الشيعة في درعا جنوب سوريا، معروفون محلياً باسم "المتاولة"، أو باللغة العربية "المتأوّلة"، وهو لقب أُطلق على شيعة جبل عامل وجبل لبنان وبعلبك، في لبنان، ويذكر السيد محسن الأمين، في كتابه "خطط جبل عامل"، أن اللقب مشتقّ من "مُت ولياً لعلي"، أو من "التولّي لعلي"، وهم من الشيعة الإمامية، وهؤلاء لهم مرجعيات دينية عربية، وليست إيرانيةً.
على مدى عقود، عاش شيعة درعا إلى جانب بقية مكونات المحافظة الدينية والمذهبية، من مسلمين سنّة ومسيحيين، إذ تُعرف درعا كما بقية المدن السورية بتعدديتها، وحتى سنوات قريبة كانوا يؤدون "الصلاة" جنباً إلى جنب في مساجد السنّة، وحتى بعد بناء حسينيات عدة في المحافظة لا يزال منهم من يصلّي في المساجد السنّية إلى اليوم.
وبالرغم من وجود روايات ودراسات "محدودة" عن تاريخ وجود الشيعة في درعا، إلا أنه لا يُعرف على وجه الدقة متى قدِموا إلى المحافظة، ولكن في إحدى الروايات التي تكاد تكون متقاطعةً في معلوماتها، فإنهم قدِموا في نهايات القرن التاسع عشر من لبنان، واستقرّوا في مدن وبلدات عدة في المحافظة، أبرزها بصرى الشام والشيخ مسكين والمليحة الغربية ومدينة درعا وطفس والمزيريب وقرفا، حيث استطاعوا الاندماج مع الأهالي، وتكونت علاقات وطيدة بينهم، لتزول فكرة أنهم قدِموا من مكان آخر في ما بعد، بحسب دراسة لمركز "حرمون للدراسات" حول الشيعة في سوريا.
وإحدى الروايات التي نُقلت حرفياً عن إحدى العائلات التي سكنت بلدة المزيريب في ريف درعا الغربي، إلى رصيف22، تقول إنهم قدِموا في أثناء التنقلات التي شهدتها الفترة ما بين نهايات الحكم العثماني وبداية الانتداب الفرنسي، حين جاءت إلى البلدة عائلات عدة لا تزال موجودةً فيها حتى اليوم، من بينها "الغبشة، ونصر الله، وسلامة، وملكة".
قدِم الشيعة إلى درعا في أثناء التنقلات التي شهدتها الفترة ما بين نهايات الحكم العثماني وبداية الانتداب الفرنسي
وبحسب الرواية، عملت هذه العائلات في صناعة الخبز بشكل بدائي، أي ما يُعرف بخبز "التنور" وبيعه للأهالي وللجنود الفرنسيين، وبعد ذلك انتقلوا إلى العمل في التجارة المحلية في الوقت الذي لم يكن أحد يعمل فيه في هذا المجال، ما مكّنهم من الاستقرار بين الأهالي ثم تطورت العلاقات بينهم إلى نسب ومصاهرة.
جمعية المرتضى وبدايات الانقسام
بحسب كتاب المفكر الفرنسي ميشيل سورا، "سوريا الدولة المتوحشة"، في العام 1980، وبعد سيطرة ثورة الخميني على إيران وتصاعد عملها وفق فكرة الخميني حول "تصدير الثورة" إلى دول الجوار الإيراني، سرعان ما تشكلت في سوريا في العام 1981 "جمعية المرتضى"، برئاسة جميل الأسد، شقيق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، والذي أطلق على نفسه لقباً دينياً وهو "الإمام المرتضى"، وعُدّت هذه الجمعية أول جمعية لنشر التشيّع وفق فكر ثورة الخميني.
ومنذ تشكيل الجمعية، سعى جميل الأسد إلى فتح فروع لها في المحافظات السورية، وقام بالتركيز على العائلات والعشائر الكبرى في درعا ومنطقة الجزيرة السورية والقامشلي، بالإضافة إلى نشاطها في الساحل السوري، ومنذ ذلك الوقت بدأت الجمعية من خلال فروعها بالبحث عن العائلات ذات الأصول الشيعية والعمل على إعادتها إلى أصلها المذهبي.
وعلى الرغم من دعوات "جمعية المرتضى"، إلا أن قسماً كبيراً من الشيعة من أبناء درعا لم يتأثروا بها وبقوا على تبعيتهم مرتبطين بالمرجعيات العربية وخاصةً في لبنان، حيث التيار الذي كان يقوده الراحل محمد حسين فضل الله، الذي عُرف بقربه من المسلمين السنّة ورفضه لاحقاً لكل أشكال التطرف المذهبي بين المسلمين.
الاندماج الذي حصل مع بدايات وصول الشيعة إلى درعا، وما بعد ذلك، لا يزال مستمراً في أشكال متعددة حتى اليوم، وبعد مرور سنوات على افتتاح عدد من الحسينيات، أبرزها حسينية مدينة درعا "حسينية المطار" التي افتتحها في حينه محمد حسين فضل الله، ولا يزال معظمهم يؤدون عباداتهم في مساجد المدن والبلدات التي يعيشون فيها.
بين غزوين
كان لحرب الخليج الثانية، التي تلت غزو العراق للكويت، ثم الحصار الدولي على العراق، دور مهم في دفع آلاف العراقيين من الشيعة والسنّة إلى سوريا، حيث توزعوا على مختلف المحافظات، وكان لدرعا نصيب مهم منهم. ومع بدء وصولهم كانوا يعملون في التجارة بشكل محدود من خلال بضائع يعرضونها فوق سياراتهم، ثم ما لبثوا أن افتتحوا سوقاً خاصاً بهم عُرف بسوق "العراقيين"، وسط ترحيب كبير من أبناء المحافظة، وحتى تلك الفترة لم تبرز أي مظاهر تتعلق بالدين أو المذهب.
بعد عام 2003، بدأت الأمور بالتغير، إذ ازداد النفوذ الإيراني في العراق وسوريا، وبدأت الدعوات إلى التشيع، القادمة من العباءة الخامنئية، رافقها المال الإيراني الذي كان له أثر في ما بعد في الانقسام الذي حدث بين شيعة درعا أنفسهم
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، بدأت الأمور بالتغير، إذ ازداد النفوذ الإيراني في العراق وسوريا، وبدأت الدعوات إلى التشيع، القادمة من العباءة الخامنئية، تصير علنيةً أكثر من أي وقت مضى، رافقها المال الإيراني الذي كان له أثر في ما بعد في الانقسام الذي حدث بين شيعة درعا أنفسهم.
في تلك الفترة، كان لقدوم الدعاة الشيعة العراقيين دور في حرف تبعية قسم من الشيعة من المرجعيات العربية إلى المرجعيات الإيرانية، أو ما يصطلح على تسميتها مرجعيات "قُم"، فكان أبرز الدعاة الذين عملوا في درعا "أبو جعفر العراقي"، الذي قدِم إلى المحافظة قبل سقوط بغداد في 2003، وكان من خطباء الشيعة المتميزين في حسينية "المطار" في مدينة درعا.
استهدف أبو جعفر في دعواته فئات محددةً على رأسها الأغنياء والأكاديميين، وعمل على تسيير رحلات مجانية إلى إيران، ودعم الفقراء والطلاب، ولكنه عاد إلى العراق بعد سقوط بغداد، ليخلفه كاظم التميمي، الذي كان نشاطه أقل على مستوى مدينة درعا، ولكنه أوسع في ريفها، خاصةً من خلال بناء علاقات بشكل شعبي، إذ كان يزور معظم مجالس العزاء برفقة متشيعين نافذين من أبناء المحافظة، بالإضافة إلى إحياء العديد من المناسبات والولائم وغيرها.
التغلغل الإيراني
بدأت المحاولات الإيرانية الفعلية للتغلغل في محافظة درعا، منذ بداية الثورة السورية، باتّباع وسيلتين، الأولى تحريك قسم من شيعة درعا عسكرياً، وهم شيعة بصرى الشام الذين وقفوا منذ البداية ضد أبناء مدينتهم، بالإضافة إلى أفراد آخرين من مناطق مختلفة من المحافظة، معظمهم تشيّعوا بعد العام 2011، وشكّلوا مجموعات مقاتلةً مرتبطةً بحزب الله والحرس الثوري الإيراني.
أما الوسيلة الثانية، فكانت قد سبقت العام 2011، من خلال الدعوة إلى التشيع، عن طريق بعض رجال الدين ومنهم محليون من أبناء المحافظة، بالإضافة إلى توزيع مكتبات كاملة تحتوي على مجموعة من الكتب التي ألّفها أبرز علماء الدين الشيعة، وهذه المكتبات كانت توزع الكتب مجاناً من قبل المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق.
لكن، على الرغم من هذه المحاولات، إلا أنها لم تكن كافيةً، فالدعوات إلى التشيع كانت في حاجة إلى مركز وثقل في المحافظة نفسها، ومن قبل شخصية محلية قادرة على قيادة الدعوة من جهة، ومحمية أمنياً من جهة ثانية، لتجد إيران ضالتها في زيدان الغزالي، الذي أصبح لاحقاً أبرز شخصية دعوية وأمنية تابعة لإيران في درعا.
الدعوات إلى التشيع كانت في حاجة إلى مركز وثقل في المحافظة نفسها، ومن قبل شخصية محلية لها وزنها ومحمية أمنياً، لتجد إيران ضالتها في زيدان الغزالي شقيق رستم غزالي، الذي أصبح لاحقاً أبرز شخصية دعوية وأمنية تابعة لإيران في درعا
قبل غزو العراق بسنوات، كان زيدان الغزالي، من بلدة قرفا في ريف درعا الشمالي، وهو ابن عم اللواء رستم الغزالي الذي حكم لبنان أمنياً خلال السنوات الأخيرة للتواجد العسكري السوري في لبنان، قد بدأ برحلة تحوّله إلى واحد من أهم رجال إيران في الجنوب السوري.
عُرف عن الغزالي انتماؤه خلال دراسته الفلسفة في جامعة دمشق، بميوله، إلى حركة الإخوان المسلمين، التي أصبح عضواً فيها في نهاية سبعينيات القرن الماضي، ولكن مع بدء نشاط جمعية المرتضى عام 1981، التحق زيدان بها ليسافر بعد ذلك إلى إيران حيث بقي فيها سنوات عدة وعاد في العام 1997، بدعم إيراني ديني ومالي كبيرين، ليغدو رجل إيران الأول في الجنوب، بالإضافة إلى الدعم الأمني الذي أمّنه له رستم الغزالي، واستمر بعد مقتله.
وفي مرحلة نشاط الغزالي، بدأ التشيع في درعا يأخذ اتجاهاً آخر، وتم جذب عدد من أبناء المحافظة، خاصةً في بصرى الشام، ليبدأ عددهم بالتنامي، وهنا يُلاحَظ أمر فارق، وهو التوجه نحو المرجعية الإيرانية فقط من قبل عدد كبير من شيعة درعا والمتشيعين فيها، ليبقى قسم منهم تابعاً للمرجعيات العربية في لبنان، وهؤلاء بعد اندلاع الثورة السورية منهم من وقف على الحياد وغادر إلى لبنان ودول أخرى بعد محاولة استهدافهم من النظام ومن المتطرفين الإسلاميين، ومن داعش والنصرة آنذاك، الذين بدأوا بالظهور لتوريطهم في نزاع طائفي، وهؤلاء بدأوا بالعودة إلى منازلهم بعد تسوية العام 2018، ومنهم من وقف إلى جانب المعارضة، حتى المسلحة منها، في وجه النظام والميليشيات الإيرانية لقناعتهم بأن الأرض لها أولوية تفوق الدين والمذهب.
الشيعة بعد الثورة
شكلت الثورة السورية مرحلة انعطاف مهمةً بالنسبة إلى الشيعة في درعا، إذ برز تخوف لدى معظمهم في البداية من أن تكون هناك مواجهة مع الثائرين في وجه نظام الأسد، الذي دعمته كل من إيران وحزب الله "الشيعيين" منذ البداية.
