كان لتوتري الشديد سبب وجيه، حيث كنت خلال الفترة التي سبقت رؤيتي المفاجئة للبوهيمي، قد سمعت من أصدقاء "روزا" القدامى حكايات عن تدهور أحواله النفسية والعصبية في السنوات الأخيرة، ليصير أكثر عصبية وانفلاتاً، وأصبح من المألوف أن تجده يشخط فيمن يوقعه حظه العثر تحت يديه قائلاً له قولته المشهورة بالإنجليزية "جيف مي باوند"، ليرتبك المشخوط فيه ويعطيه الذي فيه النصيب ليسارع به لشراء زجاجة خمر رخيصة إن كان كافياً، أو يكرر شخطته في زبون آخر حتى يكتمل المبلغ اللازم لشراء زجاجة الروم ماركة أربعة وثمانين، مشروبه الكحولي الأثير الذي لحس دماغه، لدرجة أن عم عبد الراضي أصبح يقبض راتبه بالنيابة عنه مطلع كل شهر ويعطيه مصروفاً يومياً، لكيلا يصرف راتبه في يوم واحد على الخمرة، ويذل نفسه بالسؤال باقي الشهر، خاصة وأن حوادث احتكاكه ببعض المارة وهو سكران وقيام بعضهم بضربه قد تكررت مما سبب حرجاً وألماً لكل أصدقائه ومعارفه وبالطبع كان الحرج الأشد والألم الأعمق من نصيب أخيه الشاعر الكبير الذي كان يقول لكل من يبلغه بحوادث أخيه، إن كل محاولاته لإصلاحه فشلت ولم يعد أمامه إلا الصبر والاحتساب.
كانت قائمة المحتكين بمزاجه المتعكّر قد اتسعت مؤخراً لتضم نائب رئيس تحرير المجلة ورئيس تحريرها الفعلي الأستاذ عادل حمودة الذي كان يحسن دائماً معاملة البوهيمي، ويعرف كيف يأخذه على قد عقله، لكن بعض أولاد الحلال "وزّوه" وحرّضوه، فقرر التغليس على عادل حمودة خلال وجود ضيفة مهمة في مكتبه، فدخل عليه حاملاً "ربع إزازة أربعة وتمانين وربع جبنة رومي"، وقرر أن يشرب ويمزّ في مكتب عادل حمودة الذي لم يتقبل الأمر لتندلع بينهما مشادة خرج بعدها البوهيمي جارياً في طرقات المجلة هارباً من بطش عادل، وإن كان أولاد حلال آخرين قد صالحوهما على بعض ليعتذر البوهيمي ويتعهد بعدم اصطحاب مشروبات كحولية إلى المجلة.
وأصبح من المألوف أن تجده يشخط فيمن يوقعه حظه العثر تحت يديه قائلاً له قولته المشهورة بالإنجليزية "جيف مي باوند"، ليرتبك المشخوط فيه ويعطيه الذي فيه النصيب ليسارع به لشراء زجاجة خمر رخيصة
حين وقع البوهيمي في أزمة بعد فترة، وقف عادل حمودة إلى جواره متناسياً ما جرى، وتدخل لحل الأزمة التي كانت عبثية ككل ما له علاقة بصاحبنا الذي قرر خلال عودته إلى بلده في المنوفية أن يشتري جهاز كاسيت بالتقسيط من تاجر أجهزة كهربائية، وحين طالبه التاجر بالدفع، قلّ أدبه عليه فقرر أن يلقنه درساً قاسياً، وقام بتكليف ثلاثة محامين "ولاد لذين" بمهمة تأديبه، فقاموا برفع 12 قضية عليه في محافظات مختلفة، لتصدر في حقه أحكام غيابية متعددة بالحبس، ولأنه كان يدخل في أزمات كثيرة بسبب سكره وخناقاته مع البقالين الذين يستدين منهم ولا يرد، كان من المرجح أن يتم القبض عليه ويتم تنفيذ تلك الأحكام عليه.
ولأنك إذا أردت أن تُطاع فعليك أن تأمر بما يُستطاع، لم يطلب عادل حمودة من البوهيمي خلال صلحهما أن يتعهد بعدم المجيئ إلى المجلة سكراناً.
