بمجرد تتالي حلقات مسلسل "فاتن أمل حربي"، ظهرت بعض الانتقادات للعمل، تارةً بسبب اشتباكه المباشر مع منظومة الفقه الإسلامي الخاص بالمرأة في الزواج والطلاق، وتارةً أخرى بسبب ما شعر به مشاهدون من "رتابة" العمل وفقدانه البناء الدرامي الذي اعتادوا عليه.
السبب الأخير في رأيي يعود إلى انتماء العمل إلى ما يمكن تسميته بمدرسة تكثيف الأفكار وطرحها مباشرةً، حتى لو جنى ذلك على البناء الدرامي أحياناً. وبمعنى آخر، اعتاد المشاهد على رؤية شخصيات مُركّبة تحوي في داخلها الخير والشر، بجانب مناقشة فكرة أو أكثر يفهمها الجمهور من خلال ما يرمي إليه السياق الفني للعمل، وهو عكس ما يُقدمه إبراهيم عيسى، مؤلف "فاتن أمل حربي"، إذ لا يعتمد على فهم الجمهور أو السياق الفني، بل يطرح الأفكار مباشرةً على لسان شخصيات إما خيّرة أو شريرة، وهو ما يجعل مشاهدين ينفرون من العمل لعدم تصديقهم أن هناك أشخاصاً ملائكيةً بالكامل أو شيطانيةً بالكامل، ناهيك عمن يشعرون بأنهم أمام محاضرة فكرية لا أمام عمل فني.
هل من الضروري وجود أعمال فنية تطرح أفكاراً مباشرةً ومكثفةً؟ وهل هذا يخدم المشاهد في النهاية؟
وبعيداً عن عيسى، يبقى السؤال الأهم هل من الضروري وجود أعمال فنية تطرح أفكاراً مباشرةً ومكثفةً؟ وهل هذا يخدم المشاهد في النهاية؟ قبل توضيح الإجابة، علينا العودة مثلاً إلى الأعمال التي ناقشت حقوق المرأة في منظومة الفقه الإسلامي، ففيلم مثل "أريد حلاً"، الذي بسببه تغيّرت قوانين الأحوال الشخصية في مصر، في سبعينيات القرن الماضي، لم يتطرق إلى السبب الحقيقي في اختلال وضع المرأة في هذا الوقت، وهو "الفقه الإسلامي"، الذي هو في الأصل جُهد بشري تماماً، يحمل الصواب والخطأ.
عدم التطرق إلى الفقه في "أريد حلاً"، وإخفاء إظهار "أحكام" الدين واضحةً، ربما سببهما عدم رغبة صنّاع العمل في الصدام مع المؤسسات الدينية، وهو ما تكرر في أعمال كثيرة على الشاكلة نفسها، ففي فيلم "لحم رخيص" يتم إبراز مساوئ زواج القاصرات من دون التطرق إلى الأحكام الفقهية التي تبيح ذلك مستندةً إلى أحاديث منسوبة إلى النبي. ومسلسل "ذات"، يُحارب ختان الإناث من دون ذكر أن أساسه ديني من خلال حديث منسوب إلى النبي في صحيح البخاري.
وبالرغم من أن تلك الأعمال وغيرها كان لها دور في تراجع بعض الكوارث التي ارتُكبت باسم الدين، لكنها في النهاية فضّلت الالتفاف وعدم ذِكر المشكلة الأساسية، أي ما يُشبه المُسكنّات، وهنا تحديداً يأتي دور مدرسة المباشرة وتكثيف الأفكار، والتي لا تكتفي بالمسكّنات، بل تلجأ إلى الجراحة، والإشارة إلى موضع الجُرح الأساسي، تماماً كما ناقش مسلسل "فاتن أمل حربي" منظومة الفقه مباشرةً، مشيراً إلى موضع الخلل فيها، وموضحاً الفرق بينها وبين النص القرآني. ولعل هذا تحديداً هو ما أغضب الأزهر الذي أصدر بياناً يحذر فيه كل من يحاول النيل منه أو يتطرق إلى السنة النبوية، واصفاً ذلك بهدم عماد الدين، وتهم أخرى لم توجَّه إلى شيوخ الإرهاب!
وهنا تحديداً يأتي دور مدرسة المباشرة وتكثيف الأفكار، والتي لا تكتفي بالمسكّنات، بل تلجأ إلى الجراحة، والإشارة إلى موضع الجُرح الأساسي، تماماً كما ناقش مسلسل "فاتن أمل حربي" منظومة الفقه مباشرةً، مشيراً إلى موضع الخلل فيها، وموضحاً الفرق بينها وبين النص القرآني
وإذا كانت المباشرة وتكثيف الأفكار مهمةً أساسيةً لكي نخطو إلى الأمام من دون مواربة أو التفاف، فإن استخدام الفن كوسيلة للعرض هو أمر ضروري وواجب، ففي مجتمعاتنا التي ما تزال تعاني من أحكام فقهية عفّى عليها الزمن منذ قرون، نحتاج إلى فعل ذلك في مجالات كثيرة وليس في المجال الديني فحسب، لأن الفن أوسع الوسائل انتشاراً وقادر على الوصول إلى أكبر فئة من الجمهور، واختيار موسم رمضان الذي تزدهر فيه الدراما لعرض مثل تلك الأفكار بطريقة مباشرة، هو توقيت ممتاز لتحقيق ما نصبو إليه.
أمر آخر يجعلنا نحتاج إلى ذلك، وهو أن أي عمل فني يجب أن يتّسق مع عقلية الجمهور، وتالياً أن ننتج عملاً يتحدث عن حقوق المرأة مثلاً من دون التطرق إلى أن السبب الأساس هو منظومة الفقه الإسلامي، لذا لن يقتنع أحد بهِ في ظل حركة التقدم في العقل الجمعي لدى المسلمين خلال السنوات الأخيرة.
أما الذين يخشون على الفن من طغيان الأفكار، وبالرغم من أن مخاوفهم صحيحة، لكن في النهاية من قال إن هناك فكرةً يناقشها عمل فني واحد. الأمر يشبه بناء عقارٍ، إذ لا يمكن إلا أن يكون على أسس قوية وهو ما تجسده مدرسة المباشرة وتكثيف الأفكار، حتى يعرف المشاهد أساس المشكلة، ثم تُبنى بعد ذلك بقية الأدوار، من خلال ترسيخ الوعي عبر تفكيك الأفكار ومناقشتها على حِدة، وسرد الآراء المختلفة حولها، وتقديم ذلك بتيمات فنية مختلفة وبكتّاب مختلفين في الرؤية والإبداع.
أمر آخر يجعلنا نحتاج إلى ذلك، وهو أن أي عمل فني يجب أن يتّسق مع عقلية الجمهور، وتالياً أن ننتج عملاً يتحدث عن حقوق المرأة مثلاً من دون التطرق إلى أن السبب الأساس هو منظومة الفقه الإسلامي
وبالرغم من أن هناك صدمةً لدى مشاهدين من جرأة الأعمال التي تنتمي إلى المباشرة، لكن في النهاية هي صدمة مفهومة في إطار أنهم يشاهدون ذلك للمرة الأولى، لكن حين يفيقون من صدمتهم ويعتادون على ذلك، وقتها سيستوعبون الأفكار التي تقدَّم وسيتفاعلون معها رفضاً أو قبولاً، وحتى يحدث ذلك لن يكون نصيب الذين يتبعون تلك المدرسة، ويطرقون بها أبواباً مغلقةً لسنوات، إلا الهجوم والتكفير أحياناً، لأنهم ببساطة يفعلون ما تحاشاه غيرهم لسنوات، ومن خلال أفضل الوسائل انتشاراً وأكثرها جماهيريةً، وهذا بالضبط ما يقلق العقول التي تريد أن تظل وصيةً على الناس ولا تريد لهم معرفة أصل المشكلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...