أصارح القراء بأن هذا نصٌّ مشوّشٌ، أبدأه ولا أعرف كيف ينتهي. صيغته الأولى، قبل أيامٍ، استندت إلى قضية الأمراض الملازمة للمهن المختلفة، المهن العضلية والذهنية معاً، عندما تتشابه الأمراض وتنتقل عدواها، وتعبر الحدود والجنسيات واللغات والأجيال.
على سبيل المثال، يُلازم السينما مرض اسمه الرقابة، أنصبة هذا المرض تزيد وتنقص، تبعاً لإدراك أنظمة الحكم لأهمية السينما. ولا يقل الاستبداد المجتمعي في قضية الرقابة عن الغباوة الرسمية.
أحياناً تسمح الرقابة الحكومية بعرض فيلمٍ، وتكون أكثر مرونةً من الانغلاق العمومي المرتبط بمنسوب الوعي الاجتماعي، ومدى رؤية هذا الانغلاق للسينما كحكايات تتماهى مع الواقع، أو كاستعارات جمالية بريئة وأحياناً سامّة.
زهدتُ في هذه الصيغة، وانصرفتُ عنها، ولعلها انصرفتْ عني، أمام حروب كلامية بسبب عرض فيلم "ريش"، في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بمهرجان الجونة السينمائي الخامس (14 ـ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2021). قلت لنفسي إن كلمةً سخيفةً قد تحبط فناناً، وتدعوه إلى الاكتئاب أو الموت. الفنان ليس بالضرورة هو الممثل أو المخرج، إنما الكاتب، هو صاحب أي موهبةٍ فطريةٍ ولو كان صانع جرارٍ فخاريةٍ.
يُلازم السينما مرضٌ اسمه الرقابة، أنصبة هذا المرض تزيد وتنقص، تبعاً لإدراك أنظمة الحكم لأهمية السينما
في عام 1970 مات المؤلف والأديب الروائي المصري، محمد عبد الحليم عبد الله، متأثراً بفظاظة سائقٍ غشيمٍ. وفي عام 1981 أدت كلمةٌ مغلّفةٌ بدعابةٍ قاسيةٍ تحمل شبهة اتهامٍ إلى موت الشاعر المصري، صلاح عبد الصبور. المبدع أعصابه عاريةٌ، فإذا كنت عاجزاً عن قول كلمةٍ طيبةٍ فليتك تلزم الصمت، وتعفي نفسك من الاشتراك في جريمةٍ.
بعد تعرض ثورة 25 يناير 2011 لعثرتين من قوى الثورة المضادة، كتبتُ مجاملاً ومحيّياً كل من يجد في نفسه الجسارة على تجاوز الظرف الغائم، القاتم والقائم إذا شئنا الدقة، ويكتب روايةً أو قصةً. حاجة الفنان إلى الحنان تسمو على قيمة ما ينشر، وفي سنوات ما بعد الثورة نُشر هراءٍ كثيرٍ، وللقارئ أن يتجنب ما لا يعجبه، وللناقد أيضاً أن يصمت عما يراه متواضعاً، وأن يشيد بما يستحق الإشادة. أما الزمن فيصطفي ما يبقى صامداً للاختبار، والزبد يذهب إلى مصيره. هناك حنان ما قبل الإنجاز، وهو نوعٌ مجرَّبٌ، ومضمون المفعول. وهناك حنانٌ ما بعد انفصال العمل الفني أو الأدبي عن صاحبه.
بعد أن يقرأ السلفي الجهول كتاباً يجرؤ على الإفتاء في قضيةٍ ملتبسةٍ. توجد جرأةٌ، في المقابل، ممن لم يقرأوا كتاباً في مجال فتاواهم. لا تجد في فتاوى هؤلاء وهؤلاء ما يفيد الشكوك، أو يدعو إلى فتح نافذةٍ على اجتهادٍ آخر، والتماس وجهة نظرٍ مختلفةٍ. هذا اليقين القاتل يأتيك من صحفيين مبتدئين، ثقافتهم شفاهية، لم تقرأ لأي منهم مقالاً، لا في السينما ولا في غيرها. وبعد مشاهدة فيلمٍ يحتاج إلى أكثر من مشاهدة، تسمع أحد تعليقين: "الفيلم فيه مشاكل" و"السيناريو فيه مشاكل".
أسمع هذين التعليقين، بعد مشاركة معظم الأفلام المهمة في مهرجانٍ كبيرٍ أو حصوله على جائزةٍ، فأشفق على الحالمين من قسوة ألسنة قتلةٍ صغارٍ، وأتذكر مقارنة المخرج الألماني فريتز لانج "صناعة أي فيلمٍ ببناء كاتدرائيةٍ في القرون الوسطى".
