شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"المينامليزم"... بساطة بملايين الدولارات للأثرياء والملوك

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الجمعة 30 سبتمبر 202201:36 م

14 ألف دولار أمريكي هو ثمن ثوب أحمر قصير عرض على الموقع الإلكتروني لدار أزياء "PRADA" لصيف 2022، بتصميم خال تماماً من الزخارف أو الإضافات، الثوب مصنوع من النايلون ومشدود بزمة خيط غير مرئي أسفل الصدر وبدون أكمام.
وللصباحات العادية التي تصلح للتسكع ولشرب فنجان قهوة عقب ممارسة الرياضة، خصصت "Louis Vuitton" مجموعة من سراويل الـ"Joggers" أو الـ"Lounge Pants" القطنية الخالية من أية تفاصيل مميزة ما عدا علامة الـ"LV" الشهيرة وبأسعار تراوح بين 1900 و 3000 دولار.
إذا استثنينا عروض الأزياء وأسابيع الموضة التي تتفنن باستعراض الغرابة أكثر من الجمال، فسنلاحظ أن دور الأزياء العالمية تعتمد بالأساس على بساطة المنتج في التصميم وليس في التكلفة.

سابقاً، اقترنت البساطة بالفقر والعوز والطبقات الاجتماعية الدنيا، فالمنتج الـ"بسيط" وصف لم يكن ليستخدم للدلالة على أمر محبذ أو للإشارة إلى تفوق ما، أما اليوم فقد بات مصطلح البساطة متداولاً في العديد من المجالات، وللمفارقة لم تعد الكلمة تشير إلى الفقر ولا حتى إلى ذائقة الطبقة الوسطى.

فخ بصري

لا يلام متصفح إنستغرام أو فيسبوك حين يقرأ الأحداث من خلال صورها، كلنا نقع في فخ الحكم على الشخوص من خلال الصور، ففي عالم يخضع لمضامين نعرفها وأخرى نجهلها قد لا نستطيع معرفة ما إذا كانت هذه المشاهد حقيقية أم مفبركة بواسطة التطبيقات.
14 ألف دولار أمريكي هو ثمن ثوب أحمر قصير عرض على الموقع الإلكتروني لدار أزياء "PRADA" لصيف 2022، بتصميم خال تماماً من الزخارف أو الإضافات

فمثلاً، يقوم أحد مشاهير السوشال ميديا باتباع بروتوكول موحد للنشر عن حياته بالتركيز على مواضيع حماية البيئة، ثم تفضحه صورة عفوية مع الأصدقاء وبيده علبة سجائر، هكذا قد يخونه العامل التراكمي للزمن والمرتبط بمتابعة المتلقي المستمرة له ويكشف زيف ادعاءاته.
في آب/ أغسطس 2022 نشرت الملكة رانيا عبر حسابها على إنستغرام بمناسبة عيد ميلادها الـ52 صورة عائلية تجمعها بأبنائها الأربعة وخطيبة نجلها وخطيب ابنتها، الصورة خلت تقريباً من أي مظاهر تكلف، وقد علق المعجبون بالإشادة بأسلوب الحياة الـ"بسيط" للأسرة المالكة والذي يفتقد إليه مشاهير اليوم في السوشال ميديا على وجه التحديد.
واستذكر بعضهم خطوبة ولي العهد الأمير حسين التي جرت في الشهر ذاته، فلم تظهر في الصور موائد الطعام المفتوحة ولا غرامات الذهب أو الأزياء ومظاهر البذخ.

في خطوبة ولي العهد الأردني لم تظهر في الصور موائد الطعام المفتوحة ولا غرامات الذهب أو الأزياء ومظاهر البذخ

إذ تم التركيز بشكل خاص على تعابير الوجوه دون استعراض لما يُتوقع من طقوس الزفاف الملكي، كل هذا قد يفسره البعض كواجهة تصدرها العائلة المالكة لترسيخ ذهنية معينة لدى الجمهور، ولكن ماذا لو كان أسلوب الحياة البسيط هذا حقيقياً؟

البساطة المكلفة

إذا افترضنا أن أسلوب الحياة الذي تصدره العائلة الملكية حقيقي، فهل هو فعلاً غير مكلف؟ وما هي معايير الثراء والبذخ اليوم؟
بعض الصفحات الفضولية على إنستغرام كشفت عن دور الأزياء التي ارتدت منها الملكة رانيا والأميرات في الحفل، شعر ومكياج ناعم وثياب بسيطة بآلاف الدولارات، وهذا، وإن كان قليلاً بالنسبة لعائلة ملكية، فهو كثير جداً على البساطة.
لو قررنا زيارة أي زفاف في إحدى مناطق سوريا اليوم سنشهد احتفالات تمتد لأسبوع تقدم فيها اللحوم وأنواع الحلويات الفاخرة المعدة بالسمن العربي. بينما تضع النساء مساحيق التجميل الصارخة، ويرتدين الأثواب التي تلمع والخرز، وكل ما أمكن من الأسوار والقلادات الذهبية.
الإنفاق في الأعراس  دلالة على السخاء، لذا فإن كل تخفف منها يعد توجهاً نحو البساطة غير المحمودة في عرف البسطاء. على أن كل مظاهر التبذير على العرس من طعام وذهب واحتفالات عند الفقراء لن تبلغ تكلفتها قيمة فستان "برادا" الأحمر ذي التصميم البسيط.
ليس مستغرباً أن تعلق جدتي على فيديو خطوبة ولي العهد الأردني بقولها: "ولا تقولي ملوك. هيك بس؟"، جدتي من جيل لم تزل البساطة فيه تعني الفقر، هذه الـ"هيك بس" عند جدتي تترجم بـ"أين موائد الطعام والذهب والفساتين المرصعة".
قصصتُ لها حكاية اللوحة البيضاء التي بيعتْ بملايين الدولارات قبل أعوام في مزاد في العاصمة البريطانية لندن، حيث وصفت اللوحة لمن لم يفهمها بأنها "تعبير بسيط عن عدم القدرة على التعبير".

كلما فكرت بقصة هذه اللوحة التي يقال إنها تنتمي للفن التجريدي الحديث، ترددت إلى ذهني العبارة التي تقول إن "القليل هو الكثير" وهي مقولة شهيرة للمعماري العالمي "ميس فان دي روه"، وتشير إلى التوجه نحو البساطة في التصميم والبناء، ولكنها لا تتعدى مستوى النظر الذي يلقي إلى العين بمشاهد بسيطة جداً.
أما فيما يخص التكلفة والاستهلاك في عالم الـ"مينيماليزم" أو التقليلية، فهي تعني المزيد من الإنفاق.

الـ"مينامليزم" كقناع للرأسمالية

بدأت التقليلية حركة فنية في ستينيات القرن الماضي في صفوف الرسامين والنحاتين، معلنة عن نتاجها من خلال استخدام أقل قدر ممكن من الرسوم والعناصر والألوان، وأثرت بشكل خاص في مجالات هندسة العمارة والبناء لتنتقل تباعاً إلى الديكور والأثاث والموضة حتى باتت اليوم من أهم عناصر التعبير البصري عن حياة الأثرياء.

