شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الموت ثمن باهظ سندفعه لأننا عشنا الحياة

الموت ثمن باهظ سندفعه لأننا عشنا الحياة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 24 يونيو 202210:30 ص


الحركة وإنفاق الوقت هما كل ما نفعله في حياتنا، فنحن البشر نتحرك داخل منازلنا وخارجها، وننفق الوقت في التفكير بأمور سخيفة، وأيضاً مفيدة! وخلال نومنا ودون أنْ نكون واعين للأمر نتحرك بين الحين والآخر وغير ذلك الكثير. إذاً طالما نحن أحياء، هناك حركة ما نقوم بها، ووقت يمضي من حياتنا.

بسبب الحركة يحدث الاستهلاك، فمنذ اللحظة التي يُلقّح فيها الحيوان المنوي البويضة وحتى الشهيق الأخير على كوكب الأرض، كل ما يفعله الإنسان هو الاستهلاك.

الحيوان المنوي الذي هو سبب وجودنا استهلك غذاءً كي يتكوّن في الخصيتين، ثم بدأ بالحركة قاطعاً مسافة ما، ومنفقاً الوقت كي يصل إلى البويضة ويُلقحها، لتصبح بدورها نابضة بشكل من أشكال الحياة، وهذه الحياة تحتاج إلى الاستهلاك لتستمر.

مما لا شك فيه أن الإنسان لديه مرحلة يكون فيها مُنتجاً، ولكنْ كل ما يُنتجه مرتبط بكونه كائناً مستهلكاً بالدرجة الأولى. بناءً على ذلك، يمكنني القول إن الاستهلاك أساس حياتنا بكل تفاصيلها النفسية والجسدية، وإن الإنسان يبقى حياً طالما أنّه يستطيع أنْ يستهلك. بهذا المعنى يُمكن أنْ نعتبر الموت هو العجز الكامل عن القيام بالاستهلاك.

الحياة ثمنها باهظ جداً

واحد فقط من بين عشرات وربما مئات الملايين من الحيوانات المنوية يُلقح البويضة، وهذه البويضة الملقحة ستصبحُ مع الوقت جنياً يخرج من الرحم، ويَحظى بحياة ما، لم يخترْها بملء إرادته، بل حظي بها فقط لأنه كان أسرع الحيوانات المنوية وأقواها، ولأنّ البويضة رحّبت به.

وفي حال عاش هذا الحيوان المنوي، الذي أصبح في ما بعد أنتَ/تِ، حياته بسعادة أو بؤس، سيكون الموت هو الثمن الباهظ الذي سيدفعه لكل لحظة عاشها. فمقابل كل شهيق نأخذه ندفع ثواني من عمرنا، ومقابل كل سهرة ممتعة ندفع ساعات، ومقابل حالات الحزن والاكتئاب قد ندفع شهوراً وربما سنوات. والحياة قصيرة أيها الأحبة، وقيمتها وجمالها مرتبطان بكونها ستنتهي يوماً ما بالموت.

أين وكيف أنفقتُ سنواتي الـ44؟

في مدينة اللاذقية وريفها، أنفقتُ سنواتي الـ 44 كلها تقريباً. سافرتُ أقل من عشر مرات إلى لبنان لعدة أسابيع، قضيتُ عامين ونصف خارج مدينتي لأداء الخدمة العسكرية، وقمتُ بزيارات عدّة ليوم أو يومين إلى بعض المدن السورية. عدا ذلك لم أذهب إلى أي مكان آخر في العالم، وليست لديّ حتى الآن رغبة بأنْ أفعل ذلك.

كيف أنفقتُ هذه السنوات؟ مثل كثيرين من البشر: حرمان عاطفي ومادي في الطفولة والمراهقة، وكثير من المشاكل والقلق والتوتر في الشباب، والقليل جداً من الفرح والراحة في تلك المراحل كلها. ولكنني رغم ذلك راضٍ إلى حد لا بأس به، ولستُ نادماً بمعنى الندم العميق على أي شيء حتى هذه اللحظة.

لستُ ضحية، والحياة لم تظلمني، هذا ما توصّلت إليه منذ حوالي أكثر من عشر سنوات بعد تفكير طويل بكل المصائب والمشاكل النفسية والجسدية والمالية والعاطفية وغيرها التي أصابتني، ويمكنني أنْ أضيف الآن أنني كنتُ شخصاً محظوظاً في بعض المشاكل التي تعرضتُ لها لأنني خرجتُ منها بأقل الخسائر الممكنة، وتعلمتُ دروساً في غاية الأهمية.

"الاستهلاك أساس حياتنا بكل تفاصيلها النفسية والجسدية، والإنسان يبقى حياً طالما أنّه يستطيع أنْ يستهلك. بهذا المعنى يُمكن أنْ نعتبر الموت هو العجز الكامل عن القيام بالاستهلاك"

لماذا أنا راضٍ ولا أشعر بالندم ولا بأنني ضحية؟ أكاد أجزم بأنّ الأمر يعود إلى أسلوب العيش الذي اتّبعته بعد سن الـ25 والقائم في جوهره على ربط المتعة والتسلية بمعظم مفاصل حياتي. فمثلاً، حين أقوم بأعمال صعبة ومرهقة مثل الدراسة، الوظيفة، وما شابه، أحاول قدر الإمكان ربط هذه الأعمال بمتعة ما، نفسية أو مادية. وفي حال لم أستطع، أبحث عن جوانب مسلية في هذه الأعمال، وهذا يمنحني الرضا إلى حد ما أثناء قيامي بأمور لا أحبها. ولكن كلامي لا يعني بأنني أنجح دوماً بفعل ذلك.

مع التقدّم في العمر والتجربة، أصبحتُ أتعامل مع المشاكل التي تواجهني والأخطاء التي أرتكبها بخفة قدر المستطاع، معتبراً تلك المشاكل والأخطاء جزءاً من حياتي اليومية ومن الطبيعي أنْ تحدث معي، وهذا كان من أهم الأسباب التي جعلتني لا أشعر بالندم العميق في حال أخطأت، وفي حال تعرضت لمشكلة ما لا ينتابني شعور بأنني ضحية.

إضافة إلى كل ذلك، كنت أؤمن بأنّ الموت قادر على إنهاء مشاكلي كلها، وإزالة أخطائي جميعها دفعة واحدة وبلمح البَصَر، وهذا ما جعلني أرى أنّ حياتي مهما كانت قاسية ومُرهِقة هي أفضل من الموت. بمعنى آخر، حياة فيها مشاكل وأخطاء وتعب وقليل من الراحة والمتعة والتسلية، هي أفضل بكثير من الموت الذي لا يوجد فيه كل ذلك.

الموت بلا رعب

على الرغم من شعوري بالراحة والرضا إلى حدٍ لا بأس فيه في حياتي حتى الآن، إلا أنني أحياناً كثيرة أشعر بالأسى والحزن كلما فكّرتُ بحياتنا نحن البشر، لأنّ الجودة والميزات التي خُلقنا بها عادية جداً على الصعيد الجسدي، وسيئة وشبه منتهية الصلاحية على الصعيد النفسي.

أحياناً، أتخيل أنّه لو أُعطيت مهمة خلق البشر، لخَلقتُهم بالحد الأدنى أقل شقاءً وأكثر حرية، وأقل قلقاً وأكثر راحة مما هم عليه. ولجعلتُهم يرون أنّ جوهر الحياة وقيمتها ومعناها الأسمى، هو المعرفة والتغيير والمتعة والتسلية، آخذاً بعين الاعتبار ألا تكون المعرفة سبباً في جعلهم يكتشفون أو يفكرون كم هي حياتهم بائسة وبلا معنى!

"أحياناً، أتخيل أنّه لو أُعطيت مهمة خلق البشر، لخَلقتُهم بالحد الأدنى أقل شقاءً وأكثر حرية، وأقل قلقاً وأكثر راحة مما هم عليه"

ولأسباب لها علاقة بجعل حياتهم متنوعة وغنية بالتجارب على الأصعدة كافة، سأجعلهم يعيشون طويلاً، بحيث يكون متوسط عمر الإنسان مئة عام، جاعلاً عمر الثلاثين عمر المراهقة، والسبعين بداية الشباب على المستوى الجسدي والنفسي.

وسأمنحهم أيضاً، ميزة الرضا والقبول بأقسى وأصعب مصير حتمي لهم، وهو "الموت"، لتصبح بذلك فكرة الموت خالية من حالتها المرعبة، وتُشبه الأسف اللطيف الخفيف الذي نشعر به حين تنتهي سهرة الجلسات الممتعة والمُسلية مع الأصدقاء، فنقرر الذهاب إلى بيوتنا لأننا تعبنا من كثرة الضحك ونحتاج إلى النوم والراحة، وسأجعلهم يموتون وهم نيام حصراً بحيث تتوقف حياتهم فجأة وخلال أقل من ثانية دون الشعور بأي ألم.

بعد الموت، سيكتشفون بأنّ هناك عوالمَ أخرى، وبأنّ لديهم الإرادة الحرة في اختيار حياتهم القادمة في أي عالم ستكون، بعد أنْ يَطّلعوا على تفاصيل الحياة في كل عالم من تلك العوالم. وبالطبع لن يكون هناك رسل وأنبياء وديانات تدعوهم إلى عبادة الله وتتوعدهم بالعقاب وبئس المصير إنْ لم يفعلوا، وبالجنة والخلود إنْ فعلوا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard