لا تختلف جلسات الصبايا اللواتي يسارعن لإقامتها في كل مرة لدى إحداهن؛ في كل مرة يبدأن بإعداد الطقس الخاص من دلة القهوة إلى الموسيقى والسيجارة مع ضحكات ترافق غنجهن وتنعش الجو الخاص بهن، بعد بعض الوقت وتبادل الأحاديث المتنوعة يبدأن بقلب فناجين القهوة للتبصير ومعرفة الخفايا.
تعودت فريدة محمد (45 عاماً) أن تقرأ الفنجان لصديقاتها وضيوفها بهدف التسلية، تقول: "بدأت القصة معي منذ زمن بعيد، في العشرين من عمري كنت أجتمع والصبايا صباحاً في قريتي ونشرب قهوتنا ونحن نستمع لفيروز، ثم نروي القصص ونمزح ونقلب الفنجان، حينها كنت أفتح لكل صبية فنجانها من أجل التسلية وأقول لها رأيي حول مواضيع أخبرتني عنها سابقاً، وأشرح الإشكال فيها، لكن مع الأيام كانت تقول كل واحدة منهن عندما نجتمع في اليوم التالي إن جزءاً مما قلته لها قد تحقق أو كان صحيحاً، هذا ما جعلني استمر بقراءة الفنجان إلى اليوم، ثم بدأت استخدم كل طاقاتي لأفتح الفال وأفسر الخطوط والأشكال بغض النظر عن مدى معرفتي بالشخص".
الأمل في الكف والفنجان
قد لا تتعدى قراءة الفنجان كونها عادة اجتماعية محببة في الجلسات، لكنها تكشف عن رغبة الإنسان بمعرفة خفايا الأمور وتعكس السلوك الفضولي البشري تجاه الآخرين والأشياء، وقد تتحول إلى حرفة يحاول صاحبها الذي يتمتع بخيال واسع وقدرة على فهم لغة الجسد أن يستقرئ خبايا وخصوصيات الشخص الجالس أمامه عن طريق شيء ملحوظ فيه.
تتابع فريدة الحديث مع رصيف22: "أنا غير مقتنعة بالقدرة على معرفة الغيب من خلال الفنجان، لكن تعلقت به واستمررت في قراءته للآخرين لأنني أشعر أني أخلق لهم أحاسيساً جميلة، مع أني أتحدث عن أمور عادية تحدث بشكل دوري وروتيني للجميع، كأن أقول لسيدة لديكِ طريق طويل أو هناك زائر جديد، هناك فستان عروس في الفنجان، أو أقول بعض أمور يحب الناس سماعها مثلاً هناك طاقة فرج وفسحة بيضاء، وأخرى تناسب دواخلهم وتمسّهم كأن أقول لفتاة ما أنت تمرين بأزمة نفسية وضغوط ولديك هموم لا تستطيعين البوح بها لأحد، لكنني أؤكد لك أنني إلى الآن أفتح للتسلية ولقضاء وقت ممتع مع صديقاتي، إذ يشكل فتح الفنجان فرصة لنا لنبوح بمشاكلنا وقصصنا إضافة إلى القضاء على الملل".
فريدة: أتحدث عن أمور عادية تحدث بشكل دوري وروتيني للجميع، كأن أقول لسيدة لديكِ طريق طويل أو هناك زائر جديد، هناك فستان عروس في الفنجان
إذا كان الأمر بالنسبة لفريدة هو مجرد تسلية لا يتجاوز محيطها الصديقات والعائلة إلا أنها لنوروز (40 عاماً) باب رزق يأتيها منه دخل مادي من خلال استغلال هوس البعض بمعرفة ما يحمله لهم المستقبل، تقول نوروز لرصيف22: "عندما كنت صبية بدأت بقراءة الفنجان لجاراتي للثرثرة وقضاء الوقت سوية، لكن مع الأيام تحولت لدي إلى عادة أن أقرأ لكل راغب، وفي يوم جاءتني امرأة تحمل بيدها هدية بسبب أن ما قلته لها قد تحقق، وهكذا بدأت أتخذ التبصير كمهنة".
باب رزق و"مهنة شريفة" في زمن الحرب
أصبحت نوروز تتلقى يومياً اتصالات من مختلف شرائح المجتمع. في البداية كانت تستقبل النساء فقط في منزلها بحلب، أما لاحقاً فصارت تقرأ للرجال صور فناجينهم بإرسالها لها عبر الواتساب، وتدّرج معها الأمر بوضع تسعيرة 500 ليرة سورية للفنجان حين كان المبلغ المذكور يساوي دولاراً واحداً، ليرتفع بعدها إلى 4500 ليرة بما يحفظ قيمة الدولار رغم انهيار العملة، مع العلم أن السعر قد يتغير بحسب الزبون.تكمل: "غالبية الزبائن من النساء ومن مختلف الفئات، ربات بيوت، صيدلانيات، معلمات، إلخ...، ومن طبقات غنية أيضاً، عادةً أتفق معهن على السعر قبل أن أقرأ الفنجان، واستطعت بذلك أن أؤمن دخلاً أضافياً إلى جانب راتب زوجي الذي لم يكن يغطي بدل إيجار البيت والفواتير، كانت حركة العمل تتوقف في بعض سنوات الحرب في حلب وتعود بعد فترة، أما الآن فلا أحد لديه القدرة على الدفع مقابل قراءة فنجانه إلا ما ندر".
وحول كيفية قراءتها للفنجان تجيب: "أعتمد على حركات زبوناتي وطريقة كلامهن وردود أفعالهن، وغالباً يخبرنني عن سبب مجيئهن، ومن ثم أتحدث بما يحببن أن سماعه وأمنحهن الأمل والرضى عن أنفسهن".
لا يختلف الأمر مع قراءة الكف التي تعتمد على تفسير الخطوط التي تنقسم إلى خط القلب والحياة والقدر والحكمة، وتندرج قراءتها على تقييم الشخص والتنبؤ بالمستقبل أيضاً.
أصبحت نوروز تتلقى يومياً اتصالات من مختلف شرائح المجتمع، في البداية كانت تستقبل النساء فقط في منزلها في حلب، لاحقاً صارت تقرأ للرجال صور فناجينهم بإرسالها لها عبر الواتساب
تقول آفين خليل (26 عاماً): "أنا لا اقتنع بالطريقتين لكن إن خيرتني سأختار قراءة الكف أكثر من قراءة الفنجان، ومع هذا فقد جربت كليهما، ففي حارتنا توجد فتاة ضريرة تقرأ الفنجان، تمسكه بين يديها وتنظر للبعيد وتتحدث، كانت هذه الفتاة تعاني ضعفاً شديداً في النظر ومع الأيام فقدته نهائياً، ومن كثرة ما رووا لي عنها دفعني فضولي لزيارتها، وفعلاً كان كل ما قالته صحيحاً".
أحياناً... يصدقون
كثيراً ما نسمع مقولة "كذب المنجمون ولو صدقوا" ومع ذلك يتهافت كثير من الناس على من يقرأ لهم فألهم سواء بزيارتهم أو مراسلتهم أو التواصل معهم عبر تطبيقات انتشرت بكثرة عبر الإنترنت، ويستطيع/ تستطيع قارئ/ة الفنجان تحويل حاجة الناس لكلمة تفاؤل إلى مال، فالأمر يصل بالبعض حدّ الهوس والإدمان، سيما عندما يكون الشخص محبطاً ويشعر بالقلق والضعف نتيجة ظروفه السيئة التي يعيشها، لدرجة يرغب بتصديق كل ما يسمعه وقد يبني مواقفه ويؤسس لأعمال في الحياة على أساس التبصير.يستطيع قارئو الفنجان تحويل حاجة الناس لكلمة تفاؤل إلى مال، فالأمر يصل بالبعض حدّ الهوس والإدمان، سيما عندما يكون الشخص محبطاً ويشعر بالقلق والضعف
بحسب المرشدة النفسية في مركز أمارا للاستشارات النفسية بمدينة قامشلو رانيا حسين، فإن من يلجأ لقراءة الحظ من خلال الفنجان والكف أو أية طريقة هم صنفان، تقول "الأول يبحث عن التسلية والمتعة والتشويق والفضول تبعاً لما تقوله قارئة الفنجان أو الكف عن خفايا المستقبل لكن دون الإيمان بكلامها، والثاني ذهاباً في رحلة البحث عن الخلاص من الواقع الذي لا يسيطر عليه أو بسبب عدم الثقة وعدم الرضا عن النفس وعدم الإحساس بالأمان، ولوجود هشاشة تجعله راغباً بالتمسك بأي أمل، لذا نرى هذا النوع الأخير يصدق كل ما تقوله البصارة".