الوضع الجديد أدى إلى انقسام غير متوقع بينهم، فانقسموا إلى ثلاثة أقسام؛ القسم الأول انقلب على الأهالي والتحق بالنظام ولاحقاً بحزب الله والحرس الثوري، والثاني أخذ موقف الحياد ولاحقاً غادر معظمهم المحافظة إثر جريمة طالت أبرز شخصياتهم، والثالث التحق بالثورة منذ بدايتها في المظاهرات، ثم بفصائل المعارضة المسلحة.
لم تمضِ أشهر قليلة على اندلاع الثورة في آذار/ مارس 2011، حتى بدأت الأحداث تتغير في بصرى الشام شرق درعا، وذلك بشكل مختلف عن بقية مناطق المحافظة، إذ بدأ الانقسام الطائفي يظهر بوضوح بين الأهالي ليقسمهم إلى طرفين.
شكلت الثورة السورية مرحلة انعطاف مهمةً بالنسبة إلى الشيعة في درعا، إذ برز تخوف لدى معظمهم في البداية مما سيطالهم نتيجة ما يحصل
يقول أبو أحمد المقداد (اسم مستعار)، وهو أكاديمي من بصرى الشام، لرصيف22، إن "تاريخ الشيعة في بصرى الشام يعود إلى بدايات القرن العشرين حين وصل إلى بصرى الشام عدد من العائلات الشيعية، قادمين من لبنان، بالإضافة إلى عائلات أخرى توزعت في مدن وبلدات أخرى من المحافظة، وبعد استقرارهم في المدينة جمعتهم بالسكان الأصليين علاقات نسب وتآلف لسنوات طويلة، وكان عددهم حتى نهاية العام 2010، يبلغ نحو 3،000 شخص، استمرت حتى انطلاق الثورة السورية، حين بدأت الاعتداءات من قبل هذه العائلات على العائلات السنّية".
ومع بدء الثورة، انقلب الشيعة ضد الأهالي في بصرى الشام، ووقفوا بشكل علني إلى جانب النظام، وخلال أشهر تم تشكيل أول ميليشيا خاصة بهم بدعم من حزب الله اللبناني، وبرز عدد من الأشخاص منهم من كانوا منتسبين في الأصل إلى حزب الله ويعملون في تهريب المخدرات، كما انتسب بعضهم إلى ميليشيا الـ"313" التابعة للحرس الثوري الإيراني، وقد درّب عناصرها حزب الله، وأُطلق عليها لاحقاً اسم قوات "العرين"، واستطاعت السيطرة لسنوات على جزء من المدينة من ضمنه القلعة الأثرية.
وبحسب معلومات حصل عليها رصيف22، يُعدّ اللواء 313، أو ما سُمي لاحقاً بـ"قوات العرين"، من أبرز التشكيلات المرتبطة بإيران وحزب الله في جنوب سوريا، وقد تأسس هذا اللواء في العام 2013، من قبل ماجد فياض، المتحدر من بصرى الشام، بأوامر وتمويل من حزب الله اللبناني مباشرةً، وكانت مهمته اعتقال وقتل كل من له صلة بالثورة من أبناء بصرى الشام.
بعد مقتل فياض، في منتصف العام 2014، تولى محمود الكاظم "أبو خضر" قيادة اللواء، وكان عدد مقاتليه آنذاك نحو 75 عنصراً، وجاء اسم "313" الذي أُطلق على اللواء، من عدد أصحاب الإمام المهدي المنتظر، بحسب الأدبيات الموجودة في كتب الطائفة الشيعية.
وفي المعركة التي خاضتها قوات المعارضة لاستعادة السيطرة على بصرى الشام عام 2015، قُتل قائد اللواء "أبو خضر" وعدد من عناصره، لينتشر من تبقّى من العناصر في مناطق مختلفة حتى أُعيد تشكيل اللواء لاحقاً، بقيادة من خارج بصرى الشام، ولا يزال ضمن قوامه عدد كبير من شيعة المدينة.