ليس مستغرباً أن تعلق جدتي على فيديو خطوبة ولي العهد الأردني بقولها: "ولا تقولي ملوك. هيك بس؟" هذه الـ"هيك بس" عند جدتي تترجم بـ"أين موائد الطعام والذهب والفساتين المرصعة"

العديد من البحوث والمقالات الحديثة التي تناولت التقليلية في الوقت الحالي تضع شركة "آبل" كأهم نموذج لتوضيح هذا المفهوم، إذ تعتمد الشركة التقليلية كعنصر أساسي في تصاميمها، فالهاتف الذكي الذي تنتجه هو أداة بسيطة في التصميم بواجهة خالية من العناصر، ولكنه يحتوي على مئات التطبيقات والبرامج ذات التكلفة الباهظة، فباختصار ما هو تقليلي في الشكل ليس بالضرورة بسيطاً في المضمون.
القول السائد حول الـ"مينيماليزم" هو أنها نقيض الاستهلاك. لكن هذا المنطق لا يعدو كونه فخاً جديداً وعصرياً للرأسمالية الحديثة، فما هو ظاهر لا يعكس ما هو في الخلفية والتقليل من العناصر البصرية لا يؤكد عدم وجود ما هو خارج نطاق النظر.
يستند الباحثون في هذه النقطة إلى الطريقة التي يتم بها تصميم المطابخ العصرية في منازل الأثرياء إذ ندرك مضمونها من خلال شعارات إعلاناتها مثل "البساطة في التصميم" أو "حين تجتمع البساطة مع الحداثة".

يقال حول الـ"مينيماليزم" هو أنها نقيض الاستهلاك لكن هذا المنطق لا يعدو كونه فخاً جديداً وعصرياً للرأسمالية

في هذه المطابخ يتم إخفاء جميع الوصلات الكهربائية والأدوات المنزلية الحديثة من مايكرويف ونشافة صحون وثلاجة وغسالة وغيرها خلف الجدران أو في خزانات، فيظن الناظر أن المالك يميل نحو البساطة وعدم التكلف في اقتناء الأجهزة الكهربائية الحديثة، أما الحقيقة فهي ما يقبع وراء الواجهة النظيفة والأنيقة التي توحي بالبساطة، فهنالك كمية هائلة من التعقيد والاستهلاكية بحسب كتاب (الهروب من السيستم) للكاتب اللبناني طوني صغبيني.

إذاً، ما هي البساطة؟

يقدّم كتاب (الهروب من السيستم) دليلاً للراغبين في عيش حياة بسيطة، وهو يعرف البساطة عموماً بأنها تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقلالية المالية والنفسية والتقنية بمعزل عن المنظومة المركزية السائدة، وزيادة الاعتماد على الذات لتأمين متطلبات الحياة الأساسية.

كل مظاهر التبذير على العرس من طعام وذهب واحتفالات عند الفقراء لن تبلغ تكلفتها قيمة فستان "برادا" الأحمر ذي التصميم البسيط

يفترض الكاتب أننا نعتمد على المنظومة القائمة في كل شيء في حياتنا، وعلى شركات وأشخاص لتأمين طعامنا وربما طهوه وتوصيله للمنزل، وعلى الحكومة لتأمين الكهرباء مثلاً، وعلى الخبراء لإصلاح حواسيبنا وأدواتنا المنزلية، وعلى التطبيقات الذكية لتنظيم أعمالنا، وعلى أجر نتلقاه مقابل عمل أو وظيفة، ما يجعل منا كائنات مُستهلكة غير مستقلة وغير قادرة على العيش ببساطة إطلاقاً، يتطلب منها العيش البسيط اكتساب مهارات تشبه إلى حد ما صورة الإنسان البدائي في الغابة فيما محاولة الخروج من كل هذا ليست بالأمر السهل، ما يجعلنا نعيش -في محاولة بلوغ ذلك- حالة تعقيد هي نقيض الغاية المرجوة.

يميل العديد من الشباب والشابات في مجتمعاتنا العربية اليوم للتحرر من قيود المنظومة السائدة لا سيما الاجتماعية والنفسية، وهو ميل بريء في معظمه يراد منه البحث عن مخرج في ظل الضغوط الكبيرة والمعايير السائدة التي يفرضها المجتمع الاستهلاكي علينا، ولكنها ليست سوى محاولات ليتضح لنا أننا ما زلنا تعساء وغير قادرين على معرفة ما نريده حقاً، وقلقين بشأن المستقبل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image