تذهلنا إمكانات علم الفلك اليوم باكتشافات جديدة عن الفضاء وعوالمه، وتغير وجهات نظرنا حول الكون وحول وجودنا فيه. قبل 2000 عام، لم تكن هذه حالة علم الفلك عند العرب القدماء، إلا أن النجوم والكواكب كانت جزءاً هاماً من حياة الناس. يقدم الباحث الفلسطيني عنان حبيب، في دراسة لأشعار العرب التي تذكر النجوم والكواكب، مقاربة لدور النجوم البلاغي في الشعر العربي القديم، ويضيف أنها في الوقت نفسه، كانت تشير إلى كواكب ونجوم بعينها، وبهذا تأخذ بعداً مختلفاً في معناها وتخاطب القارئ/السامع العربي، لتشير إلى حركة النجوم كما كان يعرفها الناس في حياتهم العملية. ويعطينا مثلاً اسمه "عقبة النجوم"، وهي لعبة كان يمارسها العرب عند الترحال، يتناوب خلالها قادة القوافل مهمة السير بها وتوجيهها ليلاً، وفقاً لطلوع نجم وغياب آخر. فبالنسبة إلى العرب القدماء، كما يؤكد حبيب، كانت النجوم والكواكب جزءاً من حياتهم العملية، ووسيلة لمعرفة الطريق، وتحديد الفصول، وتأريخ الأيام، فكانت بمثابة روزنامة، وخريطة ونشرة جوية. ازدادت أهمية الفلك عند العرب بعد الإسلام، وفي كلتا الفترتين، آمن العرب بقدرة الفلك على التأثير في حياتنا على الأرض. كانت النجوم والكواكب في السماء دليلاً للعرب مع بدايات الإسلام للترحال في الصحراء، ولمعرفة جهة القبلة، ولتحديد مواعيد الصلاة، وبداية شهر رمضان وعيد الفطر، والسير في طريق الحج، ولنجاح سفر البحارة.
إن دراسة الفلك كعلم بدأت بعد الإسلام، أي أيام الخلافة العباسية. ويعتقد بعض باحثي التاريخ أن ازدهار العلوم عند المسلمين، خصوصاً علم الفلك، تزامن مع ازدهار الإمبراطورية الكارولنجينية في أوروبا بين القرنين الثامن والعاشر، وبفضل أهمية علاقات التبادل بين الثقافتين العربية والأوروبية، توسع الاهتمام بالعلوم. كما أعطى توسع الأمويين والعباسيين فرصة لضم علوم الإمبراطوريات التي ازدهرت في أراضي الخلافة الإسلامية الجديدة. هناك أبحاث تقترح تاريخاً أسبق لبداية الاهتمام بالعلوم، في أيام الأمويين (بين عامي 660 و750)، مع عملية التعريب التي تبناها الأمويون، وفتحت مجالاً لمتقني اللغة اللاتينية والفارسية للمشاركة في الحياة الفكرية في عهد الأمويين.
وقد جاء بناء مراصد في العالم الإسلامي ومعه مكتبة ضخمة متخصصة بمخطوطات الفلك، ودراسة النجوم، استجابة لاهتمام متزايد في هذا العلم.
ومعلوم أن علماء المسلمين استفادوا من الثقافات الساسانية والهندية، واليونانية الهيلينية، واستخدموا دراسات من جاء قبلهم. وأهم هذه الأمثلة حركة الترجمة التي يدرسها الباحث الدكتور في جامعة ييل الأمريكية، ديمتري غوتاس، في كتابه "الترجمة وانتقال الفكر اليوناني إلى الثقافة العربية". حركة الترجمة التي استمرت قرنين من الزمن (الثامن للعاشر الميلاديين)، واتسعت نشاطاتها لتشمل المشاركين فيها داخل بلاط الخلفاء وخارجه. وترجمت خلالها أهم ما أنتجته الثقافة اليونانية، كأعمال أرسطو وإقليدس وأبقراط وجالينوس، وكتاب عالم الفلك اليوناني بطليموس من القرن الثاني للميلاد، الذي يعرف بكتاب المجسطي، الذي ترجم إلى العربية نقلاً عن السريانية. ومع القرن العاشر، أصبحت دراسة الفلك علماً مستقلاً متخصصاً.
النظرية الكلاسيكية في تاريخ الحضارة
ربما كان من الضروري ذكر السرد الكلاسيكي في دراسة تاريخ العلوم من العصور القديمة حتى العصر الحديث. تقول النظرية الكلاسيكية إن النهضة الأوروبية كانت نتيجة مباشرة للحضارة اليونانية. وإن العلوم التي ازدهرت في الثقافة اليونانية، تمت ترجمتها إلى لغات العالم الإسلامي، وحفظت لقرون، إلى أن أعيدت ترجمتها إلى أوروبا لتسهم في عصر النهضة الذي بنيت عليه الحضارة الأوروبية. وبهذا تقدم النظرية قراءة لتاريخ الحضارة تستثني العرب وتحد من دورهم لكونهم مترجمين وحافظين لعلوم اليونان التي ساعدوا في إيصالها إلى أوروبا بعد عدة قرون، من دون أن يؤثروا فيها، أو يسهموا في الإضافة إليها. إلا أن هذه النظرة لتاريخ الحضارات تجد أن العرب لعبوا دوراً محدداً، وهو أنهم كانوا حلقة وصل بين الحضارة اليونانية وعصر النهضة في أوروبا.
مخطوطة من القرن السابع عشر، مكتبة جامعة اسطنبول
وقد قدمت دراسات عديدة قراءات جديدة لتاريخ الحضارة، أهمها أعمال الدكتور جورج صليبا، إذ أعاد فيها قراءة تاريخ تطور العلوم، خصوصاً علم الفلك، من العهد اليوناني إلى الحياة العلمية في العالم الإسلامي، حتى عصر النهضة. يبين الدكتور صليبا في كتابه "العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية"، أن علماء المسلمين قاموا بتحليل العلوم، والتفاعل معها ونقدها وتطويرها، قبل أن تترجم أوروبا علوم الثقافة اليونانية، وتضع لها تفسيراتها. كان علم الفلك جزءاً من ثقافة العصر، وعلماء الفلك نفسهم جزءاً من الحياة الفكرية، فكانوا يكتبون في التفسير والفقه والحديث، فمثلاً إن عالم الفلك والرياضيات أبو الحسن ابن الشاطر (ت.1375)، قضى معظم حياته في رئاسة المؤذنين والتوقيت في الجامع الأموي في دمشق. وحتى يومنا، هناك عشرات النجوم حافظت على أسمائها المستمدة من الأسماء العربية والفارسية، التي أطلقها عليها علماء الإسلام. مثل: "عقرب" Acrab، وهو نجم مزدوج في كوكبة العقرب، ينقش على علم البرازيل اليوم، أو نجم "أرنب" Arneb أو Arnab، وهو نجم "شائخ"، أضخم من الشمس بـ14 مرة، يبعد عن الأرض 1300 سنة ضوئية، ونجم "سهيل" Alsuhail، الذي يعتبر من ألمع نجوم السماء، ويمكن مشاهدته بالعين المجردة. من أوائل علماء الفلك المسلمين أبو معشر البلخي (ت.886) الذي يعرف في الغرب بلقبه Albumaser، ترجمت أعماله وتداولت في أوروبا، ومن مشاهير علماء المسلمين الذين ناقشوا وانتقدوا علم الفلك: الفارابي (ت.951)، وابن الهيثم (ت.1040) الذي كان يلقب في أوروبا بـ"بطليموس الثاني" لشهرته وأهمية أعماله، وابن سينا (ت.1037)، والبيروني (ت.1048).
القمر للبيروني أطوار
هذه الصور من كتاب عبد الرحمن بن عمر الصوفي الرازي (ت.986)، الكواكب الثابتة (أي النجوم، لتمييزها من الكواكب التي كانت تعرف بالكواكب السيارة)، يقدم فيه تصوراً للكواكب التي تخيلها العرب القدماء، ويصف مواقع النجوم منها، ويصور كل منها في رسمتين: كما تبدو من الأرض وكذلك من السماء.
عرف العرب النجوم والكواكب في حياتهم اليومية، وربطوا بينها وبين حاجاتهم الأساسية في الحب والترحال، ومعرفة الوقت والفصول والرياح ومواسم المطر وغيرها، كما عرفوا علم الفلك، فطوروه منذ العصر الأموي، وترجموا كتبه التي وضعها اليونانيون، وشرحوها، ونقدوها، وأضافوا إليها الكثير من خلال تجاربهم العملية والعلمية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...