ولفتت حسين إلى أنّ هذه الظاهرة يمكن أن تشكل خطراً عندما يدفع الشخص المال مقابلها ويكون مهووساً بها، فتتفاقم هذه الممارسة لتصل حد الابتزاز مادياً أو جنسياً لدى النساء. وبرأيها يشجّع الكسل على مواجهة مصاعب الواقع انتشار الغيبيات وبالتالي زيادة التخلف الاجتماعي، وربما زيادة الأمراض النفسية في المجتمع وأكثرها القلق والوسواس والهوس وضعف الثقة بالذات.
عادة الملوك والمشاهير
تشير الوثائق التاريخية إلى أن قراءة الكف ربما نشأت في الهند ومن ثم انتقلت إلى اليونان وغيرها من الحضارات القديمة، وأقدم إشارة لها تعود إلى حوالي ثلاثة آلاف قبل الميلاد، وقد اهتم بها فلاسفة اليونان كأرسطو وفيثاغروث إضافة لقياصرة الرومان، إلى أن حظرتها المسيحية ومنعت كل من يقرأ من دخول الكنيسة، لكن عادت وانتشرت مع دخول الغجر في أوروبا في العصور الوسطى.كذلك الحال مع قراءة الفنجان، فجذورها قديمة أيضاً وأساسها كان قراءة أوراق الشاي التي بدأت في الصين، وتسمى بفن تاسيوغرافي، حيث يُنظر إلى الرموز التي تكونها أوراق الشاي التي تبقى في الكوب وتترسب في القاع بعد الاستخدام، قبل أن يتم تنضم القهوة إلى هذا التبصير.
قارئة الفنجان... أعتمد على حركات زبوناتي وطريقة كلامهن وردود أفعالهن، وغالباً يخبرنني عن سبب مجيئهن، ومن ثم أتحدث بما يحببن أن سماعه وأمنحهن الأمل والرضى عن أنفسهن
قراءة الفنجان أو الكف مثلها مثل قراءة ورق التاروت، والتنويم المغناطيسي، وضرب الودع، والرمل، وفتح المندل وعلم الأرقام والأبراج، جميعها ممارسات للتنجيم وكشف الطالع التي لعبت دوراً في الكثير من الشؤون الاجتماعية والسياسية منذ القدم إلى اليوم، إذ دائماً ما كان يوجد منجم مرافق للملك يستعين برأيه في القضايا المهمة والخطيرة، كما هو الحال اليوم مع الكثير من رجال الأعمال والصناعة، والملوك ورؤساء دول، وقد اتخذت الملكة إليزابيث الأولى المنجم جون دي كمستشار شخصي لها.
شكلت العرافة إلهاماً للكثيرين من الشعراء والفنانين، فالفنان سيد درويش أول من غنى للعرافة عام 1915 أغنية (بصارة... براجة) من كلمات يونس القاضى، وكتب الشاعر أدونيس قصيدته (عرافة) كما كتب الشاعر نزار قباني قصيدة (قارئة الفنجان) التي غناها عبد الحليم حافظ، وحديثاً غنى الفنان ربيع الأسمر أغنيته (رجعت البصارة).
أما سؤال ما الأدق فتح الفنجان أم قراءة الكف؟ فجوابه يأتي بدقة الأجوبة التي يقدمها التنجيم لمحبيه، لا شيء مما ذكر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون