شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عزيزي... لن يفوتك شيء

عزيزي... لن يفوتك شيء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 29 سبتمبر 202210:50 ص


في عام 2015، نشرتُ قصةً ضمن مجموعتي القصصية الأولى "وتنام لتراه"، بعنوان "الكهف الأزرق"، تتحدث عن الانغماس في فضاء فيسبوك، والتخلي عن الحياة "العامرة" بالناس والأشياء، والوقوع تحت سطوة الصفر والواحد.

رأيت وقتها أن من يتيه في هذا الفضاء الإلكتروني سيمسي وحيداً، وأن من يغادره هو من سيشعر بالحياة الحقيقية وسيجد الرفقة التي تريح روحه وقلبه، رفقة حقيقية، من لحمٍ ودمٍ ومشاعر، رفقة تحمل نبرة صوتٍ ولمعة عين، والأهم من كل ذلك... رفقة لها رائحة الحياة الحقيقية... ما ليس له رائحة ليس حقيقياً.

رأيت وقتها أن من يتيه في هذا الفضاء الإلكتروني سيمسي وحيداً، وأن من يغادره هو من سيشعر بالحياة الحقيقية وسيجد الرفقة التي تريح روحه وقلبه، رفقة حقيقية، من لحمٍ ودمٍ ومشاع

مع تطور التكنولوجيا ووصولنا إلى القدرة على التحدث معاً عن طريق مكالمات الفيديو بسهولة وبتكلفة قليلة، ولمدات طويلة، ظننا أننا هكذا طوّعنا الحياة لتُكتب بلغة الصفر والواحد، فترى الكثيرين لا يرغبون في اللقاء، ويكتفون بالدردشة الكتابية، أو الصوتية، أما من يبحث منهم عن "الحياة الحقيقية" فلا يقبل إلا بمكالمات الفيديو! ومع الوقت اقتنعنا بأن هذه هي الحياة، ونسينا أن أهم ما يميز الشيء هو رائحته، فما ليس له رائحة غير مرئي، بل غير موجود.

يتحدث بطل رواية "العطر"، لباتريك زوسكند، عن أنه غير مرئي لأنه بلا رائحة، لا يلحظه أحد، ولا يلتفت إليه إنسان أو حيوان، ويسعى طوال الرواية إلى خلق رائحة مميزة له، ولن أحكي ما حدث حتى لا أحرق أحداث الرواية لمن لم يقرأها بعد. الشاهد هنا هو أننا فقدنا أهم ما يميزنا عندما افتُتِنا بالسوشال ميديا، وهو فقدٌ لن تقدر أي تكنولوجيا في العالم على تعويضه -حمداً لله- حتى يظل الفارق بين الحقيقي والافتراضي قائماً إلى الأبد.

وما كان مثيراً للدهشة بالنسبة لي عندما قررتُ هجر السوشال ميديا لبعض الوقت، قبل عامين، وطال الهجران لستة أشهر، هو اكتشافي أنني خارج العالم الافتراضي وحدي، لكني وسط الحقيقة، أو ما أظن أنها الحقيقة. في البداية كان الأمر مربكاً ومزعجاً، وكنت أفكر في العودة كل ساعة، لكني بعد وقتٍ ليس طويلاً بدأتُ بالعودة إلى "إعدادات ضبط المصنع"، وشرعت حواسي في ممارسة وظائفها الطبيعية مرةً أخرى.

وما كان مثيراً للدهشة بالنسبة لي عندما قررتُ هجر السوشال ميديا لبعض الوقت، قبل عامين، وطال الهجران لستة أشهر، هو اكتشافي أنني خارج العالم الافتراضي وحدي، لكني وسط الحقيقة، أو ما أظن أنها الحقيقة

وانتبهت حينها إلى أنه من الطريف -والمخيف- أن أكثر ما يجذبك على مواقع التواصل الاجتماعي، وترغب فيه، هو حيوات الآخرين، أو لنكن دقيقين، تلك اللحظات التي يسجنونها في صورة أو فيديو أو "بوست" ليشاركونا إياها. إن كانوا قريبين منك تشعر بأنهم تخلّوا عنك واستمتعوا من دونك، فينتابك الرعب من تلك الفكرة وتقرر أن تُقيم في صفحاتهم الشخصية لترى أي نشاط سوف يقومون به، وتقنع نفسك بأنك ستشاركهم فيه، أو تربض عندهم لترثي حالك وتشكو من تركوك واستمتعوا من دونك. وإن لم يكونوا قريبين غبطتهم -أو حسدتهم- على حياةٍ مرفّهة لا تقدر أنت على أن تنال منها حتى الفتات.

ذلك الخوف من فوات الأشياء، أو الـFOMO Fear of missing out، هو أحدث آفات مواقع التواصل الاجتماعي، وربما هو أشرسها حتى الآن، لكن للدقة فهو ليس وليد مواقع التواصل الاجتماعي: هل تذكر حياتك قبل ثورة التكنولوجيا؟ هل تذكر يوماً كنت فيه خارج المنزل لأي سبب وقرر إخوتك أن يشتروا آيس كريم أو سندويتشات برغر وأكلوها معاً ولم يحضروا لك معهم، أو في أحسن الأحوال أحضروا لك لكنهم لم ينتظروك لتشاركهم الأنس؟ ربما كنت أنت وقتها خارج المنزل مع أصدقائك تستمتع أيضاً، لكن هل تذكر شعورك عندما عدت إلى المنزل واكتشفت ما فعلوه؟ هل تنكر أنك وددت وقتها أن تملك القدرة على "الظهور بمظهرين" في وقت واحد، كما في أفلام السينما، كي تنال المتعتين؟

ذلك الشعور ازداد مع اتساع دائرة معرفتك بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، وقعدت لمراقبة الناس: هذا دخل في قصة حب، وتلك تزوجت، وهؤلاء حضروا حفلة "مسار إجباري"، وأولئك يقضون إجازةً في الساحل الشمالي، وأنت ترقد على أريكتك لا تفعل شيئاً سوى المشاهدة والندب، أو اللوم على أنهم قاموا بما قاموا به من دون أن يطلبوا مشاركتك ويسعوا إليها. بل إن الأمر تطور إلى درجة أنك قد تغضب من صديق إن عرفت أنه مرّ بأزمةٍ ولم يشاركك فيها! وتظن أنه بهذه الطريقة يعترف ضمنياً بأنك لست صديقه، من دون أن تأخذ في الحسبان أن مشاركة الأزمات لها اعتبارات أخرى كثيرة، كاختيار الأنسب للمشاركة والأقدر على المساعدة وليس الأكثر محبةً.

ستغضب إن دلفت إلى مكان عملك صباحاً ووجدت زملاءك يتحدثون عن آخر تطورات عملية بوتين العسكرية على أوكرانيا، أو حرائق الغابات في إسبانيا، وأنت لا تعرف هذه التطورات. سيُشعرك هذا بالنقص وتخاف من أن يتكرر... لن تتذكر وقتها أن في سماع الأخبار من الآخرين لذةً، وأن الإلمام بكل شيء مستحيل.

لماذا تظن أنك يجب أن تكون أول من يعرف سبب انفصال براد بيت عن أنجلينا جولي؟ وحتى على المستوى الأقرب، لن تفيدك في شيء معرفة أن صديقك قضى أياماً جميلةً أو سيئةً في الساحل، أو أنه اشترى سيارةً جديدةً

في دراسة أجرتها الباحثة الإيطالية د. جوليا فيورافانتي، ونُشرت في مجلة Computers in Human Behavior، عن الخوف من فوات الأشياء وعلاقته بإدمان مواقع التواصل الاجتماعي، خلُصت إلى أن من يدمن مواقع التواصل الاجتماعي أكثر يعاني خوفاً أكبر من فوات الأشياء، ونوع الأشخاص وسنّهم ليس لهما أي تأثير على مستوى الخوف. كما بحثت فيورافانتي، أيضاً، عن العلاقة بين الاختلافات الشخصية و"الفومو"، فوجدت أن من لديهم خوف أكبر يزيد عندهم الاكتئاب والقلق والمرض العصابي. وأيضاً وجدوا أن هؤلاء الأشخاص يعانون خوفاً شديداً من التقييم السلبي، على عكس من لديهم مستويات خوف أقل.

لن تُلمّ بكل شيء يا عزيزي. لا أحد يقدر على الظهور بمظهرين إلا في الأفلام والمسلسلات. وفي الوقت نفسه، لن يفوتك شيء. أنت مهيّأ بطاقة استيعاب معيّنة يجب أن تستغلها، ولا تحاول أن تملأها غثاءً لا فائدة منه... فكّر معي للحظات: ما فائدة أن تعرف أن حريقاً كبيراً شبّ في الصين مثلاً؟ أو أن عقاراً ما انهار في ترانسلفانيا؟ لماذا تظن أنك يجب أن تكون أول من يعرف سبب انفصال براد بيت عن أنجلينا جولي؟ وحتى على المستوى الأقرب، لن تفيدك في شيء معرفة أن صديقك قضى أياماً جميلةً أو سيئةً في الساحل، أو أنه اشترى سيارةً جديدةً، إن لم تسمعها منه وتفرح له وبه، فمعرفة ذلك لن تُفيدك بل إنها ستضرّك كما أوضحت سابقاً. لن يفوتك شيء يا عزيزي... ضيّق دائرة حياتك حتى تصل بها إلى الحجم الطبيعي، وتعلّم أن تعيش.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard