سرير الورد
ربما هو لحظة سريعة، وكان أيضاً ساعتي الأولى في الحياة. بل هو مكاني الذي لا أبارحه. أنظّمه بيدي ليحملني فوقه، ثم يحمل معه أعبائي التي لا تنتهي.
أذكر لحظات الحب، النشوة التي لا تُنسى، ذكريات تحت الوسادة مختبئة، كابوس يتكرّر لا مهرب منه، وحلم جميل يرافقني في منامي، رنّة الهاتف بجانبه، ومكالمة طويلة تبدأ بلهفة "وحشتيني!" وتنتهي بأنفاس وصمت وقبلة سريعة، تحت الغطاء.
أوقات الانتظار والوحدة وأمنيات الطفولة، حزن في جوف الليل، ودموع لا تحملها إلا الوسادة.
كلها لحظات كان السرير شاهداً عليها، كأنه لقطة فارقة في كل حكاية. آلامنا، أحلامنا، ماضينا وحاضرنا، حتى لحظة الرحيل يرافقنا فيها، وتمتد يده لتضمنا برفق. ربما هو ملجأنا الدائم والأخير.
توفيق والمكالمة الأخيرة
في أحد أيام سنة 1996 رنّ تليفون البيت الساعة الثانية فجراً. خفت ليكون حد من الولاد فيه حاجة، لكن قلت لنفسي: "حتى لو فيهم يا توفيق، مش هيبلغوك إلا في الآخر،كل واحد مشغول في حياته وبقى بيعرف يتصرف من غير ما يرجعلك".
كل الرجال الذين مرّوا فوقها أخبروها أنهم يحبون زوجاتهم وأولادهم لكنهم متعبون، وهي أيضاً مرهقة. تتلفت حولها. تعدو في كل الطرقات. لطالما أرادت أن تفهم ما هو "الحب". أهو موجود؟ شعور مبهم بالنسبة لها. أهو هادئ؟ هائج؟ ثرثار؟ مؤلم؟ ليّن؟ أي شيء؟... مجاز
إيه اللي ممكن راجل عجوز يقدر يعمله؟ ولا حاجة... وده اللي كنت بعمله من ساعة ما خرجت معاش، بعد ما سعاد، أم العيال، ماتت، مفضليش إلا نفسي. بفطر. اتغدى. اتعشى. أفتح التلفزيون. الراديو. أدور في الشقة وارجع للسرير. الواحد كل ما يكبر يتربّط بالسرير أكتر، في ذكريات متتنسيش. سعاد، لعب العيال والنوم، النوم الطويل اللي كنت غرقان فيه لحد ما رنّ الجرس. مديت إيدي ورفعت السماعة، ما التليفون جنبي على الكومدينو، يعني من باب الراحة.
توفيق: ألو؟
(صوت بكاء) أنا آسف. آ...آسف إني بزعج حضرتك في الوقت ده، وعارف إني طالب رقم غلط، بس أنا مش بعاكس، أنا مش عايز أضايق حد، لكن شكل حضرتك راجل كبير، يعني ممكن تخليك معايا بس الساعة الجايه دي؟ أصل الموضوع مش هياخد أكتر من ساعة لحد ما أخرج. (يبكي). أنا والله كنت عايز أخرج معاها، بس يومها كل حد فينا خرج من طريق، مبقيناش عارفين نلاقي بعض.
توفيق: هو في إيه؟ تخرج تروح فين؟ أنت بتتكلم عن مين؟
عن سارة. كانت جميلة أوي. آ.. وطيبة، عشان كده خرجت قبلي. بـ..آ.. بس أنا حاولت. لو حد سألك قوله إن خالد قعد 4 سنين يحاول. باكل. بشرب. بروح الشغل. بضحك في وش الناس، وبدور عليها في كل الوشوش. خلاص مبقتش قادر. (يبكي) من جوايا مبقتش حاسس بأي حاجة، هي كمان لما مشيت مبقتش حاسة، يعني كده ينفع نتقابل، صح؟
توفيق: تتقابلوا! هو ايه اللي حصل يا ابني؟
تقابل الخليجي فيخبرها: "أنت مجرد بائعة هوى، تبيعين الحب". تضحك وتقول لنفسها: "وهو لو في حب يا روح أمك كنت هتجيلي لحد هنا؟".
زلزال. اللي كان من 4 سنين ده. إحنا بقى اتجوزنا قبلها بسنتين. يومها اتهزّ البيت واتهد فوق دماغنا. كانت بطنها مفتوحة، بتتوجّع. فضلت جنبها وقولتلها هنخرج. حضنتها، بس مكنش كافي. آ..آ.. قالوا توابع الزلزال خلصت، بس هي لسه جوايا. الكل فاكرني خرجت، وانا لسه تحت. آ..ااه..اااه..
توفيق: أنت خدت إيه يا خالد؟ خدت إيه؟
شوية براشيم، معرفش... مش مهم (يبكي) شكراً... شكراً إنك سمعتني ..اااه... (تيتيت تيت تيت)
توفيق: ألو... خالد... ألو!!
السماعة وقعت من إيدي. لقتني قاعد على السرير مش قادر أشيل نفسي. لفّيت في الشقة زي المجنون، ولما طلع الصبح، جريت على السنترال، حاولت أوصل لرقمه. رحت القسم أبلّغ. كلّمت ولادي واحد واحد. كنت عايز حد غيري يعرف، لكن مقدرتش أوصله. بقيت برجع البيت مهدود. أبصّ على السرير من بعيد، حتى التليفون نقلته وخليته في الصالة، وساعتها عرفت ليه خالد كلمني أنا بالأخص. الراجل اللي مبقتش عارف إذا كان عايش ولا ميت، خلاني أقضي وقت أطول في الشارع، صحيح أنا راجل عجوز بس أقدر أعمل حاجات كتير. كلمت ناس غريبة. لفّيت، واتحرّكت. رجعت للحياة. بعدت عن السرير، وبقيت عايش يا سعاد.
علياء، حفرة عميقة مظلمة
دقت الساعة السادسة صباحاً، لكن علياء أزاحتها من فوق الحائط ورمت بطاريتها بعيداً. أحكمت إغلاق الغطاء فوق وجهها، فهي لم تنم منذ يومين، ثم تأتي أيام أخرى تغرق في نوم كالغيبوبة. منذ سنة واحدة تبدل حالها، واقتربت من عزلتها بهدوء، فوقعت في غرام الفراش. تصحو. تغفو. تختبئ. تبتلع الحبوب. ترمي علب المهدئات الفارغة تحته، ثم يبدأ عقلها يدق بقائمة الأسئلة: "منذ متى لم يدخل النور من النافذة؟ هل تغيّر شكلي كثيراً عن الماضي؟ كيف أصبحت قبيحة لهذه الدرجة؟ لهذا السبب لم يحبني محمود؟ لماذا لم يحبني أحدهم أبداً؟ لأنني لا أستحق؟".
ثم تدخل في مرحلة الصمت. الفراغ يخنقها واللون الأسود يحيط بها. يرن هاتفها لكنها لا تلتقطه، فهي تعرف أنه حسن، صديقها المقرب، يسأل عنها يومياً: "كله هيبقى كويس يا لولي. ردّي أنتي بس وطمنيني عليكي. أقولك، ردي ومتتكلميش، أنا هرغي يا ستي".
زاغت عيناها بين الباب والسرير. عاودها القلق ولاعبها عقلها: "هتروحي فين؟ ". خافت أن تستسلم، فالتقطت سكيناً وجذبت المرتبة، ثم دفعتها فوق أرض الغرفة. ربما كان فعلاً مجنوناً لكنها أقدمت عليه. طعنتها مرة تلو الأخرى ولم تعد صالحة للنوم... مجاز
كان يعلم تماماً أنها لن تجيبه، لكنه لم ييأس. أرسلت له رسالة بسيطة: "متقلقش. أنا تمام يا حسن"، فيقلق أكثر ويعاود المحاولات. يخبرها عن سفريته الأخيرة، فيلم جيد في السينما، يرسل لها أغنية، ثم رسالة جديدة: "يا بت فايتك كتير بره، ما تيجي أشوفك وتتكلمي يا علياء، ده انتي عارفاني هسمعك ونفكّ الدنيا شوية". لكنها كانت صارمة لا تلين، فيصمّم حسن: "ماشي يا لولي. أنا وراكي لحد ما تنزلي، في يوم هتعمليها. ده وعد وهتشوفي". وبالفعل فتحت عينيها ورأت كل شيء. في اليوم التالي رنّ هاتفها، شيء ما دفعها لقراءة الرسالة بسرعة، ليباغتها الخبر: "توفى حسن فجأة والجنازة اليوم".
تسمّرت في جلستها. لم تبك. لم تنهض. لم ترمش عينيها حتى. توقف جسدها لبضع دقائق لكنها ما زالت هنا. كل المحبين للحياة يرحلون مبكراً، والخائفون أمثالها تتشبث الدنيا بهم... ما المغزى؟ ظلت أسبوعاً كاملاً لا تبارح الغرفة، وكل ما كانت تفعله أنها تطيل النظر إلى النافذة.
كان حسن بمثابة النور الذي ينتظرها في الخارج، لكنها لم تسمح له بالدخول. لم يكن عقلها يدرك لعبة الظلام والحزن المفرطين، ويوم رحيله، تجمع كل النور الذي يشع بداخله وتسرّب ببطء، شعاع بسيط وسط العتمة، لكنه قادر على التغيير.
لحظتها هزت علياء رأسها وقالتها: "كسبت يا حسن، زي ما وعدتني". ثم مسحت دموعها ونهضت لتزيح كل الستائر الثقيلة. أنارت الغرفة، وقررت أن تفعل كما قال حسن: "خُديلك لفّه تحت بيتكو يا علياء. اتمشي. هيحصل إيه يعني!". وقبل أن تتحرك باتجاه الباب، ألقت نظرة وداع على الفراش، ولأول مرة لاحظت أثر البقاء الطويل في نفس المكان: حفرة بسيطة طُبعت فوق المرتبة مكان جلوسها، وأصبح السرير به جزء عال وجزء منخفض، بالضبط كحياتها.
زاغت عيناها بين الباب والسرير. عاودها القلق ولاعبها عقلها: "هتروحي فين؟ ما تخليكي هنا". خافت أن تستسلم، فالتقطت سكيناً وجذبت المرتبة، ثم دفعتها فوق أرض الغرفة. ربما كان فعلاً مجنوناً لكنها أقدمت عليه. طعنتها مرة تلو الأخرى ولم تعد صالحة للنوم. هل هذا مهم؟ أبداً. سوف تنام على الأريكة، الحمام، الشرفة، أي مكان، لكنها لن تعود لتلك الحالة. ثم خرجت علياء لأول مرة منذ شهور طويلة، وتحررت أخيراً من قيد السرير.
علي، صفر على الشمال
كل أنوار المسرح انطفت كأنها بتعلن بداية العرض، وفي الكواليس اتجمّعوا الممثلين. كله بيجهّز. اللي بيلبس، واللي بيظبط مكياجه، واللي ماليه حماس التمثيل، بيعيد ويزيد يحفظ في دوره، إلا عليّ، الكومبارس.
أول ما دخل علي محدّش حس، حتى الجرح اللي في جبينه محدش شافه. قعد على كرسي، والكل كان بيعدي من قدام عينه، زحمة وجري وقلق، لكن هو أمره بسيط، مش محتاج يجهز ولا يلبس، كل اللي عليه يقلع، يخلص من كل هدومه إلا البوكسر، ما هي دي النكته، وده دوره.
آخر دكتور قالي: ده ضغط نفسي يا علي، قلل سجاير ومتتعصبش. ضحكت. هو أنا بنطق؟
رفع وشه وبص على اللي حوليه، كان نفسه يقول: "ينفع حد غيري يعملها النهاردة؟"، ويضحك الجمهور، لكن مين؟ مفيش، فاستسلم وقلع.
20 ثانية هما كل اللي حيلته قبل بداية المشهد، هياخدها جري وسط الضلمة، من الكواليس لحد آخر خشبة المسرح، وهوب، ينط يبقى في السرير. يستخبى تحت الملاية كويس، ويفضل على كده تلت ساعة، 20 دقيقة والنور الأحمر ضارب في عينه واللمبه الصفرا بتاكل في قفاه. يعرق. مهما يعرق مش مهم، المهم يفضل زي الجثة ميتحركش.
بس النهاردة أول ليلة يتمنى فيها أنه ميقومش من السرير. يغرق في أفكاره: "هيجرى إيه لو معملتهاش؟ هيقف العرض؟ ما يقف. بس أنا هتطرد ومش هقبض، وبكده هرجع لابويا في الصعيد، أقوله إيه؟ ابنك بقى عنده 37 سنة ولسه بيلف ويدور؟
بقالي 10 سنين بحاول، أعتقد دول مدة كافية عشان أقدر آخد قرار، وأنا قررت مقومش. مش عايز! بس لو مقبضتش هبات في الشارع، وأنا بخاف. اوفففف... النور الأحمر ده عمى عيني، كإنه مُصرّ يفكرني باللي حصل. اااه.. ولاد الكلب! مسابوش فيا حته إلا ما ضربوها. كنت شايف إشارة المرور من بعيد، كل اللمبات فيها بايظة إلا اللمبة الحمرا، زي ما كل حاجة حوليا بايظة، زي وشي اللي لبس في الأسفلت، مبقتش شايف غير جزمهم. أهي دي تجربة عملية تثبتلك إن الكترة تغلب الشجاعة.
أوقات الانتظار والوحدة وأمنيات الطفولة، حزن في جوف الليل، ودموع لا تحملها إلا الوسادة. كلها لحظات كان السرير شاهداً عليها، كأنه لقطة فارقة في كل حكاية. آلامنا، أحلامنا، ماضينا وحاضرنا، حتى لحظة الرحيل يرافقنا فيها. ربما هو ملجأنا الدائم والأخير... مجاز
غبي يا علي، غبي. بس لأ... يعني إيه أولعلهم سجايرهم وأول ما يمشوا، ينفخوا الدخان في وشّ بنتين. مش ولاعتي دي؟ أسكت ليه بقى؟ وبعدين أنا ضربتهم لحد ما اتجمعوا عليا كأني فار واتمسك! (يتنهد) حتى لما مشيوا مبقتش قادر أقوم من مكاني. فضلت فارد جسمي ومستني. أنا طول الوقت بستنى، على المحطة وطوابير الحكومة، العيش، الأحلام، الحب، الشغل، التمثيل، طوابير مبتخلصش. يمكن عشان كده أنا ومريم سيبنا بعض: أنا مش عارفه أنت إيه! الصبح موظف وبالليل كومبارس؟!. عندها حق. أنا نفسي معرفش مع كل المحاولات.
مبقتش موهوب كفاية. لا لقيت دوري في الحب ولا التمثيل. بالظبط زي الأتوبيس، السواق يفضل ينادي ويقولك: فاضية جوه!، تطلع تلاقي نفسك معكوك. أنت والركاب حاضنين بعض. مفيش هوا. دايماً في حاجة غلط! أنا بمشي في كل الحارات الضيقة عشان أهرب من الوشوش والكلام والصداع. آخر دكتور قالي: ده ضغط نفسي يا علي، قلل سجاير ومتتعصبش. ضحكت. هو أنا بنطق؟ حتى النهاردة صوت ضربات قلبي أعلى من كل يوم، ليه وأنا صغير مكنتش بسمع ضربات قلبي؟ مكنتش قلقان؟ ده فخ! الواحد كل ما يكبر، يتلفت حوليه. بيخاف من نفسه والناس والعمر اللي بيجري، وأنا مبقتش قادر أجري زي الأول، عشان كده مش لاحق ومستني".
"أخيراً قربنا. الزوج قفش مراته واكتشف خيانتها (صوت شخير) أهو ده أول إفيه عندي. العشيق اللي راحت عليه نومه وكمان بيشخر، لما يقرب مني ويرفعني بالمسدس، أقوم ببطء، تقوم تقع الملاية! يظهر البوكسر الأصفراني أبو رسمة تويتي، وينقلب المشهد التراجيدي لصريخ ضحك. أفضل أجري والزوج بيجري ورايا.
نكتة سخيفة، لكنها دوري. وأفرق في إيه أنا، طالما الجمهور مبسوط؟
زهرة تتبدل مع ألوان الفراش
تربطها معه علاقة وطيدة، أهم من كل العلاقات التي مارستها فوقه، فهي معه تتقلب، تتخيّل، تتلوّن، تبكي. أحياناً تشعر وأحياناً أخرى كالروبوت تؤدي عملها فقط، ولهذا تنتقل من بيت إلى بيت، يحيطها النور الأحمر مع أحدهم، أما الآخر فيدفعها في الظلام. يتغير الفراش وألوانه، أصفر، أخضر، أزرق. طالما يتبدّل وتذبل هي معه.
"أصل السرير ده مهوّاش المرتبة اللي بننام عليها. في شغلتنا السرير يبقى في أي حته، على الأرض، على الكنبه، أهو كل واحد ومزاجه. في مرة روحت لواد، عنده أوض ياما! فيلّا ببسين. معاه فلوس كتير ابن الكلب، وخدني على البانيو. جسمنا اتكسّر، بس الباشا اتبسط. أهوه عملت شغلي وقبضت".
بالضبط، تلك غايتها، تقدّم خدمة وتحصل على أجرها لتحيا كباقي البشر، ولهذا كان عليها أن تنتظر دوماً لينتهي الرجل الأسمر من متعته، والرجل الأبيض من لمساته، والمراهق في خطواته الأولى تجاه جسدها، والأجنبي الذي يبحث عن طعم جديد ليتذوقه.
لم يريحها أن تصبح طعماً، لكنها لا تتذمر. فيقول أحدهم مثلاً: "أنت لست زهرة، بل هرّة". تتلوّى؟ سخيف، لزج، لكنها تتحمّله حتى تتحرر من فراشه، ثم تقابل الخليجي فيخبرها: "أنت مجرد بائعة هوى، تبيعين الحب". تضحك وتقول لنفسها: "وهو لو في حب يا روح أمك كنت هتجيلي لحد هنا؟".
حقاً، كل الرجال الذين مروا فوقها أخبروها أنهم يحبون زوجاتهم وأولادهم لكنهم متعبون، وهي أيضاً مرهقة. تتلفت حولها. تعدو في كل الطرقات. لطالما أرادت أن تفهم ما هو "الحب". أهو موجود؟ تراه في أعين الشباب من حولها لكنها لم تجربه. شعور مبهم بالنسبة لها. أهو هادئ؟ هائج؟ ثرثار؟ مؤلم؟ لين؟ أي شيء؟
يمكن عشان كده أنا ومريم سيبنا بعض: أنا مش عارفه أنت إيه! الصبح موظف وبالليل كومبارس؟!. عندها حق. أنا نفسي معرفش أنا إيه. مبقتش موهوب كفاية. لا لقيت دوري في الحب ولا التمثيل... مجاز
أخذت تدور حولها نفسها هكذا حتى قابلته. دعاها إلى منزله. جلست على فراشه الصغير وكادت تخلع ملابسها، لكنه طلب منها ألا تفعل، ثم وضع لها نقودها في حقيبتها، وتحرر من حذائه والكرافتة. جلس بجانبها. لمس وجهها بخفة، ثم ابتسم وفرد جسده. جذبها ولف ذراعه حولها. أخبرها أنه لا يريد أي شيء، فقط كل ما تمناه اليوم أن ينام في حضن إحداهن، وهمس في إذنها ليشكرها على خدمتها إياه. توترت زهرة، لكنها استمعت لأنينه وهو يبكي، فاحتضنته حتى نام.
لم تره مجدداً، لكنها لم تنسى أبداً ما شعرت به. شعور الأمان في فراش صغير.
عمر،كيف أُصبح رجلاً يا أبي؟
أتم الثانية عشر. كان والده خارج البلاد. تعارك مع أخته فصفعها على وجهها. عاد الأب وعرف بما حدث. جذبه من يده وأدخله غرفة النوم. أجلسه على االسرير وجلس أمامه. انحنى ودقق النظر في عينيه طويلاً. ارتبك عمر وتقوست أكتافه. فقال الأب بصوت حاد لا يخلو من الضيق: "اضربني بالقلم يا عمر... اتفضل!". صمت عمر وهرب من النظر في عيني أبيه: "إيه خايف؟ ولا حاسس أنه غلط؟ إيه رأيك أخرج أضرب ماما دلوقتي. هتفرح؟!". عمر بقلق يهز رأسه نفياً: "إياك تضرب أخواتك البنات، لا في حياتي ولا بعد موتي".
"ما هي عليت صوتها".
"وأنت عليت صوتك. تحب أنها تقوم تضربك؟".
يصمت ثم يقول بصوت منخفض: "كل صحابي أخواتهم البنات مبيعلوش صوتهم. بيحترموهم". "عشان بيضربوهم؟ طب ما أنا مبضربكش لا أنت ولا أخواتك، إيه رأيك فيا يا عمر؟".
يصمت، فيقترب الأب ويضع يده على قلبه ورأسه: "الرجوله يا ابني مش بالضرب ولا بعلو الصوت. الرجولة هنا وهنا. إنك تحب أخواتك، تسمعلهم، تحنّ عليهم، تكون سند، يجروا عليك مش يخافوا منك. زي ما هما دورهم يحبوك ويسندوك. أنت وهما واحد". ثم يشبك أصابع يديه ببعضهما: "زي كده يا عمر. عيلة. الضرب يكسرهم". ثم يفصل أصابع يديه عن بعضهما: "تبقى أنت في حته وهما في حته، وأنا عارفك راجل يا عمر، هتحافظ عليهم زي ما هيحافظوا عليك"، ثم يحتضنه ويقبل جبينه، ومن يومها تعلم عمر أن يصير رجلاً، بالضبط كأبيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...