مع كل وفاة لشخصية عامة، عربيةً كانت أو أجنبية، سياسة أو فنية أو رياضية أو غيرها، يتجدد "سجال الترحم" والحديث عن أثر/ عمل هذه الشخصية في الحياة في الدول العربية. فنجد الأشخاص ينقسمون بين المترحمين، وفريق "له ما له وعليه ما عليه"، يواجههما المنتقدون والشامتون في هذه الشخصية بسبب مواقفها أو أفكارها.
مع وفاة أكثر من شخصية عامة في مصر خلال الفترة الأخيرة، ومن أبرز تلك الشخصيات هشام سليم والرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي، وحتى خارج مصر مثل الملكة إليزابيث الثانية، احتدم هذا النقاش وشغل رواد مواقع التواصل الاجتماعي العربية.
وبات السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لا يكتفي الناس بالترحم على الشخصيات العامة ببساطة أو على الأقل عدم الإساءة إليها لدى وفاتها؟ بكلمات أخرى: هل يُفيد انتقاد/ شتم الشخصيات العامة واسترجاع أفعالها عقب وفاتها؟
الإجابة عن هذا السؤال محل خلاف أيضاً، فهناك من يرى -"من منظور إنساني"- عدم تناول الشخصيات العامة بالسوء عقب وفاتها مراعاةً لمشاعر ذويها، أو مراعاةً لـ"قدسية الموت" و"انقطاع عمل ابن آدم" بوفاته، ومن يعتقد على النقيض بضرورة إبراز مساوئ هذه الشخصيات لتكون عبرة للأحياء. وكل فريق يسوق الحجج والأسانيد لدعم وجهة نظره.
عمرو أديب: خايف أموت
بلغ السجال حول الموتى من المشاهير في الآونة الأخيرة أن عبّر الإعلامي المصري عمرو أديب عن قلقه البالغ مما قد يطاله وتتعرض له عائلته بعد وفاته بسبب مواقفه وانحيازاته خلال عمله. كان ذلك خلال استعراضه للسجالات التي أثيرت حول هشام سليم عقب وفاته والتركيز على أمور أسرية بينها علاقته ببناته وأهله وإثارة الشائعات حول عدم إقامة عزاء له. علماً بأن هذا حدث استجابةً لوصية الراحل.
"خايف أموت. عارف هيتعمل لي حفلة غير طبيعية"... الإعلامي المصري #عمرو_أديب يناقش ما تتعرض له الشخصيات العامة عقب وفاتها خلال الآونة الأخيرة، ويسأل: ليه مبقيناش نعرف نسيب الناس تموت في سلام؟ ما الجواب برأيكم/ ن؟
خلال حلقة برنامج الحكاية المذاع على "إم بي سي مصر" يوم 24 أيلول/ سبتمبر، سأل أديب: "هو إحنا ليه مبقيناش نعرف نسيب الناس تموت في سلام؟ حد مات، بيجوز عليه إيه؟ الرحمة. أنا مفتكرش السنتين تلاتة اللي فاتوا حد مات وسيبناه في حاله… بقيتوا متوحشين كدا ليه!".
وذلك قبل أن يردف معرباً عن خوفه مما سيتعرض له وذووه عقب وفاته بقوله: "يا جماعة أنا بقيت خايف أموت. خايف أموت والله. هتعملوا فيا إيه لما أموت أنا بقى؟ أنا عارف أنا هيتعمل لي حفلة غير طبيعية. أنا مش عايز أموت. أنا مش عايز أموت مش خوفاً من الموت، أنا مش عايز أموت عشان اللي أنتو بتعملوه دا".
"يا تدخل وتستحمل، يا تشوف مجال تاني"
وعبر حسابه في فيسبوك، ناقش الصحافي المصري أحمد عابدين ظاهرة الخلاف حول الشخصيات العامة عقب وفاتها. فكتب: "وفاة الشيخ القرضاوي، قبلها وفاة الممثل هشام سليم ووائل الإبراشي وياسر رزق ومن قبلهم ومن بعدهم كتير ممن دخلوا المجال العام بتوضح حاجة مهمة، أن العمل العام طريق مليان شوك، واللي يقرر يمشي فيه غضب عنه لازم يمشي عليه، والشتيمة والشماتة في أغلب الأحيان جزء أصيل وجوهري -للأسف- من هذه الأشواك، زي ما الثناء والشهرة والوجاهة الاجتماعية في أغلب الأحيان برضه جزء منها".
وأضاف: "كل مجموعة، أو فئة، أو تيار طبيعي تشكر وتمدح وتترحم على زملائهم أو رفاقها أو أخواتهم، والفئات المقابلة طبيعي تشعر بمشاعر مختلفة ومتدرجة. فطبيعي جداً يكون فيه دفاتر عزاء وبكاء وترحم على الشيخ في مقابل تقليب في مواقفه وتاريخه آرائه وفتاويه أو حتى انتمائه فقط وانتقاد حميد أو حاد".
هناك من يرى -"من منظور إنساني"- عدم تناول الشخصيات العامة بالسوء عقب وفاتها مراعاةً لمشاعر ذويهم، أو مراعاةً لـ"قدسية الموت" و"انقطاع عمل ابن آدم" بوفاته، ومن يعتقد بضرورة إبراز مساوئ هذه الشخصيات لتكون عبرة للأحياء
وأشار إلى أنه من "الغريب أنه في كل حادث وفاة ألاقي اندهاش واستهجان شديد من أبناء تيار المتوفى للشاتمين والشامتين، وما يمرش أيام إلا وأبناء تيارهم يستبدلوا الأدوار" مع متوفى آخر، مشدداً على أن "هو ده العمل العام… يا تدخل وتستحمل، يا تشوف مجال تاني".
لوم على "السياسة"
في اعتقاد البعض، ليست الأزمة في العمل العام والشهرة وإنما المواقف والتحيزات التي تنتهجها الشخصيات خلال حياتها، لا سيّما الجوانب التي يعتقد البعض أنه لم يكن ضرورياً إظهارها.
على سبيل المثال، تعرض نجم كرة القدم المصري في ليفربول الإنجليزي، محمد صلاح، للوم شديد وسخرية واسعة عقب رثائه للملكة إليزابيث الثانية. تم تذكيره بماضي بريطانيا الاستعماري في مصر والمعارك والجرائم التي راح فيها أجداده.
في هذا الصدد، كتب الصحافي أحمد زكي عبر تويتر: "من الصعب معرفة ما إذا كانت السياسةُ تظلمُ الرجال، أم أن الرجال يظلمون أنفسهم بالسياسة. لعل وفاة يوسف القرضاوي تذكرنا بهذه المعضلة. فالرجل كان فقيهاً كبيراً ومجدداً لا يمكن تجاوز إسهاماته الحقيقية والأصيلة في الفقه الإسلامي".
وتابع: "لسنواتٍ طويلة كان رمزاً للوسطية والاعتدال في الدين. ثم أتت عواصف السياسة العاتية واختار الرجل مواقفه التي اختلف حولها الناس، وبدا أحياناً طرفاً في خصومة أو منحازاً لفئة، ثم جاء أمرُ الله وذهب إلى رحاب خالقه، فاختلف الناس حول مواقفه السياسية ونسيوا أو تناسوا إسهامه في الفقه".
وأردف زكي في تغريدة منفصلة: "هو بالمناسبة أنا أترحم على أي شخص مات لأني مؤمن إننا كلنا محتاجين رحمة الله وأن جنة الله ملك له سبحانه وتعالى وهو الذي يقرر من يدخلها، وما علينا سوى الدعاء لنا وللغير بالرحمة. الاختلاف في الرأي شيء ممتع ومفيد طالما كان فيه احترام".
"العمل العام طريق مليان شوك، واللي يقرر يمشي فيه غضب عنه لازم يمشي عليه، والشتيمة والشماتة في أغلب الأحيان جزء أصيل وجوهري -للأسف- من هذه الأشواك، زي ما الثناء والشهرة والوجاهة الاجتماعية في أغلب الأحيان برضه جزء منها"
على مَن مِن الشخصيات العامة نترحم؟
وبرغم اختلافها مع أفكاره، نعت الناشطة المصرية آية حجازي القرضاوي في تغريدة على تويتر قالت فيها: "الله يرحم الشيخ #القرضاوي كانت له مواقف كثيرة مشرفة من ضمنها مساندة الربيع العربي، والمطالبة بعدم إطلاق النار على المتظاهرين. مات محافظاً على مبادئه ودفع الثمن".
عقب الهجوم عليها بسبب رثائها، وفي منشور مطول عبر فيسبوك، بعنوان "على من أترحّم؟"، قالت حجازي: "أولاً، ده مجرد رأي وقرار شخصي مش بقول الناس تعمل فيه إيه ومتعملش إيه. ثانياً، ترحمي بيكون مش من منظور ديني. هو تقديم عزاء… لو فيه تعبير مش ديني كنت استخدمته".
وفي توضيحها للأشخاص الذين تترحم عليهم، أضافت: "في الحياة الخاصة: كل قرايبي وحبايبي وحبايب حبايبي من غير معايير. في الحياة العامة: أولاً على الشخصيات اللي بتنتمي لفكرها وآرائها، وثانياً أي حد عنده موقف إنساني أو خيّر أو جه على نفسه عشان موقف محمود حتى لو كان من ضمن خصومي. خصيصاً لو مات وهو مستضعف".
واستدركت حجازي بأن الدين والأفكار لا تحكم ترحمها على الشخصيات العامة، قائلةً: "حتى لو كان ليه موروث مختلط. حاجات من نظري وحشة وحاجات كويسة، طالما كانت المعركة بين الحلو والوحش موجودة، بالنسبة لي ممكن أترحم عليه". وضربت مثالاً بالملكة إليزابيث الثانية حيث كتبت: "الملكة إليزابيث. هي قدمت إيه للإنسانية؟ مش لاقية حاجة بصراحة… أترحم ع إيه بقى؟".
"من الصعب معرفة ما إذا كانت السياسةُ تظلمُ الرجال، أم أن الرجال يظلمون أنفسهم بالسياسة. لعل وفاة يوسف القرضاوي تذكرنا بهذه المعضلة".
وختمت: "الرئيس مرسي والشيخ القرضاوي: أنا على عكس معتقداتهم الدينية والسياسية تقريباً تماماً. لكن حاربوا لمبادئهم، اللي كتير منها بشوف أنها مبادئ حق (وأكيد بخالف أكثرها). واحد مات موتة مهينة في السجن، والتاني برضه اتسجن واتنفى وبنته اتسجنت علشانه. الله يرحمهم".
وجوب انتقاد الشخصية العامة بعد وفاتها
ودخل السجال مواطنون عرب أيضاً، من بينهم الناشط اليمني توفيق حسين الذي قال عبر فيسبوك: "وفاة بعض الشخصيات العامة دائماً ما يثير الجدل بخصوص نقدهم بعد موتهم أو ما يقال له ذكر مساوئهم بعد موتهم"، معتبراً أن "نقد أي شخصية عامة بعد موتها يختلف عن نقد الأشخاص والأفراد العاديين بعد موتهم، ولا يعتبر إساءة للميتين ولا شماتة فيهم".
حجة حسين في ذلك هي أن "مساوئ الشخصيات العامة تأثيرها عام في المجال العام، وهناك مصلحة شرعية وحاجة إلى نقدهم وذكر مساوئهم ليتعظ الأحياء من الشخصيات العامة". وقد أردف: "كذلك لأن الشخصيات العامة تبحث عن النفخ والتطبيل والتمجيد والتقديس ويحبون ذلك يكونوا أحياء أو أموات، ولهذا فنقدهم وذكر مساوئهم بعد موتهم يكون عظة وعبرة للأحياء منهم".
وحذّر من أنه "لو منعنا الناس وفرضنا عليهم التوقف من الحديث عن مساوئ الشخصيات العامة بعد موتها، فنحن بذلك نعطي كل الأحياء من الشخصيات العامة الحق في الفساد وارتكاب أي مساوىء دون تردد، ما دام نحن بعد موتهم نقدسهم ونمجدهم ونمنع الناس من نقدهم وذكر مساوئهم ومن الحديث عنهم بتلك المساوئ التي كانوا عليها بحجة رهبة الموت وقدسيته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...