تشتت شيعة بصرى الشام
في العام 2015، شنّت قوات المعارضة السورية هجوماً واسع النطاق على المدينة، أُطلق عليها اسم "القادسية"، تيمّناً بمعركة القادسية ضد الفرس في العام 636 ميلادي، كما أوضح أبو أحمد المقداد، وعُدّت من أهم المعارك التي خاضتها المعارضة في محافظة درعا، إذ كانت المدينة أكبر تجمع للإيرانيين وحزب الله في ذلك الوقت.
وبعد معركة استمرت أياماً عدة، استطاعت المعارضة السيطرة على كامل المدينة، ما أدى إلى هروب المقاتلين الشيعة مع عائلاتهم إلى السويداء، ثم إلى مناطق في دمشق أهمها السيدة زينب وجرمانا، ليتطوع قسم منهم في صفوف حزب الله وقوات العرين.
كنت أفضّل الموت على ترك بيتي الذي بنيته حجراً فوق حجر. درعا وطني الصغير ولا أتخيل العيش بعيداً عنها، كما لا أتخيل أن يأتي شخص آخر ويتملك بيتي، وقد رفضت حتى العيش في محافظة أخرى
المعركة حسب معلومات خاصة، شكلت صدمةً كبيرةً للحرس الثوري وحزب الله اللبناني، إذ تعرضوا لهزيمة سريعة وغير متوقعة على الرغم من الدعم الكبير الذي قُدِّم لهم.
وبعد عملية التسوية في تموز/ يوليو 2018، أُعيد فتح ملف الشيعة من بصرى الشام من أجل إعادتهم إلى المدينة، وجرت اجتماعات عدة بين وجهاء من المدينة وبين اللجان الأمنية التابعة للنظام، إلا أن أهالي المدينة ووجهاءها وبدعم من اللواء الثامن رفضوا عودتهم إلى المدينة بشكل قاطع.
بين من بقي ومن هاجر
في مدينة درعا وفي ريف درعا الغربي، يعيش عدد من العائلات الشيعية التي تتحدر في أصولها من لبنان أيضاً، ولطالما كانت على وفاق تام مع أهالي المنطقة، ومع بدء المظاهرات في 2011، اتخذ قسم من الشيعة في هذه المنطقة موقفاً حيادياً نظراً إلى الحساسية التي يمكن أن يشكلها وقوفهم مع طرف ضد الآخر، إلا أنهم في حقيقة الأمر لم يكونوا ضد الثوار السوريين.
إلا أن جريمة قتل محمد حسن نصر الله، والتي وقعت في العام 2013، أدت إلى نوع من الانقسام دفع بقسم منهم للخروج من المنطقة إلى لبنان ودمشق ومدينة درعا وحتى إلى دول أوروبية، فيما بقي قسم آخر في المنطقة رافضاً الخروج.
ونصر الله والدته نايفة من مواليد بلدة المزيريب عام 1947، عمل مدرساً للّغة العربية في مدارس عدة في محافظة درعا، ومديراً لثانوية بلدة المزيريب لسنوات عدة أيضاً، وهو من الشخصيات القريبة من أهالي بلدته والمحافظة.
في يوم الجمعة 14 شباط/ فبراير 2014، اختُطف نصر الله، من أمام بقالة يملكها، من قبل ثلاثة أشخاص ملثمين كانوا يستقلون سيارة أجرة صفراء من نوع سابا، وفي اليوم التالي اتصل أحد الخاطفين بذويه، ليخبرهم بأنه مختطف لديهم ومن أجل الإفراج عنه يجب أن يُدفع مبلغ 5 ملايين ليرة سورية.
استمرت عملية الاختطاف نحو 20 يوماً، رفض خلالها ذوو نصر الله دفع الفدية لاعتقادهم بأنها لن تفضي إلى أي أذى له، ولكن وُجدت لاحقاً جثة نصر الله وتبيّن أنه تعرض لتعذيب شديد قبل أن يتم قتله.
يقول جواد، وهو شاب شيعي من أبناء ريف درعا الغربي، لرصيف22، إنه خلال عودته من مجلس عزاء لمحمد نصر الله، تعرض لمحاولة اختطاف من قبل مجموعة تستقلّ سيارةً تشبه في مواصفاتها تلك التي استُخدمت في اختطاف نصر الله، إلا أنه نجا منها.
انخرطت مع عدد من أبناء العائلات الشيعية، في المظاهرات منذ بدايتها وتم اعتقالي مع شقيقي لأكثر من شهرين من قبل الأمن العسكري والأمن السياسي، وتعرضنا للتعذيب والإهانة وانضميت لاحقاً إلى الجيش الحر
هذه الحادثة أدت إلى مغادرة نحو 3 عائلات من الريف الغربي إلى لبنان ودمشق، منهم من وصل إلى أوروبا، خوفاً من أي عمليات مماثلة، وبعد عملية التسوية عاد قسم منهم لزيارة منازلهم ولكن لم يستقر معظمهم فيها حتى الآن.
وعلى الجانب الآخر، بقي عدد من العائلات في المنطقة، رافضين المغادرة حتى إلى محافظات أخرى، واستمروا في ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، وبحماية من فصائل المعارضة.
رفض المغادرة
علي حسين، شيعي من ريف درعا الغربي، يعمل مُدرّساً، يروي لرصيف22، رفضه وعائلته مغادرة البلدة التي يقطنها، قائلاً: "كنت أفضّل الموت على ترك بيتي الذي بنيته حجراً فوق حجر. درعا وطني الصغير ولا أتخيل العيش بعيداً عنها، كما لا أتخيل أن يأتي شخص آخر ويتملك بيتي، وقد رفضت حتى العيش في محافظة أخرى، وأنا على قناعة بأن ما يجري في سوريا خطأ كبير، سوريا وطننا جميعاً ولا يمكن أن نبدّلها بأي وطن آخر".
وحول تعرضهم لضغوط، تحدث علي، عن دعوات غير مباشرة من قبل النظام للانضمام إلى صفوفه، أو على الأقل لتشويه المعارضة ولو بالكلام، مضيفاً: "لقد كان جوابنا الرفض مهما كانت النتائج، لأنه بحسب قناعتنا فإننا في البلدة جميعاً أهل وأقارب وجميعنا مسلمون وسوريون، وحتى من الناحية الشرعية لا يجوز أن يحارب بعضنا بعضنا الآخر".
كما بيّن علي، أنهم لم يتعرضوا لأي تهديدات أو ضغوط من أي نوع من فصائل المعارضة المسلحة، قائلاً: "معظم قياديي وعناصر المعارضة هم من أصدقائنا وكانوا دائماً من أشد المدافعين عنا، خاصةً في وجه الإسلاميين (المتطرفين)، الذين هددونا بشكل مباشر وحاولوا أكثر من مرة إخراجنا من بيوتنا، ولكن أصدقاءنا من الفصائل كانوا دائماً يقفون في وجهمم ويدافعون عنا، وفي مقابل ذلك لم تصدر عنا أي إساءة لهم في أي يوم وكنا دوماً على الحياد وهم يعرفون ذلك، ولكن كانت هناك أطراف، من بينها المتطرفون، يريدون تصيد أي خطأ من أي طرف لإشعال الفتنة بيننا، لكنهم لم ينجحوا".
لم تقتصر فئات الشيعة في درعا على من وقف في صف النظام والميليشيات الإيرانية، أو من بقي على الحياد، فهناك فئة منهم تبنّت الثورة ضد النظام
ويروي علي، كيف اشتعلت الفتنة في مناطق أخرى من درعا وفي محافظات أخرى، شملت حتى الأصدقاء من المذهبين، وذلك بسبب المغريات المادية في بعض المناطق، ونتيجةً لبعض الأخطاء التي أدت إلى تعاظم الخلاف بين الطرفين.
ويؤكد علي، أنه ومن معه من العائلات الشيعية يدعون للألفة والعودة إلى العقل والتفكير في مصلحة سوريا ومستقبلها، فقد خسر الجميع الكثير ولا بد من الحفاظ على ما تبقّى، ولذلك لا بد من الابتعاد عن أفكار التفرقة النابعة من الاختلاف المذهبي، ومحاربة من يدعون لها.
ويختم: "نحن لا نتبع لأي مرجعية مذهبية، لا في إيران ولا في لبنان، نحن جميعنا مسلمون ونعيش مع أهالي المنطقة من دون أي فرق، ولا يهمنا أن لدى بعض الشيعة مرجعيات خارجيةً وهذا شأنهم".
الشيعة الثائرون
لم تقتصر فئات الشيعة في درعا على من وقف في صف النظام والميليشيات الإيرانية، أو من بقي على الحياد، فهناك فئة منهم تبنّت الثورة ضد النظام والمطالبة بإسقاطه منذ اليوم الأول.
قاسم الأمين، شيعي من ريف درعا، يؤكد خلال حديثه إلى رصيف22، أن الثورة السورية على حق، لأنها قامت نتيجة تراكم الضغوط والظلم على الشعب السوري من قبل النظام، ويضيف أنه مع عدد من أبناء العائلات الشيعية، انخرطوا في المظاهرات منذ بدايتها وتم اعتقاله مع شقيقه لأكثر من شهرين من قبل الأمن العسكري والأمن السياسي، وتعرضوا للتعذيب والإهانة كبقية المعتقلين، مشيراً إلى أنه لا يزال مطلوباً حتى الآن لفرع الأمن العسكري ولأمن الدولة ولمحكمة مكافحة الإرهاب.
الأمين، يوضح خلال حديثه، أنه بعد تشكيل فصائل المعارضة المسلحة، أو ما يفضل حتى الآن تسميته بـ"الجيش الحر"، انضم مع آخرين إلى هذه الفصائل، وقاتلوا قوات النظام والميليشيات الشيعية في العديد من المعارك، مشيراً إلى أنهم تعرضوا في مرحلة ما للضغوط من قبل "جبهة النصرة" التي قامت بتكفيرهم، إلا أن فصائل المعارضة كانت دائماً في صفهم.
ويلفت خلال حديثه، إلى أن "النظام عمل منذ بداية الثورة على زرع الفتنة بين السنة والشيعة، وحتى بين الطوائف والمذاهب الأخرى"، مبيّناً أنهم رفضوا التواصل مع النظام بعد عملية التسوية في 2018، ومشيراً إلى أنه لا توجد أي صلة تربطهم بشيعة بصرى الشام، فـ"نحن كبقية المعارضين السوريين على يقين بأن الثورة السورية سوف تنتصر".
"جمعية الزهراء" ودورها
لم ينجح النظام وإيران قبل العام 2018، في استمالة جميع الشيعة في محافظة درعا، ولكن بعد تسوية 2018، كانت الفرصة ملائمةً للعمل على خط مختلف، وهو خط الدعوة إلى التشيع بأساليب جديدة خاصةً في مدينة درعا، وهنا يأتي دور جمعية الزهراء.
تأسست الجمعية، في حلب في العام 2013، بدوافع خيرية معلنة، تستهدف علاج الجرحى وتقديم المساعدات الإنسانية، وهي إحدى أهم البوابات التي تدخل منها إيران، لكنها لم تفتح فرعها في محافظة درعا حتى استعاد النظام السيطرة عليها في تموز/ يوليو 2018، بعد اتفاق التسوية.
وتُعدّ جمعية الزهراء في درعا، أحد أوجه القوة الإيرانية الناعمة في سوريا، حيث يعمل الإيرانيون هناك بطرق متعددة، منها القوة العسكرية عبر الميليشيات، ومنها القوة الناعمة وهي الأخطر على السوريين، وتتم من خلال الجمعيات "الخيرية".
تهدف جمعية "الزهراء" من الناحية الشكلية إلى تقديم المساعدات الإنسانية للفقراء، لكنها في الحقيقة تعمل على نشر التشيع، عبر ضخ أموال كثيرة، بالإضافة إلى الإشراف على شراء العقارات، والقيام بأعمال أمنية، من خلال التنسيق مع الفرقة الرابعة
افتتحت جمعية الزهراء في مدينة درعا، في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2018، من قبل ممثل الخامنئي في سوريا، آية الله أبي الفضل الطبطبائي، إذ ضمت إدارتها كلاً من: محمد الصيدلي، وهو من الطائفة الشيعية من أبناء مدينة درعا، وثلاثة نواب له هم: جمال عقيل المسالمة، ومحمد مزيد المسالمة، وعاطف شحادة الطلب.
وتهدف الجمعية من الناحية الشكلية إلى تقديم المساعدات الإنسانية للفقراء ودعم الحالات الإنسانية التي تحتاج إلى العلاج الطبي والعمليات الجراحية، لكنها في الحقيقة تعمل لأهداف بعيدة المدى، أهمها نشر التشيع في المحافظة، وفي سبيل ذلك تقوم بضخ أموال كثيرة، بالإضافة إلى الإشراف على شراء العقارات، وأيضاً تقوم بأعمال أمنية، من خلال التنسيق مع الفرقة الرابعة ومكتب الأمن التابع لها، والمشاركة في بعض العمليات الأمنية من خلال ذراعها الأمنية المعروفة بـ"أسود جمعية الزهراء"، الذين شاركوا في حملة على بلدة الكرك الشرقي في ريف درعا الشرقي في العام 2020، بحسب مصادر محلية تحدثت إلى رصيف22.
وترتبط الجمعية بمكتب ممثل الخامنئي مباشرةً، وتُشرف على عمليات التشيّع في المحافظة، حيث ترتبط بعلاقة وثيقة مع مديرية أوقاف درعا، وكان الشيخ أحمد الصيادي، مدير أوقاف درعا، في 2018، في مقدمة مستقبلي الطبطبائي، ومن المرحبين بافتتاح الجمعية.
من جهة ثانية، تعمل الجمعية، من خلال بعض أعضائها على شراء العقارات لمصلحة مكتب الخامنئي في سوريا، حيث تقوم بتمويل عمليات الشراء، وخاصةً في مدينة درعا، وعلى الأوتستراد الدولي، وفي محيط مدينة درعا.
وأبرز من يقوم بعمليات الشراء، عاطف شحادة الطلب، وهو من سكان مدينة درعا، وهو تاجر عقارات قديم، وتربطه علاقات قوية بالأجهزة الأمنية، خاصةً بفرع الأمن العسكري. وتتم عمليات الشراء والتسجيل بأسماء أشخاص محليين، وبتسهيل من دائرة السجل العقاري في مديرية العقارات في المحافظة التي باتت إحدى أهم بؤر الفساد.
كذلك، ترتبط جمعية الزهراء، مع الفرقة الرابعة، من خلال رئيسها محمد الصيدلي، وبرز الارتباط بشكل كبير خلال الحملة العسكرية على درعا البلد في العام الماضي، حين اتخذت الفرقة الرابعة من "فيلا" تعود للصيدلي في ضاحية درعا الثانية، غرفة عمليات لها، بالإضافة إلى مقرات لقوات الغيث التابعة للفرقة الرابعة، ولمكتب أمن الرابعة، وقوات أسود العراق في أبراج الضاحية، القريبة من غرفة العمليات الرئيسية.
وتشير معلومات، إلى أن الجمعية تعمل على تجنيد عناصر من أبناء المحافظة في جناحها العسكري "أسود جمعية الزهراء"، ويتم إيكال مهام أمنية لهم تتعلق بإجراء دراسات لمصلحة مكتب أمن الفرقة الرابعة، والإشراف على تنفيذ بعض عمليات الاغتيال.
شيعة درعا، ولاحقاً تشيّع العديد من أبناء درعا، من أكثر الملفات إثارةً للجدل والحساسية لارتباطها بالفكرة المذهبية، ولكن يؤكد العديد من أبناء درعا الشيعة "الأصليين" أنهم أبناء المحافظة الرافضون الاعتراف بأي تفرقة، وذلك في الوقت الذي تسعى فيه إيران إلى السيطرة على المحافظة من خلال وسائل مختلفة من بينها تجنيد الآلاف من أبناء درعا من "السنّة".