أعرف مخرجاً كبيراً توقف به الزمن قبل عقودٍ، ولا أسمع منه كلمة استحسانٍ، موضوعيةً لا مجاملةً، عن فيلمٍ لمن جاءوا بعده، وقد تفرغ للتبرّم، وترديد مظلومياتٍ مات أطرافها وشهودها، وإنكار أن الزمن لا يأبه للجنائزيات، وأن مخرجين لاحقين اجتهدوا وصنعوا تياراً له علاماتٌ بارزةٌ حصدت جوائزٌ في مهرجاناتٍ كبرى. لكنه لا يرى هذا؛ فالمعاصرة حجابٌ، والمجايلة أيضاً، واجتماع المعاصرة والمجايلة لدى المحبطين يدفعهم إلى الانتقام، والسخرية من جهود الآخرين. أما الفنان المتحقق فيمدّ يديه إلى زملائه، ويبحث بحنانٍ عن مواضع الجمال والقوة في أعمالٍ غيره، ولا ينتقص منه أن يكبر التلاميذ، ويصيروا أنداداً. الفن لا يعرف التنظيم الهيراركي، ولا غيره من التنظيمات، كما يتحايل على الغباء الرقابي الحكومي، ويجاهد لتفادي الرقابة المجتمعية.
الرقابة نوعٌ من القسوة على الفنان، عقد إذعانٍ يحتاج إلى ثورةٍ للتخلص منه، وقد فشلت الثورة إلى الآن. وفي مصر مسخرةٌ تتمثل في دفع رسومٍ ماليةٍ للرقابة، لكي تتكرم بالموافقة على السيناريو. رقابةٌ مبدئيةٌ للموافقة على التصوير، تليها رقابةٌ على النسخة النهائية للفيلم. وقد لا يحصل الفيلم على تصريحٍ بعرضه، حتى لو تطابقت نسخة الفيلم مع نص سيناريو نال الموافقة الرقابية مدفوعة الأجر بالإكراه. وفي مصر رقابةٌ دينيةٌ تحيل إليها الرقابة الحكومية ما تراه شائكاً، لإخلاء مسؤوليتها.
في كثيرٍ من المناسبات الدينية تعرض الفضائيات العربية فيلم "الرسالة". لا تجد أفضل منه فنياً، وقد نجا من انغلاق فقهي لو استجاب له مصطفى العقاد ما كان للفيلم أن يصنع. في عام 1977 أصدر شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، باسمه وباسم الأزهر وباسم مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة بياناً يرفض الموافقة على إنتاج فيلم "الرسالة"، أو أي فيلمٍ آخر "يتناول بالتمثيل، على أي وضعٍ كان، شخصية الرسول أو الصحابة رضوان الله عليهم. ذلك لأن ظهور هذه الشخصيات على الشاشة السينمائية ـ تصريحاً أو تلميحاً أو بأية صورةٍ من الصور الخفية أو المعلنة ـ ينقص من قيمتها ويحط من منزلتها في وجدان المسلم". وينتهي البيان بأنه "لا يجوز من الناحية الإسلامية السماح بإنتاج" هذا الفيلم، "كما لا يجوز السماح بعرضه. وندعو حكام المسلمين وأولياء أمورهم، كما ندعو الأمة الإسلامية كلها، إلى إيقاف العمل في هذا الفيلم".
في السنوات الأخيرة أنتجت مسلسلات تلفزيونية عن أنبياء، جاءنا من إيران "يوسف الصديق"، ولا تزال الفضائيات العربية تواصل عرضه، كما تعيد عرض مسلسل "الحسن والحسين"، وانضم إلى هذه التيار مسلسل "عمر" الذي ظهر فيه كل الصحابة بداية بأبي بكر. ولم يتأثر بذلك وجدان المسلم، كما خشي الدكتور عبد الحليم محمود.
التعلل بالخوف على وجدان المسلم يشبه الخوف على وجدان المصري. في عام 1977 أيضاً رفضت الرقابة في مصر الفيلم التسجيلي "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء" الذي أخرجه اللبناني برهان علوية عن المهندس المصري حسن فتحي صاحب مشروع عمارة الفقراء. التهمة الجاهزة هي "الإساءة إلى سمعة مصر". وقد أنصف الزمن هذا الفيلم (74 دقيقة، من إنتاج المعهد الفرنسي للصوتيات والمرئيات)، ففي الدورة الحادية والعشرين لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (2019)، عرض الفيلم، ضمن تكريم برهان علوية، تضمن إصدار كتاب عن سيرته الفنية للناقد اللبناني نديم جرجورة.
