يرتبط بعض المغتربين العرب بالقانون والمجتمع الأوروبي على نحو لا يخلو من التناقضات، فتارةً يقبلونهما ويمضون نحوهما ممزقين الدفاتر القديمة التي تحكي قصصهم مع القوانين البالية في بلادهم، وتارةً يتمردون على القانون والمجتمع الجديدين في عودة إلى قناعات راسخة قديمة تقفُ حَجَر عثرةٍ في طريقِ اندماجهم الكامل.
الأسرةُ والحميمية الاجتماعية هما من أكثر العوامل المسببة لذلك الجنوح عن سكة الـ "أوروبية" التي تصيب بعض العرب، فنراهم يسوّرُون منازلهم ويحيطون أطفالَهم بما ألقاه الآباء في رؤوسهم من عادات ومبادئ لم تقو رزانة القوانين الجديدة على تحييدها. فتصل الأمور في نهاية المطاف إلى صدام مع الرقيب الأوروبي الذي سينتصر أخيراً ليس لأحقيته فحسب، بل لأنه المحور الذي يتوجب على الجميع الدوران في فلكه.
"يوغندامت Jugendamt"، سوسيال Social"، "بارنا فارن Barnavarnet"، والـ"ASE" هي منظمات لرعاية الأطفال في البلاد الأوروبية، لكنها تحولت في نظر بعض العائلات العربية إلى جلّاد يطارد أربابها لما تحمله توصياتها من جدليّات تفتحُ الباب أمام حالة الشقاق الحاصلة بسبب التخبط بين الموروث والثقافة الجديدة.
"يوغندامت Jugendamt"، سوسيال Social"، "بارنا فارن Barnavarnet"، والـ"ASE" هي منظمات لرعاية الأطفال في البلاد الأوروبية، لكنها تحولت في نظر بعض العائلات العربية إلى جلّاد يطارد أربابها لما تحمله توصياتها من جدليّات تفتحُ الباب أمام حالة الشقاق الحاصلة بسبب التخبط بين الموروث والثقافة الجديدة.
خيط رفيع بين التربية والقسوة
علاء شباني، 42 عاماً، سوريٌ مقيمٌ في فرنسا وأبٌ لطفلٍ عمرُهُ عامان ونصف يتحدث لرصيف22 عن عمل الـ Aide sociale à l'enfance في فرنسا: "عملها إيجابي ويصب في مصلحة الطفل، لأنه يحميه من أي سلوكيات رعناء يقوم بها الأهل تجاهه، لكن يصعب علينا أحياناً أن نتقبل فكرة سحب الطفل من بين ذراعي والدته، لأننا نفكر بنزعة عاطفية مشحونة بقداسة العائلة في مجتمعاتنا، ولا بنزعة عقلانية".منظمات رعاية الأطفال في البلاد الأوروبية، تحولت في نظر بعض العائلات العربية إلى جلّاد يطاردها.يتحفظ علاء قليلاً على ما أسماه مبالغة في رقابة المنظمة بعض الأحيان، ويراه لا يتناسب كثيراً مع الطريقة العربية في التربية، يقول: "عندما يصل الموضوع إلى العنف اللفظي أو الجسدي لا أمانع من تدخل رجال الشرطة وسحب الطفل إن لزم الأمر، ولا يزعجني ما يقومون به من عمليات فحص لجسد طفلي بشكل دوري في المدرسة ليتأكدوا من خلوه من أي كدمة أو علامة عنف. لكن الطفل بحاجة أحياناً لبعض الحزم أو القسوة. هكذا كبرنا وتربينا. المبالغة في الدلال لها أثر عكسي يوازي العنف والعدوانية".
يروي علاء لرصيف22 ما جرى بينه وبين طفله وهما في طريقهما من المدرسة إلى البيت: "وقف ابني أمام باب المدرسة رافضاً الذهاب إلى البيت بعِناد وبكاءٍ شديدين، حاولت إقناعه بالذهاب إلى المنزل بكل أساليب الحوار لكنها لم تجدِ نفعاً، إذ ذاك وقفت عاجزاً. لم أقو على فعل أي شيء، وعندما اضطررت إلى حمله والسير باتجاه السيارة، ما كان من أهالي الأطفال الآخرين إلا الهجوم علي واستدعاء الشرطة بحجة قيامي بتعنيف الطفل".
تهرع الشرطة الاجتماعية أو منظمات رعاية الأطفال في أي دولة أجنبية إلى منزل الطفل عندما يتم الإبلاغ من جهة ما عن اشتباه في تعرض الطفل للخطر، ثم يقوم الفريق المتقصي بتقييم الحالة استناداً إلى شهادات طبية ومعلومات من الجوار والمدرسة والأهل. وإجراء سحب الأطفال من كنف العائلة هو أقصى الإجراءات وآخرها. وبحسب القانون الأوروبي لا يمكن أن يقوم من دون وجه حق أو ركيزة قانونية، كما لا يمكن أن يخضع لمزاجية الفريق المتقصي.
يرى جورج شلهوب، 39 عاماً، وهو أب لبناني لطفلة عمرها ثلاث سنوات في ستوكهولم، أن عمل السوسيال "مكتب رعاية الشباب في السويد" تشوبه بعض السلبيات التي تتجلى بقصور تقدير الموقف، ويقول لرصيف22: "شاهدنا قصصاً كثيرة لعائلات عربية وأجنبية كانت ضحية الموظف المسؤول عن ملف العائلة والمندوب من قبل السوسيال. ونسبة كبيرة من قراراتهم كانت خاطئة أو مبالغاً فيها إن صح التعبير".
