رغم عشقي الشديد للكتابة، أشعر لأول مرة بأن الأحرف تعصي قلمي. فمن أصعب الأوقات التي تمر على الكاتب هي حين يكتب كلمات تمس روحه ليعبر بها عما بداخله، وهو ما أشعر به الآن.
أوجه سؤالاً لكل قارئ، وآمل أن تكون إجابته صريحة حتى مع ذاته، هل احتضنت أبناءك/ بناتك اليوم؟
لم يلفت انتباهي يوماً ذلك الشاب الوسيم أو خفيف الظل كما كانت تقص صديقاتي بسنوات المراهقة. ولكن، منذ أن بدأت أدرك وأشعر بما يسمى حباً وأنا أبحث عن صفة واحدة فقط في شريك الحياة وهي الأمان. ولم أخفِ ذلك عن أحد بل كلما كنت أشعر بالإعجاب تجاه أحدهم ويبادلني نفس الشعور، لا أضعه تحت ضغط الاهتمام بالاتصالات الهاتفية المبالغ فيها، والمقابلات الرومانسية أو الهدايا سواءً كانت ثمينة أو غير ثمينة. ولكنني بمجرد أن أشعر بمشاعر الحب، ألقي كل ثقتي ويقيني داخل جعبة ذلك الرجل.
أحدثه عن افتقادي الدائم للعديد من المشاعر، بل أحاول أن أكون الحبيبة المثالية التي ليس عليها غبار. وهنا، ابدأ بسلسلة لا متناهية من الحب والعطاء المعنوي الدائم الذي لا ينقطع، وإن كانت هناك بوادر تدل على أن ذلك الشخص ما هو سوى شخص نرجسي أو سام. وللأسف، هنا أبدأ أيضاً في إيجاد مبررات وهمية على أمل أن يصلح حاله أو أن أحقق الجملة الشهيرة التي تنتشر في الأوساط النسائية الآن
“I can fix him”.
هو الأمر الذي يضعني تحت ضغط ويجعلني مستنزفة نفسياً ومعنوياً.
من أكثر الأمور التي تهلك الإنسان نفسياً هو الانجذاب العاطفي لنماذج أمثال الكاذب، المضلل، متعدد العلاقات النسائية، ذي الكلام المعسول فقط ووعود تتبخر في الهواء
من أكثر الأمور التي تهلك الإنسان نفسياً هو الانجذاب العاطفي لنماذج أمثال الكاذب، المضلل، متعدد العلاقات النسائية، ذي الكلام المعسول فقط ووعود تتبخر في الهواء. وللأسف، أصحاب هذه الشخصية يجيدون التلون بالصفات التي تبحث عنها المرأة ويجيدون أيضاً إشباعها بالمشاعر التي تنقصها سواء كانت حباً أو أماناً أو احتواء.
سألت نفسي كثيراً: لماذا أبقى في علاقة غير مستقرة وغير آمنة، كثيرة الشد والجذب لا أنال منها سوى الألم النفسي، علاقة يكسوها الأمان الزائف؟
سؤال طرحته على نفسي وبدأت أبحث بداخلي عن الإجابة. وللصدفة، وجدت عدداً من النساء يطرحن نفس السؤال في الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي. لماذا أتمسك برجل سام رغم أنني على يقين أنه ليس الأنسب ولا الأفضل بل إن استمراري في تلك العلاقة يؤذيني نفسياً.
بدأت أبحث في الأمر عن طريق القراءة والبحث وتوجيه أسئلة للمختصين.
مرحلة الطفولة هي التي ترسم المسار الذي نسير عليه طوال حياتنا.
وهنا، أدركت معنى جملة: "إذا عرف السبب بطل العجب". وأدركت أيضاً أن مرحلة الطفولة هي التي ترسم المسار الذي نسير عليه طوال حياتنا، وأن الثقوب أو العلاقات المضطربة داخل الأسرة قد تؤثر علينا بالسلب دون أن نشعر أو ندرك ذلك.
تذكرت وقتها جملة قالتها الفنانة منى زكي في أحد اللقاءات التلفزيونية: "كنت شبعانة حب في بيت أهلي فمش أي شاب كان يقدر يخليني أحبه بسهولة".
تلك الجملة ليست بعيدة عن الأسباب التي تجعل المرأة تستمر في علاقة عاطفية، أو خطوبة، أو زواج برجل سام لا يفعل أي شيء سوى أنه يؤذيها نفسياً.
وهو ما يتماشى مع نظرية التعلق لعالم النفس جون بولبي، وهي تؤكد أن العلاقات الآمنة بالطفولة لها دور أساسي في تشكيل أسلوب التعلق لدى البالغين، فالأشخاص الذين أظهروا سلوك تعلق آمن في صغرهم يميلون عند بلوغهم إلى تعلق آمن بعكس الأطفال الذين ينتمون إلى بيئات أسرية غير آمنة. أي أن الشخص الذي عاش طفولته في بيئة أسرية آمنة يبحث عن علاقة تشبه البيئة التي عاش بها والعكس صحيح.
ولن أتحامل على والدي ووالدتي كثيراً، فأعترف بأنني عشت حياة كريمة للغاية من مسكن وملبس وتعليم وعلاج. حياة قد تحسدني عليها الأخريات. ولكن، رغم ذلك، كنت أشعر دائماً أن هناك حلقة مفقودة، ربما هي احتواء أو تقصير في تعبيرهما عن حبهما لي، ربما عناق كنت أحتاجه في العديد من الأوقات التي أشعر فيها بالخوف، أو الوحدة، أو الخذلان ولم يشعر أحد منهما بذلك. ربما خلافاتهما التي كانت تهديداً صريحاً للأمان بالنسبة لطفلة لم تتخطَ عشرة أعوام من عمرها والتي استمرت كثيراً.
حتى الآن، لم أستطع تحديد تلك الحلقة المفقودة ولكنها حلقة فارغة تترك بداخلي دوماً افتقارا، إلى الشعور بالأمان مما كان يدفعني إلى البحث عن أمان خارجي وإن كان أماناً زائفاً أو وعوداً كاذبة بالاحتواء، إلا أنني أتعلق بها كثيراً وأخشى أن أفتقد الشخص الذي ينطق بها.
لن أتحامل على والدي ووالدتي كثيراً، فأعترف بأنني عشت حياة كريمة للغاية من مسكن وملبس وتعليم وعلاج. حياة قد تحسدني عليها الأخريات. ولكن، رغم ذلك، كنت أشعر دائماً أن هناك حلقة مفقودة، ربما هي احتواء أو تقصير في تعبيرهما عن حبهما لي
أشعر وأنا أكتب الآن بمشاعر مختلطة وينتابني الشعور بالذنب تجاه والديّ فأنا أكن لهما كل مشاعر الحب والتقدير، ولا أقصد بذلك المقال أن ألومهما. ولكنني أعتبر كلماتي دعوة الآباء والأمهات اإلى تلبية احتياجات أبنائهم وبناتهم المعنوية قبل المادية، قبل أن يكبروا ويشعروا بحالة من الجمود.
نعم، فالآن ورغم حبي الشديد لوالديّ، أشعر تجاههما بحالة من الجمود أو الاعتياد على ألا أظهر مشاعر الاحتياج، والضعف، أو حتى الرغبة في عناقهما.
إذا أصبح لدي أطفال فسوف أكون حريصة كل الحرص بأن أجعلهم "شبعانين حب"، حتى لا يكونوا عرضة لشخص سام يوماً ما. سوف ألبي احتياجاتهم المعنوية والعاطفية قبل المادية. سأجعلهم يشعرون أن "حضني" و"حضن" والدهم هو كهفهم الآمن، كما أنني حريصة على اختيار أب لأبنائي، مؤمن بدوره في سد احتياجات أطفاله معنوياً، فالتربية السليمة من وجهة نظري ليست سد المتطلبات المادية فقط.
اليوم، لا أبحث عن الحب كما كنت سابقاً، بل أحاول جاهدة أن أصنع لنفسي هالة من الأمان داخلياً وخارجياً عن طريق اقترابي من الجديرين بالثقة فقط
وكما يقال: "رب ضرة نافعة"، فبعد أن أدركت السبب في بحثي الدائم واللاشعوري عن علاقة غير آمنة، أصبحت منذ عدة أعوام أفهم نفسي أكثر وأعي احتياجاتي المعنوية أكثر غأكثر، ولا أنجرف خلف أي كلام معسول يشوبه الكذب أو أي علاقة أعلم جيداً أنها غير آمنة. حقاً نصف العلاج معرفة الحقيقة مهما كانت مؤلمة.
اليوم، لا أبحث عن الحب كما كنت سابقاً، بل أحاول جاهدة أن أصنع لنفسي هالة من الأمان داخلياً وخارجياً عن طريق اقترابي من الجديرين بالثقة فقط. لا ألهث خلف أي كلمة تشبع شعور افتقدته طويلاً، بل أصبحت أكثر قوة وصلابة عن الأعوام السابقة. أصبحت أهرب من بوادر أي علاقة يشوبها عدم الارتياح النفسي.
والآن، أوجه سؤالاً لكل قارئ، وآمل أن تكون إجابته صريحة حتى مع ذاته، هل احتضنت أبناءك/ بناتك اليوم؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...