قام عادل حمودة بتكليف اثنين من كبار الصحفيين في المجلة بالسفر إلى المنوفية للتفاوض مع التاجر الذي استصدر الأحكام ضده، وإقناعه بعمل خاطر لمجلة (روز اليوسف) والتنازل عن الدعاوى القضائية، وذهب الصحفيان إلى المنوفية برفقة محامي كبير لإنقاذ البوهيمي، وأحسن التاجر استقبالهم ودعاهم إلى غداء يتجاوز ثمن الكاسيت بمراحل ليقول لهم إن مشكلته لم تكن الفلوس على الإطلاق، لكنه طلب منهم أن يراضوا المحامين الذين قاموا باستصدار الأحكام، ليضرب الصحفيان المنقذان أخماساً في أسداس، حيث كان ما يحملانه من النقود أقل من ألف جنيه، وحين سألا المحامين عن المبلغ الذي يطلبونه لقفل القضية وتسليم أصل الشيكات، فوجئا بأن المبلغ الذي طلبوه كان خمسة وسبعين جنيهاً، فقال أحدهما "للأسف معانا ستين جنيه بس"، ليقبل المحامون بالمبلغ الذي قضى على شبح الحبس الذي كان يطارد البوهيمي، ويتم الطعن على الأحكام ويحصل على براءة من كل القضايا المرفوعة ضده.
ولأنك إذا أردت أن تُطاع فعليك أن تأمر بما يُستطاع، لم يطلب عادل حمودة من البوهيمي خلال صلحهما أن يتعهد بعدم المجيئ إلى المجلة سكراناً، ولذلك حين حدثت بعد أشهر أزمة مع الإدارة قادها محرر فني قديم مطالباً بمنح الصحفيين علاوات مستحقة منذ سنين، وقرر بعض الصحفيين الاعتصام في مكتب رئيس مجلس الإدارة محمود التهامي، انضم البوهيمي إلى صفوف المعتصمين بوصفه من قدامى الصحفيين في المجلة، وحين جاء مكرم محمد أحمد رئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس تحرير مجلة المصور لزيارة المجلة ضمن زياراته للمؤسسات الصحفية كمرشح لمنصب نقيب الصحفيين، ترك البوهيمي مقر الاعتصام وقرر أن يقتحم القاعة التي يلتقي فيها مكرم محمد أحمد ومحمود التهامي مع صحفيي مجلتي (روز اليوسف) و (صباح الخير)، وكان سكراناً طينة كالعادة، وأخذ يصيح في وجه رئيس مجلس الإدارة "انت يا محمود يا تهامي مش عايز تديني العلاوة ليه، ده انت أصلا مصحح مش صحفي"، في إشارة إلى أن التهامي دخل إلى نقابة الصحفيين من بوابة العمل كمصحح وليس كصحفي، ولأن مكرم كان منوفياً وبلديات الشاعر الكبير وأخيه، فقد نابه من الحب جانب حين أخذ يناديه باسمه الكامل صائحاً فيه: "وانت يا مكرم محمد أحمد حَسَبو ـ اسم عائلته ـ بقى تتضامن مع المصحح ضد الصحفيين وعايز تبقى نقيب للصحفيين"، وبالطبع لم يكن أمام مكرم سوى أن يتعهد بحل أزمة العلاوات إذا تم انتخابه، ليهدئ ذلك من ثائرة البوهيمي الذي تعامل معه الجميع معاملة الأبطال في لحظة نادرة كان لسكره البيّن فائدة عمّت على الجميع.
لم يكن غريباً بعد كل هذه الحكايات التي سمعتها أن يصيبني التوتر من تلك الجيرة المفاجئة التي قضت على علاقتي الناشئة بالبلكونة، وإن كان بعض أصدقائي في (روزا) قد حاولوا التهوين من مشكلة جيرتي مع شقيق الشاعر الكبير، قائلين إنني يمكن أن أتقي شره بمنحه الذي فيه النصيب حين أراه
لم يكن غريباً بعد كل هذه الحكايات التي سمعتها أن يصيبني التوتر من تلك الجيرة المفاجئة التي قضت على علاقتي الناشئة بالبلكونة، وإن كان بعض أصدقائي في (روزا) قد حاولوا التهوين من مشكلة جيرتي مع شقيق الشاعر الكبير، قائلين إنني يمكن أن أتقي شره بمنحه الذي فيه النصيب حين أراه، وأنه سيكون لطيفاً معي عندها، وسيدعوني لزيارته في الشقة لأشرب معه كأساً، كان بعضهم قد قَبِل دعوته إلى الشقة التي امتلكها أخوه في الخمسينات خلال عمله في (روزا)، وتركها له حين تزوج وانتقل إلى مصر الجديدة، ويبدو أنه تركها لشقيقه دون عفش، لذلك لم يكن فيها حسب شهادة من دخلوها سوى سرير صغير ووابور جاز وراديو والكثير من الكتب التي تشي بثقافة رفيعة امتلكها الرجل الذي كان يقرأ بالإنجليزية، وكانت روايته المفضلة (لعبة الكريات الزجاجية) للأديب الألماني هيرمان هسّه، التي كان مزاجه يروق ويصفو حين يتحدث عن أبطالها وأحداثها، كما كان يتعكّر حين يسأله أحد ضيوفه عن سر عدم زواجه أو عن علاقته بأخيه أو عن ذكريات عمله في مجلة (روز اليوسف) التي كان أحد أبرز رجال قسم الديسك المختص بإعادة الصياغة ووضع العناوين فيها، وكان قد قدم إلى الكتابة من عالم القصة القصيرة التي كان أحد أبرز فرسانها الواعدين في الخمسينات، خلال عمله كسكرتير نيابة في دمنهور، لكنه هجرها فجأة بعد أن نشر عدداً من القصص الجميلة، واكتفى بالعمل في الديسك، ويقال إن علاقته بالكحوليات توطدت خلال عمله مع الكاتب الكبير صلاح حافظ الذي كان يمنحه كل أسبوع زجاجة خمر معتبرة مكافأة على عمله البارع في الديسك وترجماته البارعة، لكن جميع ندمائه الذين سألتهم عنه قالوا إنه يكون في أصفى حالاته حين يسكر في بيته، وأن الروح العدائية تتلبّسه فقط حين يسكر في الخمارات الرخيصة في وسط البلد، أو حين لا يجد ما يشتري به الخمر، واتفقوا على أنك حين تزوره في بيته وتنادمه، فإن أسوأ ما سيحدث لك هو أن يطلب منك ثمن الكؤوس التي شربتها معه بعد أن تنتهي القعدة، حتى لو كنت قد اشتريت خمرها على حسابك.
قالت إنه بسبب عدم حصوله على مؤهل جامعي، تم استدعاؤه إلى الجيش لتأدية الخدمة العسكرية في منتصف الستينيات، ليكون من حظه أن يشهد هزيمة الخامس من يونيو 1967، ويرجع ماشياً من سيناء إلى السويس وهو يمسك بسلاحه رافضاً رميه
خف الكثير من توتري بعد ما سمعته، بل وبدأت أفكر في قبول دعوته إن طلب مني زيارته، ممنياً نفسي بأنها ستستطيع بشطارتها وحسن تصرفها دفعه إلى الفضفضة في كل المناطق المحظورة على زائريه، وبعد أن التقيت بالحاجة سعاد رضا وحدثتها عن جيرتي المفاجئة له ومخاوفي التي قلت لكنها لم تتبدد تماماً، قالت لي ما لم يكن يعرفه إلا الذين رافقوه من البدايات، وحوّلت نفوري وقلقي منه إلى إشفاق شديد عليه وتعاطف جارف معه ورغبة في معرفته عن قرب بأي شكل، فبعد أن أكدت لي أنه كان موهوباً في كتابة القصة القصيرة وبارعاً في الترجمة وإعادة الصياغة، قالت إنه بسبب عدم حصوله على مؤهل جامعي، تم استدعاؤه إلى الجيش لتأدية الخدمة العسكرية في منتصف الستينيات، ليكون من حظه أن يشهد هزيمة الخامس من يونيو 1967، ويرجع ماشياً من سيناء إلى السويس وهو يمسك بسلاحه رافضاً رميه مثلما فعل العديد من زملائه الذين رموا أسلحتهم وخلعوا ملابسهم لكيلا يفتك بهم الإسرائيليون، ومنذ أن خاض تلك التجربة المريرة لم يرجع منها كما كان.
الغريب أنني حين كنت أخاف منه كنت ألاقيه أو أراه كلما سرت في شارع القصر العيني، أما حين أصبحت أتمنى لقائه وأسعى إليه، لم أره ولو مرة.
بعد أن تم تعيينه في قسم الديسك بالمجلة مراعاة لظروفه، ظل قادراً على تحجيم آثار إدمانه للخمور، ليراه الجميع دائماً أنيقاً ومهندماً وملتزماً بعمله على أكمل وجه، لكن ذلك تغير، حين تغيرت (روز اليوسف)، بعد أن قرر الرئيس أنور السادات تأديب العاملين بها، بعد معارضتهم العلنية لوصفه انتفاضة 18 و19 يناير 1977 بأنها "انتفاضة حرامية"، ليطيح بصلاح حافظ وفتحي غانم الذين اشتركا في رئاسة تحريرها، ويقرر أن يسند رئاسة مجلس إدارتها ورئاسة تحرير (روز اليوسف) إلى صديقيه مرسي الشافعي وعبد العزيز خميس، ويروى أنه قال مرة لعبد العزيز خميس إنه مبسوط منه جداً لأنه لم يعد يسمع شيئاً عن (روز اليوسف) لا بالطيب ولا بالبطّال، ومع تدهور أحوال المجلة التي ظلت لعقود أبرز المجلات السياسية في الشرق وأكثرها شغباً، تدهورت أحوال كل العاملين بها، فهجرها البعض مهاجرين خارج البلاد أو راحلين إلى مؤسسات أخرى، واختار البعض أن يربط الحمار مطرح ما يحبه صاحب الحمار، واختار البعض أن يصبح من رجال المرحلة أياً كانت شعارات المرحلة وأفكارها، أما "بطلنا" فقد وجد راحته في الخمر التي ظن مخطئاً أنه سيتمكن من السيطرة عليها وترويضها لتكون ونيساً دائماً له.
لكن ذلك تغير، حين تغيرت (روز اليوسف)، بعد أن قرر الرئيس أنور السادات تأديب العاملين بهابعد معارضتهم العلنية لوصفه انتفاضة 18 و19 يناير 1977 بأنها "انتفاضة حرامية"
الغريب أنني حين كنت أخاف منه كنت ألاقيه أو أراه كلما سرت في شارع القصر العيني، أما حين أصبحت أتمنى لقائه وأسعى إليه، لم أره ولو مرة، سواءً في البلكونة التي عدت إلى ملازمتها أو حول بيتي الجديد وبيته القديم أو في شارع القصر العيني ونواحيه، وحين سألت عنه ساعياً إلى لقائه لعلي أستطيع إقناعه بعمل حوار يحكي فيه قصته، اتضح أنه لم يتعرض لحادث أليم أو مرض عضال كما كنت أظن، بل اضطر لترك شقته والقاهرة بما فيها، وقرر العودة إلى بلدته بالمنوفية، ليس لأنه كره حياته المؤسفة في القاهرة وقرر استبدالها بحياة أصح وأفضل، بل لأن أخاه زاره ذات يوم وطلب منه أن يقوم بإخلاء شقته في أقرب فرصة، لأنه بعد أن تركها له لأكثر من عقدين من الزمان، قرر أن يقوم بمنحها لابنه الذي أصبح على وشّ جواز، وهو ما اعتبره البعض رغبة في الخلاص من مشاكل أخيه التي تضاعفت واستفحلت وأصبحت تهدد فرص مجيئ الأخ الأكبر كوزير للثقافة، في حين رآه البعض رغبة صادقة في دفع أخيه إلى تغيير حياته والعيش في بيئة محاطة بالأقارب الذين يمكن أن يساعدوه على تحجيم إدمانه وطيشه، وأنه لو لم يكن يحب أخاه لما صبر عليه كل هذه السنين، وأشار بعضهم إلى قصيدة بديعة غير مشهورة كتبها عنه بعد رجوعه المأساوي من سيناء، متفائلين بقدرة الإقامة في مدينة ريفية صغيرة على تغيير حياة صاحبهم الذي يحبونه ويتمنون له الخير، لكن ذلك التفاؤل لم يدم، لأن بطلنا لم يتحمل طول الإقامة بعيداً عن القاهرة وحياته الصاخبة فيها، ومات في صمت، لكن ذكراه ظلت حاضرة في ذهني كلما صادفت من يتعافى على الدنيا وتغرّه قوته فيتصور أنه قادر على حل ألغازها والإفلات الدائم من خوازيقها.
ألف رحمة ونور عليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...