبحث عن دار يسرقها، فمر بدار رجل فقير، فقال لنفسه سرقته إثم كبير، وظل يمشي في الحي إلى أن وصل إلى بيت تاجر صاحب مال وفير، فدخل البيت قاصداً السرقة، وحين وصل إلى صناديق الذهب والمال وجد بجانبها دفتر حسابات التاجر، فعرف أنه لم يزكّي أمواله منذ ست سنوات متواصلة، فبدأ الفتى يحسب زكاة التاجر ليخرجها فلا يسرق أموالها، وحين انتهى كان المؤذن ينادي لصلاة الفجر، فخرج ليتوضأ من ماء بحرة تتوسط منزل التاجر، وقبل أن يقيم الصلاة كان صاحب البيت قد استفاق وأهله على الجلبة التي أحدثها اللص، فخرج إلى فسحة داره فوجده هامّاً بالصلاة، فصرخ به: "من أنت يا هذا؟"، فما كان من اللص إلا أن أجابه: "أنت صاحب الدار والإمامة واجبة لك... صلِّ بنا وسأقول لك من أنا وما أفعل في دارك بعدها".
وبالفعل، أقاما الصلاة وقصّ اللص حكايته على التاجر، ولام لصّنا الظريف هذا، التاجر لأنه لم يخرج الزكاة لسنوات ست خلت، والتاجر وبحسب المروية الشعبية أُعجب باللص وأمانته، فعرض عليه تزويجه ابنته وشراكته في التجارة، فقبل اللص وأصاب من الشراكة مالاً وفيراً. ولأن ماله هذا حلال، قرر أن يبني قسطلَي ماء في الحي، الأول نذر صدقته لنفسه، فأسماه "قسطل المشط"، والثاني نذر صدقته لأبيه فأسماه "قسطل حرامي".
الرواية الثالثة
وهناك رواية شعبية ثالثة، تقول إن اسم الحي هو "قسطل الحرم"، وذلك لأن قوافل الحج التي كانت تمرّ في مدينة حلب في طريقها نحو أرض الحجاز، كانت تقف عند هذا القسطل دون غيره للتزود بالماء، ولأن القسطل قريب من "المخفر"، فقد اختلطت التسمية بين الحرم والحرامية، وهذه الرواية ضعيفة السند ولا أصل لها إلا غيرة أهل حلب على مدينتهم، فذهبوا نحوها كي لا يلتصق جزء منها بلفظ حرامي، وحكاية اللص الشريف أيضاً معدومة السند لكونها لا تذكر أشخاصاً بعينهم أو بأسمائهم، وهي أشبه بحكايات شهرزاد في لياليها الألف، لذا فإن الوارد في أكثر من مرجع تاريخي يؤكد أن الحكاية الأولى لاسم الحي والتي تعود إلى "برد بيك"، هي الأكثر صواباً ودقةً ومصداقيةً.
هناك رواية شعبية ثالثة، تقول إن اسم الحي هو "قسطل الحرم"، وذلك لأن قوافل الحج التي كانت تمرّ في مدينة حلب في طريقها نحو أرض الحجاز، كانت تقف عند هذا القسطل دون غيره للتزود بالماء
خلال الحرب السورية، كان "قسطل حرامي" خط مواجهة مباشرة بين قوات النظام والفصائل المسلحة، وقد لحق به دمار كبير، وهجره جلّ أهله بعد أن كان واحداً من الأحياء الأكثر تنوعاً في المدينة، فسكنه المسلمون والمسيحيون، وكانت فيه عوائل كردية وأخرى تتحدر من مدينة ماردين التركية ويعرفون بلقب "الماردلية"، وهي عوائل عربية نزحت إلى حلب في فترة الحرب العالمية الأولى التي تغير بعدها شكل الخريطة السورية فخرجت منها مناطق تمتد من "ماردين"، المقابلة لمدينة القامشلي شمال شرق سوريا، وصولاً إلى لواء إسكندرون في شمالها الغربي.
حكاية "قسطل حرامي"، تنمّ عن لصوصية تاريخية أفضت إلى اسم الحي الذي حوّلته الحرب إلى إحدى ساحات معاركها في حلب، وخلوّه من وجود ما يرتبط بـ "الحرامية"، في العصر الحديث، لا يعني عدم وجود "سوق للحرامية"، في مدينة حلب، إذ يعدّ سكان المدينة التي خرجت منهكةً من خريطة الحرب، أن مجموع "البسطات"، والمحال التي تبيع بضائع مستعملةً بالقرب من "دوار باب النيرب"، هي سوق للحرامية، ويحاول حي "قسطل حرامي"، اليوم، أن يستعيد شكله الذي كان عليه قبل الحرب، لكن حركة عودة سكانه بطيئة نسبياً، ويعود ذلك إلى حجم الدمار وقلة الخدمات فيه، لكنه يبقى واحداً من الأحياء المهمة في عاصمة الاقتصاد السوري، والبوابة الشمالية للمنطقة العربية نحو أوروبا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...