تهرع الشرطة الاجتماعية إلى منزل الطفل عندما يتم الإبلاغ عن اشتباه في تعرضه للخطر... وإجراء سحب الأطفال من العائلة هو أقصى الإجراءات وآخرها.يتابع شلهوب الذي يعيش في السويد منذ عشر سنوات: "لا يعقل أن تقوم المنظمة بسحب طفل من عائلته لأنه بكى في المدرسة بعد أن شاهد سجالاً بين أبويه وهما في طريقهما لإيصاله لمدرسته. أنا أعرف والديه معرفة جيدة، هما طيبات ويجيدان تربيته وتحدثا إلينا عن طبيعة السجال الذي شاهده الطفل. كان مجرد نقاش حاد بعض الشيء".
يواجه بعض لعائلات العربية في الدول الغربية صعوبة في الاندماج بالمجتمع الأوروبي ويمضون في بعض الأحيان سنوات طويلة لتحقيق ذلك، وعندما نتحدث عن مسألة اعتناق النهج الأوروبي في التربية، الذي تنادي به المنظمات وجهات حماية الأطفال، سيكون الأمر مرهوناً بزمن طويل ويتطلب مرونة كبيرة.
بسام محمود، 34 عاماً، فلسطيني يعيش في برلين، يقول: "لا شك أن الطريقة التي تربينا بها تحمل الكثير من الثغرات، لكن من المجحف المطالبة بوضعها على الرف واستبدالها كلياً. لن نتمكن من تبني طريقة بشكل كامل ونحن لا نعرف هذا المجتمع إلا منذ سنوات قليلة".
محمود أب لثلاثة أطفال أنجبهم بعد وصوله إلى ألمانيا قبل سبع سنوات يشير إلى أن إجراء سحب الطفل أو حجره عن أهله لفترة من الزمن يحدث شرخاً كبيراً بين الطفل وذويه، ويضعف رادع الأهل لدى الطفل، ويقول:"مهما كانت المنظمة مؤهلة ولديها أخصائيون محترفون لن تقدم للطفل ما سيقدمه الأهل، إلا في حال وجود خلل جوهري في ممارسات الأبوين."
عندما لا يكون البيت ملجأً آمناً
نزعُ رتبةِ الملاذ عن كتف الأب ومنحها لموظف المنظمة الاجتماعية مسألة لا يستطيع الأهل تقبلّها، خصوصاً بعض العرب المشحونون بعاطفة الأبوة التي تحمل في ثناياها نزعة الوصاية والتبعية وحلم تربية الطفل على مقدسات العائلة والأجداد.من هنا تتفرع الخلافات بين العديد من العائلات العربية وهذه المنظمات، التي تنادي بأهمية الصحة النفسية والجسدية التي يجب أن يتمتع بها الطفل، في الوقت الذي يراها بعض أرباب الأسرة العربية نوعاً من الدلال المفرط الذي سينتج شاباً غير مسؤول لا يقوى على تحمل المسؤولية وتحمل صعاب الحياة.
"عمل هذه المنظمات إيجابي ويصب في مصلحة الطفل، لأنه يحميه من أي سلوكيات رعناء يقوم بها الأهل تجاهه، لكن يصعب علينا أحياناً أن نتقبل فكرة سحب الطفل من بين ذراعي والدته"يارا سالم، 39 عاماً، سورية تعيش في النرويج منذ ست سنوات وأم لطفلين تقول لرصيف22: "لن أربي أطفالي على الطريقة التي تربيت بها أنا، وهي طريقة قائمة على الترهيب والعنف، لكنني في نفس الوقت أحرص على بعض الحزم والقسوة ومبدأ العقاب حتى يشعر طفلي بالمسؤولية، لأن التساهل بشكل مفرط بحجة إطلاق العنان لشخصيته منذ سنواته الأولى إجراء لا أقتنع بجدواه".
سلوكيات يارا المتنافية مع توجيهات هيئة حماية الطفل النرويجية "بارنا فارنت" تقوم بها خلسة وحصراً في المنزل. تقول: "أؤمن كثيراً بمبدأ الثواب والعقاب، والعقاب لا يكون بالعنف، وإنما بالحرمان والتوبيخ في بعض الأحيان، لكن القيام بهذين الأمرين في الصباح الباكر قبل الذهاب إلى المدرسة أمر محفوف بالمخاطر، لذلك كثيراً ما أقوم بتأجيله إلى حين عودة الطفل". تتابع ضاحكة: "كي لا يعود من المدرسة وبصحبته المعلمة والشرطة."
مساجلة مزمنة
إنه صراع يشكل انعكاساً للجدلية التي تكبر مع العديد من الأطفال العرب في البلاد الأوروبية، والتي تواجه بعض العائلات مع تغير المراحل العمرية التي يمر بها الأولاد، فيعيدون طرح السؤال الذي يشكل لب الشرخ، كيف أربي أطفالي على طريقتي التي تربيت بها، أم على النهج المغاير؟ وفي فلك الخيار الثاني تدور فوبيا انعتاق الابن عن أبويه وخروجه من عباءة المنزل ليسير على خطى أقرانه في البلاد الجديدة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 12 ساعةربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ يومينبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي