شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
امحُ لنا خطايا الماضي...

امحُ لنا خطايا الماضي... "منعطف خطر"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 5 أكتوبر 202210:29 ص

عرف الفلاسفة اليونانيون الأكراسيا على أنها حالة المماطلة في اتباع الحقيقة، والعجز عن ضبط النفس، والاندفاع وراء الأهواء وغوايات النفس المختلفة. وقسّم أرسطو بتقسيم الأكراسيا إلى نوعين، هما الاندفاع الضعيف، والعجز؛ فالشخص يمرّ بمراحل اختيار قبل اتخاذ قراره، ولكنه بدلاً من اختيار الشيء المنطقي، يتصرف تحت تأثير عاطفته، ويجري مندفعاً تجاه اختيارات خاطئة، فيصبح محاصراً نتيجة عجزِه عن الاختيار الصحيح.

في مسلسل "منعطف خطر" يمكن تطبيق تلك الفكرة على كلِّ الشخصيات؛ فمن خلال جريمة نسعى لحلِّ لغزها، نتعرف على شخصيات لديها عجزٌ في التعامل مع ماضيها. هذا العجز يجعلها تغضب، فتندفع وتستسلم له، وتتصرف وفقاً لأهوائها وغضبها ومشاعرها في بعض الأحيان، فتصبح فريسةً لاختياراتها الخاطئة.

عن ذريعة العجز عن نسيان الماضي

جاء البناء الدرامي للعمل أو المعالجة الأساسية، تقليديةً للغاية، فهي معتمدة على سؤال "من الذي قتل؟"؛ سؤال يُطرح بشكل أساسي في تلك النوعية من الأعمال، ولكن الذي يجعل عملاً مختلفاً عن آخر هو كيفية صياغة السيناريو للأحداث من خلال شخصيات حية ذات دوافع حقيقية ومرسومة بشكل جيد، وليس كاريكتيرياً متكرراً.

جريمة نسعى لحل لغزها وشخصيات عاجزة أمام ماضيها تغضب فتندفع وتستسلم له وتتصرف وفقاً لأهوائها ومشاعرها، فتصبح فريسة لاختياراتها الخاطئة... مسلسل "منعطف خطر" بطولة باسل خياط 

شخصيات المسلسل في صراع متضارب بين الحاضر من أجل معرفة الحقيقة والنجاة منها، والهرب من الماضي الذي يحاصرهم بأيّ شكل ممكن، فيجعل كل اختياراتهم ذات دافع عاطفي للغاية يغلب عليه عجزهم عن نسيان الماضي وأخطائه المختلفة، سواءً التي ارتكبوها أم ارتكبها غيرهم. فهشام، الظابط ذو الطباع الصارمة والحادة، يخفى وراء تلك الطباع هروباً من ماضٍ أليم، يخفي أباً متخاذلاً تخلى عنه في طفولته، وماضيه لم يؤثر عليه داخلياً فقط، بل امتدّ ليكلل زواجه بالفشل، فجعل منه شخصاً غير سوي نفسياً، لا يستطيع أن يتعامل مع من حوله حتى أقرب الناس إليه، أم ابنته جعلته غاضبا من كل شيء، من الحاضر ولكن بداية غضبه تأتي من الماضي.

أما خالد الشاب الذي يعينه أبوه لخلافته في رئاسة النادي إجباراً، ورغبةً منه في استعادة أيامه الماضية، أيام النجاح والنفوذ، عالقٌ في الماضي الذي كان فيه شخصاً آخر لا يعبأ بشيء سوى بلذاته من خلال الموسيقى التي تجعله في عالم آخر، والمخدرات، تلك التي قتلت زوجته، وجعلته يعيش أسيراً لها وعاجزاً عن التفكير سوى أنه أحد أسباب موتها. كل هذا بالإضافة إلى انتهاز أبيه لأي فرصة لتذكيره بفشله يجعله غاضباً وناقماً على ذلك الماضي الذي يبدأ عنده كل شيء.

صراع الماضي والحاضر ونظرية الشخص الأكراسى تتمثل ذروتها في قصة الأخوين جمال وحسن، اللذين يتصرفان طبقاً لاندفاع وعجز واضح يجعلهما يقعان أسيرين للماضي الذي رفض أن ينساه كلٌّ منهما، بل إنهما جعلاه محركاً لهم في علاقتهم. فعلاقة جمال بابنته وتصرفاته معها تشبه إلى حد كبير علاقتهما بأختهما التي ذهبت نتيجة اندفاعهما وعجزهما، هو وأخيه، عن اتخاذ قرار منطقى، وذلك العجز جعل الجميعَ يخسر، حتى جمال أصبح خائفاً من الماضي ويهرب عقله منه ولكنه طرق أبوابه.

لم يتناول المسلسل العجز النفسي فقط، فهناك عجز آخر هو العجز الجسدي المتمثل في شخصية عز، الذي أصيب بحادث سيارة فأصبح عاجزاً؛ عجز أثر عليه وجعله غير متقبل للحاضر وللحياة، وغير مقبل لفعل أي شيء في الحاضر، فظلت حياته قابعة في الماضي.

امحُ لنا خطايا الماضي

إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ"؛ رسالة يوحنا الرسول الأولى 1: 9.

كطقس كنائسي يعطي محمد المصري المؤلفُ، والسدير مسعود المخرجُ، لحظةَ اعتراف خاصة لكل الأبطال؛ إنها لحظة يعترف فيها الأبطالُ بكل شيء من الماضي والحاضر. لحظة يعترفون فيها بكل زلاتهم وأخطائهم.

شخصيات مسلسل "منعطف خطر" في صراع متضارب بين الحاضر من أجل معرفة الحقيقة والنجاة منها والهرب من الماضي الذي يحاصرهم بكل شكل فيجعل كل اختياراتهم ذات دافع عاطفي فيغلب عليه عجزهم عن نسيان الماضي وأخطائه المختلفة  

يمنحهم كلٌّ من مسعود والمصري لحظتهم الخاصة كممثل مسرحي في مشهده الأيقوني، ولكن بحبكة مخرج متمكن وسيناريست يعرف نوعيةَ ورقهٍ أعطت كلَّ لحظة لكل بطل بشكل متفاوتٍ وبطريقة مختلفة عن الآخر، طبقاً لنوعية الشخصية ودوافعها التي تحركها إلى الأمام أو حتى إلى الخلف.

سلمى استكمال للآخرين

الواقع أصبح غريباً للغاية في القاهرة أو في مصر كلها في الفترة الأخيرة؛ انتهاكات جنسية، جرائم قتل للنساء، تعدٍّ واضح، ومطالبات بطمس أقلّ الحقوق للنساء باسم قيمٍ مجتمعية وأسرية.

كل هذه الأوضاع جعلت المصري مؤلفَ العمل متصلاً مع الواقع بشكل مفجع ومؤلم، وكما يقال إن الخيال استكمال للواقع، كانت سلمى استكمالاً لكل الفتيات اللواتي قُتلن في الفترة الأخيرة، وراح دم بعضِهن هباءً دون حدّ رادع. فسلمى ككل بنات جنسها، فتاةٌ تحبّ الحياةَ، وتحبّ أن تكسر القيود المجتمعية التي فُرضت عليهن بشكل إجباري تحت اسم القيم. والحقيقة أنه منذ بداية المسلسل لم يكن سؤال "من قتل سلمى؟" مهماً بقدر سؤال "لماذا قُتلت سلمى؟"، والإجابة، كما هو موضّح، أن سلمى هي ضحيةٌ ليس لمجرم واحد، وإنما ضحية مجتمعٍ كامل يفرض على النساء أحكاماً باسم القيم والعادات والتقاليد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image