الانطباع الذي كوّنته بعد تعرفي عليها أنها امرأة ذكية تعرف ما تريد وتدرك أنها ستحققه بأي شكل، لكن لا أنا ولا هي ولا كل من عرفوها كان يتصور أن ما أرادته وسعت لتحقيقه سيفضي بها إلى أن تُذبح من الوريد إلى الوريد.
الانطباع الذي كوّنته بعد تعرفي عليها أنها امرأة ذكية تعرف ما تريد وتدرك أنها ستحققه بأي شكل، لكن لا أنا ولا هي ولا كل من عرفوها كان يتصور أن ما أرادته وسعت لتحقيقه سيفضي بها إلى أن تُذبح من الوريد إلى الوريد.
حين أخبرني منتج فيلمي أنه يرغب في ترشيحها لدور البطولة، كنت أسمع اسمها لأول مرة، ولم أكن ملوماً في جهلي بها، فقد كنا في أيام مطلع الألفية التي تظهر فيها مغنية أو بمعنى أصح متراقصة كل ثلاث ساعات، ولأن شفيع الحيارى (غوغل) وولده يوتيوب لم يكونا متاحين وقتها لكي أستنجد بهما وأعرف عنها شيئاً قبل لقائها، فقد ذهبت إلى مكتب المنتج لألتقي بها وكل ما أعرفه عنها طبقاً لكلامه أنها "لبنانية فاتنة الجمال وصوتها يجنن"، وسرعان ما اتضح بعد لقائها أنها لبنانية عادية الجمال ولطيفة الصوت، وبدا لي أن وراء ترشيحها للدور "إنّ"، خصوصاً أن ملامح وجهها كانت أكبر من أن تكون لطالبة في السنة الجامعية الأولى، وهو الدور الذي يفترض أن تلعبه في الفيلم.
حين قلت ذلك للمنتج بعد أن طلب رأيي فيها بصراحة، قال إننا يمكن أن نشير في السيناريو إلى أنها سقطت أكثر من مرة خلال سنين دراستها، وهو ما سيكون مناسباً لشخصية الفتاة العابثة التي يفترض أن تؤديها، وهو ما أدى إلى تأكدي من وجود "الإنّ" التي هبطت بها على الفيلم من حيث لا نحتسب، خاصة وقد سبق لنا استبعاد عدد من النجمات المعروفات من الترشيح لأنهن غير مناسبات لسن الطالبة الجامعية.
لكنني في الوقت نفسه لم أكن متأكداً من طبيعة تلك "الإنّ"، لأنني استبعدت أن يكون المنتج راغباً في مجاملتها لأسباب عاطفية أو سُفلية، ليس فقط لأنه كان مثل حالاتي يؤمن بأهمية الابتعاد عن العطّ والنطّ في مكان أكل العيش، بل لأنه كان أيضاً يخضع لرقابة لصيقة من زوجته التي كانت قد أعلنت ابتعادها عن التمثيل لفترة بعد إنجاب طفل جديد، ومع ذلك فقد كانت حريصة على عمل زيارات تفقدية مفاجئة لمكتب الإنتاج، بل وكانت من أوائل الحاضرين لحفل التعارف الضيق الذي دعانا إليه زوجها، لكي نتعرف على اكتشافه الفني الذي عشّمنا أنه سيحل مشكلة الدور الذي تأخر تسكينه.
حين قلت ذلك للمنتج بعد أن طلب رأيي فيها بصراحة، قال إننا يمكن أن نشير في السيناريو إلى أنها سقطت أكثر من مرة خلال سنين دراستها، وهو ما سيكون مناسباً لشخصية الفتاة العابثة التي يفترض أن تؤديها، وهو ما أدى إلى تأكدي من وجود "الإنّ" التي هبطت بها على الفيلم من حيث لا نحتسب
يومها كان يفترض بالنجمة الصاعدة أن تغني وتبهرنا بأدائها، لكنها تحجّجت كعادة المطربين بأن عندها "دور برد وصوتها مش طالع"، وحين قام المنتج بتشغيل سي دي يتضمن أحدث أغانيها، وبانت محدودية قدرات صوتها حتى وهو طالع، فرأيت ملامح خيبة الأمل على وجوه أغلب أبطال الفيلم وصُنّاعه، حمدت الله لأنني لن أكون مضطراً لتعديل السيناريو لتكون فيه مساحات للغناء تستغل ما قال المنتج إنه قدرات صوتية خارقة، وسرعان ما أدركت أن مشكلتنا معها أكبر بكثير، خصوصاً حين بدأت في الهزار بأريحية كاملة مع أغلب الحاضرين، وبعضهم من الكوميديانات المتمرسين، ليتضح أن مشكلة محدودية صوتها تتضاءل إلى جوار انعدام حضورها، والمشكلتان تتضاءلان إلى جوار عدم إتقانها الكامل للهجة المصرية.
كانت الملاحظة الأخيرة أبرز من أن يتم تجاهلها، ولذلك تطوع المنتج في نفس الجلسة لاقتراح أن يتم عمل تعديلات على شخصيتها في السيناريو لتصبح لطالبة لبنانية تدرس في مصر، فانشغل الجميع بالتفرس في ملامح زوجته لمعرفة رد فعلها على هذا الاحتفاء المبالغ فيه لمن لم يظهر أن لديها كرامات تستحق تضييع الوقت، وبدا لي أن الزوجة مشغولة بالتفرّس في مفاتن النجمة لتقييم مدى خطورتها، وحين أعطتها في داخلها تقييماً منخفضاً، قررت استغلال وقت الجلسة في الضحك والهزار مع أصدقائها الذين لم تكن قد رأت بعضهم منذ فترة، وانتهت الجلسة على وعد بتكرارها في القريب العاجل الذي ظننت أنه لن يأتي.
على عكس ما توقعت، اتضح أن المنتج مصمم على المضي قدماً في إسناد دور البطولة إلى الصاعدة غير الواعدة، وحين ارتفعت أصوات اعتراضي أنا والمخرج والبطل على ذلك، بدأ يقول لنا بجدية إن لديه ضرورات إنتاجية تستوجب الاستعانة بها، وحين طالبناه بأن يكون صريحاً ويجيب من الآخر لنفهم الموضوع، قال إن هناك رغبة تقترب من أن تكون شرطاً من الموزع الخارجي بالاستعانة بها، لأنها قامت بتوقيع عقد مع شركة خليجية كبرى كانت وقتها قد استقطبت أهم الأصوات الغنائية في العالم العربي، وبالتالي لا يمكن لها أن تراهن على حصان خاسر، وأن الشركة التي يقف وراءها أمير سعودي شهير ستضع إمكانياتها الضخمة في خدمة صوت وصورة اللبنانية الصاعدة وهو ما سيستفيد منه فيلمنا في ظل المنافسة الشرسة التي كانت تسود سوق السينما وقتها، وأنه يرغب في تقوية تعاونه مع الشركة التي كانت على وشك دخول عالم الإنتاج السينمائي والقنوات التلفزيونية المتخصصة في عرض الأفلام.
لمس المنتج توترنا وتجهمنا، فقرر أن يطمئننا على أن مستوى الفيلم لن يتأثر، وطلب منّا أن نمنحها فرصة لقراءة السيناريو والتدريب على أداء الدور، واعداً أنه سيقوم بتغييرها إذا لم تقنعنا بأدائها، خصوصاً أنها بدأت في أخذ دروس للتمثيل وأداء اللهجة المصرية على يد متخصصين، مؤكداً أنه لن يضر نفسه وفيلمه لكي يجامل أحداً أياً كان
لمس المنتج توترنا وتجهمنا، فقرر أن يطمئننا على أن مستوى الفيلم لن يتأثر، وطلب منّا أن نمنحها فرصة لقراءة السيناريو والتدريب على أداء الدور، واعداً أنه سيقوم بتغييرها إذا لم تقنعنا بأدائها، خصوصاً أنها بدأت في أخذ دروس للتمثيل وأداء اللهجة المصرية على يد متخصصين، مؤكداً أنه لن يضر نفسه وفيلمه لكي يجامل أحداً أياً كان، طالباً مني ومن المخرج أن نجلس مع الصاعدة بشكل مكثف في الأيام القادمة للحديث معها باستفاضة عن الفيلم ودورها فيه والإجابة على أسئلة قال إنها طرحتها عليه ووجد فيها وجاهة.
حين لمس منّا بعض الزمزقة والامتعاض، قال المنتج إن الجلسة الأولى التي جمعتنا بها لم تكن إيجابية الأثر، لأنها انعقدت في مكتبه، ولذلك جاءت رسمية باردة بغير ما كان يأمل، وطلب منا حضور الجلسة التالية التي ستكون أقل رسمية وأكثر وداً، واختار لها أن تكون في كابينة تطل على حمام السباحة في فندق النيل هيلتون الذي كنا نلتقي فيه من حين لآخر، وطلب منا أن نحضر عائلاتنا بعد أيام إلى عشاء عمل ودود ستكون النجمة الصاعدة ضيفة شرفه، وسيتاح لنا حينها أن نراها على سجيّتها ونغير انطباعنا البارد عنها.
للأمانة، بذلت الصاعدة جهداً كبيراً في تلك الليلة لتسخين انطباعنا البارد عنها، بحرصها على توزيع الضحكات والملاطفات والمداعبات المبالغ فيها على كل الذين حضروا السهرة من طاقم الفيلم، لتندلع مشكلة بين أحد الحاضرين وزوجته التي لم يعجبها أن تريح الصاعدة يدها على فخذه بعد أن ضحكا سوياً على نكتة قالها، ومع أنه حاول إقناع زوجته التي بادرت للانصراف غاضبة بأن الموضوع عادي ولا داعي لتكبيره، إلا أنها لم تقتنع واضطر للحاق بها، لكي ينقذ زواجه الذي لم يكن قد أكمل عدة أشهر.
احتاج الأمر إلى تدخل من الذكور الحاضرين في اليوم التالي لكي تتأكد الزوجة المقموصة أن فخذ وأكتاف زوجها لم تكن مستهدفة لذاتها، وأن يد الصاعدة التي تحولت من ودود إلى لعوب طافت على أفخاذهم وأكتافهم جميعاً، وأن انهمارها بالقبلات وإطالتها للأحضان عند القدوم والوداع لم يكن وراءه أي نية وِحشة، بل مرتبط بتربية منفتحة ينبغي على عقلاء "المحافظين" التسامح معه، وهو ما اضطرت الزوجة للاقتناع به من باب التسامح مع البلوى التي تعمّ والحفاظ على بيت حديث الإنشاء من الخراب، وبالطبع لم يكن من الحكمة بعد كل ما جرى لزميلنا المسكين أن أقول لزوجتي إن الصاعدة الواعدة طلبت مني في حضور المنتج أن أزورها في بيتها بعد يومين لكي نتحدث "على راحتنا أكثر" عن دورها المنتظر في الفيلم الذي قال المنتج إنه أصبح أمانة في رقبتي الآن.
...
نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...