الرقابة نوعٌ من القسوة على الفنان، عقد إذعانٍ يحتاج إلى ثورةٍ للتخلص منه وقد فشلت الثورة إلى الآن
لا يتعلم أحد من درس تاريخي يؤكد أن معارك الرقابة تخسرها الأنظمة، ويربحها المبدعون، ولو بعد حين. في نهاية عام 1975 عرض فيلم "المذنبون"، وخضع لوصاية مصريين في الخليج، ربما في الكويت، احتجوا بأن الفيلم "يشوّه سمعة مصر". حتى يوسف إدريس شارك في الهجوم على الفيلم. ولا يذكر مشاهدو هذا الفيلم الآن أن الذين سمحوا بعرضه عوقبوا، وهذا إنذار لأي رقيب يريح نفسه من عناء الاجتهاد، فيحيل ملفات الأفلام إلى أجهزة الأمن لتقضي فيها بحكم يوقعه الرقيب. فيلم "آخر أيام المدينة" عنوان على هذا الموقف، ومنذ عام 2016 لا يزال بين يدي أجهزة لم تحسم أمره، ولا تسمح الرقابة بعرضه، ولا ترفض عرضه أيضاً.
مقصّ الرقيب الحكومي أرحم أحياناً من رقابة يفرضها النفاق الاجتماعي. في عام 2000 كنت شاهداً على حالةٍ غير مسبوقةٍ من الرقابة المجتمعية. شاهدت فيلم "جمال أمريكي"، أظن في دار عرض بمنطقة مدينة نصر، وكانت تجمّعاً لعائلاتٍ من محدثي الثراء العائدين من الخليج، ربما من سلالة مشمأنطين آذاهم فيلم "المذنبون".
كنت أعمل في مجلةٍ شهريةٍ، وسألني زميلي: هل الأب ـ الذي يمثل شخصيته كيفن سبيسي ـ نام مع زميلة بنته؟ أمْ أنها أخبرته مثلاً بإصابتها بالإيدز؛ فأصابه الرعب وابتعد؟. كان الزميل يجمع المواد المخطوطة على الكمبيوتر صباحاً، وفي المساء يعمل سائق تاكسي. ليس جمِّيعاً حرفياً، بل محترفاً ذكياً ينبهنا إلى ارتباك هنا، أو خلل أسلوبي يحتاج إلى إيضاح هناك. وشاهد فيلم "جمال أمريكي"، واحتار في تفسير ردّ فعل الأب، فسألني وأجبته، وسألت بدوري عما جرى.
الآن أستعيد المشهد، اعتماداً على الذاكرة بعد هذه السنين. في غرفة النوم سأل الأب زميلة ابنته عما إذا كانت تجربتها الأولى؟ أجابت: "نعم"، فأحسّ بالمسؤولية تجاه بنتٍ صغيرةٍ، وتغيرت نظرته إليها وشعوره نحوها، واحتضنها كابنته، وانتهى الأمر.
المشهد الإنساني استفزّ عائلةً مصريةً، فاضطر صاحب دار العرض إلى حذفه، هكذا مباشرةً من غير وجع دماغٍ، الدار داره وحقوق العرض تخصّه. وبحذف المشهد فهم زميلي وغيره من المشاهدين، أن الأب استجاب لإغراء الفتاة المراهقة. الخطورة هنا، درامياً واجتماعياً، أن حذف المشهد سلوكٌ غير أخلاقيٌ تماماً، لأنه أوحى للمشاهد بأن علاقةً جنسيةً تمت بين فتاةٍ صغيرةٍ ورجلٍ قام بالتغرير بها. أما ترك المشهد فهو رسالةٌ أخلاقيةٌ وسلوكٌ سويٌّ يحسبه الممسوسون بالنفاق العمومي إثارةً جنسيةً. للتدين الشكلي وتشوّش الرؤية حصادُ بائسٌ يدعوهم إلى الرياء.
عمر الزهيري - مخرج فليم "ريش"
قلت في البداية إن هذا النصّ مشوّش، وعليّ الآن إنهاؤه بتهنئة المخرج المصري عمر الزهيري بفوز فيلمه "ريش" بجائزة أفضل فيلم روائي عربي طويل، في ختام مهرجان الجونة أمس الجمعة، وغداً يوم آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...