في خضم المواقف والانتظارات والحسابات التي تتعلق بحقول النفط والغاز على الحدود اللبنانية والإسرائيلية المتنازعة، جرّت سياسة "حزب الله" وأدواتها الكثيرة والمتنوعة والمتضاربة ظاهراً، الأطراف السياسية اللبنانية إلى معمعة تكهّنات وتوقعات تحاكي موضوعها، النفط والحزب المحلي المسلح والدولة العبرية، اضطراباً وقلقاً.
ففي أعقاب خط تصريحات معلن تظاهر بتوكيل الدولة- أي رئيسها الرسمي ميشال عون الحليف والوكيل، وقبله رئيس السلطة التشريعية وقطب الثنائي الآخر نبيه بري، ووفد الجيش، أحد أطراف المعادلة الذهبية ("الشعب والجيش والمقاومة") إلى مفاوضات الناقورة- بالمفاوضة على الحدود والحقول والحفر، وبالوقوف وراءها، رجع الحزب عن التوكيل المعلن، ونصب نفسه، وموقعه المفترض من مراتب الأمر والقوة اللبنانية والإقليمية، قطباً أصيلاً، وألغى النيابة والوكالة السابقتين.
وفي الأثناء، بين التوكيل والرجوع عنه، انقلبت بعض أحوال المفاوضة والمفاوضين رأساً على عقب (تقريباً). فهدأ الرأي اللبناني (الرئاسي)، الملتبس أصلاً في المساحة المتنازعة. وتقلّصت هذه إلى قرابة الثلث، من الخط 29 إلى الخط 23، العتيدين. واستعيض ضمناً عن الخط المستقيم، ويقتضي تقاسماً إسرائيلياً ولبنانياً لحقلين، قانا "اللبناني" وكاريش "الإسرائيلي"، يقع جزءان منهما إلى جنوب الخط وشماله أي في منطقة الآخر، بخط متعرّج. فآل الحقلان، كاملين، إلى الدولتين المتحاربتين والعدوتين.
وسبق شَبَه التحكيم (الأميركي) هذا، صرفُ الوفد المفاوض في رعاية الأمم المتحدة، وإلقاء الشبهة على رئيسه، الضابط المفوّض، وعلى موقفه المتمسك بالمساحة القصوى، وبتعديل المرسوم المتواضع والخجول الذي أودع الأمم المتحدة ووُصف بالمرجع القانوني. وتصديقاً للاتفاق المرجح والمضمر وثمرة التحكيم، أبحرت سفينة سبر وحفر وتخزين، يونانية وتملكها شركة وقّعت معها وزارة الطاقة الإسرائيلية عقد استغلال حقل كاريش، إلى موضع الحقل وطرفه الشمالي.
وفي الأثناء، كذلك، ثارت ثائرة مَن حملوا تقليص المساحة المتنازعة على تخلٍّ غير بعيد من الخيانة، إنْ لم يكن خيانة صريحة وعينية. فنظم بعضهم، ومنهم "نواب الثورة"، اعتصامات وتظاهرات اتهمت شعاراتها وهتافاتها الدولة، ومن ورائها الحزب المسلح والمتسلّط، بالمساومة المعيبة، والنزول عن موارد الشعب اللبناني، حاضراً ومستقبلاً. ورد "الحزب"، على ما يسميه أهله وشعبه، على المزايدين والعزّل من السلاح وأصدقاء السفارات والجمعيات المدنية بالسخرية، وبالافتقار إلى وسيلة تردع إسرائيل فعلاً، على خلافه هو.
السابقة الأربعينية
ويستوقف من خطابة الحزب الشيعي المسلح، ومقالاته وآرائه في تسييره مسيّراته الثلاث فوق منطقة كاريش، وفي رجوعه عن توكيل الدولة إلى أصالته هو، ترديده الاستشهاد بموقفه الأول، حين بادرت نواته إلى إنشاء "المقاومة الإسلامية". فدحضت طعناً شيعياً غالباً يومها في "العودة إلى ما قبل 1982"، والعمليات الفلسطينية و"الوطنية" وجرّها ردوداً إسرائيلية عنيفة لم تلبث أن أخلت جنوب لبنان من شطر كبير من أهاليه، وسوغت إقامة "دولة لبنان الحر" الميليشياوية وشريطها العازل.
وتُبعث هذه المقالات في الذكرى الأربعين لأعمال الجماعة العسكرية (وهذا "العمر" اختياري واستنسابي: ففي أوقات سابقة وقع الاختيار على شباط/ فبراير 1985 تاريخاً للتأسيس الحزبي وليس صيف 1982...). وترافقها على الدوام مقارنة بين "حال الضعف" الأولى، على قول المتأملين في السيرة النبوية، وبين القوة المنبسطة والمترامية الأطراف، الإمبراطورية، التي تنسبها الجماعة إلى نفسها وإلى "حزبها" الأوسع.
وتنسب المقالات إلى مرحلة التأسيس هذه تجاوز الاعتبارات والخلافات المحلية والسياسية والطائفية، و"التعالي" عليها. وهي تمحو بجرّة قلم الأعوامَ القاتمة والدامية التي اجتازها اللبنانيون بين 1982 و1989- 1992، وحفلت بتصفيات وصراعات لم يتجاوزها مذ ذاك أحد، لا الحزب الشيعي المسلّح ولا غيره، وفاقمت الصبغات الطائفية وصبغة الجماعة العتيدة أولاً. وأرسى في أثنائها "حزب الله" غلبته العسكرية على الجماعات الأهلية والمسلحة الأخرى، وكسب حظوته لدى القوات السورية، وفرض عليها شراكته ودرايته الداخليتين تحت وصاية إقليمية مزدوجة وغير متكافئة.
"في أعقاب خط تصريحات معلن تظاهر بتوكيل الدولة بالمفاوضة على الحدود والحقول والحفر، وبالوقوف وراءها، رجع حزب الله عن التوكيل المعلن، ونصب نفسه، وموقعه المفترض من مراتب الأمر والقوة اللبنانية والإقليمية، قطباً أصيلاً، وألغى النيابة والوكالة السابقتين"
وتصل المزاعم الخطابية والاحتفالية الأعمال العسكرية في النصف الأول من العقد التاسع بمنتصف العام 2000، وجلاء القوات الإسرائيلية. وعلى خلاف تباهي خطباء "المقاومة الإسلامية" بجمعهم قتال "الداخل" الأهلي و"الخارج" الإسرائيلي وتصدّيهم، من غير عناء، للجبهتين ودمجهما في جبهة واحدة، تزعم خطب اليوم أن قتال العقدين، 1982- 2000، حظي بإجماع وطني تام، ولم يكن له وجه داخلي، ولا كان القتال الخارجي، "التحريري"، إلا ذريعة إلى الاستيلاء على السلطة وتصديع الدولة. ولا يصنع الحزب الشيعي، حين يطيّر مسيّراته غير المسلحة ويوعز إلى ألسنته بالقول إنها تحيي المفاوضة وترسم إطارها ولا تسعى في حرب، إلا تجديد هذا الزعم.
الإجماع والإكراه
والحق أن سياسة اليوم في موضوع النفط، وإخراجها المشهدي والمسرحي الحاد، أو الساعي في الحدة، تقتبس من سياسة الأمس البعيد بعض جوانبها. فما لا شك فيه هو أن جلاء/ إجلاء الجيش الإسرائيلي المحتل كان محل إجماع اللبنانيين. ولكن هؤلاء أُكرهوا على الإجماع.
ووجه الإكراه هو أن الجلاء الإسرائيلي "مرَّ" بتصديع الدولة الوطنية، على ما سبق القول، ولم يُبلغ من طريق الصنيع السياسي اللبناني المشترك. وحُمل على "هدية" إيرانية وسورية أُجبر سواد اللبنانيين على قبولها، وتسديد ثمنها إلى أبد الآبدين. ولم يعف القبول شطراً راجحاً منهم من تهمة الخيانة والعمالة الأزلية والمتجدّدة.
وعشية العام 2000ـ في عهد حكومة إيهود باراك، كان جلاء القوات الإسرائيلية عن جنوب الليطاني والبقاع الغربي موضوع مناقشة ومنازعة إسرائيليتين داخليتين. وأدرج باراك الوعد بجلاء قريب وكامل، وحسم مسألة علاقة الدولة العبرية بالفصل اللبناني "الموحل"، في رأس برنامجه الحكومي. واختار الحزب الخميني المسلح الوقت الفاصل بين وعد باراك وبين إنجازه، قرابة السنة وبعض السنة ليشن أقسى هجماته على قوات الاحتلال وأعوانها المحليين.
"على نحو ما نصّب حزب الله المسلح نفسه، بطل التحرير العسكري (لجنوب لبنان والبقاع الغربي)، وقاهر العدو المتشعّب والمتناسل الأوحد، ينصّب نفسه، وحده، قاهر المرض الاقتصادي المميت"
وسعت هذه السياسة في كبح خطة باراك وإحراجه، بينما كان بشار الأسد، وهو يخطو خطواته الأولى على طريق تولي "الملف" اللبناني، يندد بعزم العدو على الانسحاب من لبنان، ويَحْمله على تغيير قواعد العلاقة السورية الإسرائيلية من طرف واحد، ومن غير تنسيق. وأرادت، في الوقت نفسه، ترهيب اللبنانيين المسيحيين، ومعظمهم بقي في بلاده مرغماً واضطر إلى مسايرة إدارة الاحتلال وطاقمها المحلي والمختلط، ونفي مَن استطاعت نفيه، وشراء وساطة مَن ينصّب نفسه وسيطاً ويحوز ولاء مَن توسّط لهم، ويستثمره في ولائه بدوره إلى جهاز الحزب المسلح ومرافقه، ولو بعد حين.
فحين تحقق، على وجه قريب من اليقين، وشك الجلاء الإسرائيلي عمد "حزب الله" إلى تكثيف عملياته. وقصد ببعضها إنزال خسارة قاسية في طاقم كبار الضباط، وقتل بعضهم قنصاً. وإلى مماشاة السياسة السورية، وإرادتها الربط بين الاحتلالين الإسرائيليين، في لبنان وفي سوريا، وخشيتها من أن يستتبع الجلاء الإسرائيلي مطالبة لبنانية بجلاء سوري (على ما حصل فعلاً، في خريف العام 2000، مع صدور "إعلان بكركي")، رمى الحزب الشيعي إلى الاستحواذ القاطع والكامل على "تحرير" يعود إليه، وإلى أعماله العسكرية، شطر راجح منه. ورمى، في الوقت نفسه، إلى استبعاد أضعف دور لغيره، ولغير جهازه، في الإنجاز، ولو أدى احتكاره، ومترتبات الاحتكار، إلى قلبه خسارة وطنية صافية.
قوانين الصراع
وربما يكرر "حزب الله" اليوم صنيعه بالأمس. فإذا صدق ما صدر عن الوسيط الأميركي من تقويم إيجابي للموقف اللبناني الرئاسي، وما حرص المفاوض الرئاسي على إشاعته، ويطابق تقويم الوسيط وتحكيمه (توزيع الحقلين المنفصلين، وإقرار خط متعرج يلغي ضرورة الشراكة، وصرف النظر عن مساحة المنطقة المتنازعة)، ترتب على ذلك أن الصفقة في حكم الناجزة. وترتب عليه أنها أُنجزت من طريق المفاوضات والديبلوماسية، الأميركيتين في المرتبة الأولى، ومن طريق تصنيف معاملات الدول على درجات القرب والفضل.
ويخالف هذا النهج في الحصول على مكاسب سيادية، تتعلق برسم الحدود، وبالحقوق الوطنية والعداوات والصداقات والوساطات- النهج "الثوري الإسلامي" المعلن. ويقوم هذا، على ما يعلن قادة "الحرس الثوري" الإيراني وفروعهم وأصداؤهم في أنحاء المشرق العربي، صبح مساء، على إجبار العدو وتركيعه ووقوفه على قدم ونصف (على ما كرر خطيب الحزب الأول طوال سنة "رداً" على قتل أحد كوادره بالقرب من دمشق قبل سنتين ونصف السنة) ورضوخه وردعه، إلخ.
ويدخل هذا في صلب "إدارة الصراع"، على ما يحب الحرسيون القول، إلى أي وطن عارض انتموا. وهو في صلب السياسة على وجه "المكاسرة"، على الاسم السوري الذي آذن بالحروب المتطاولة والميمونة والمستمرة. وهو ملخص لمعنى الولاية والبراءة، أو نظرية "الفسطاطين" في صيغتها البنلادنية، ومجتمع الحرب (وتهذيبه في صيغة "مجتمع المقاومة")، والمؤسسات الحاكمة فعلاً وراء الواجهة المدنية والدستورية. "لأنك قوة"، يهلل الخمينيون لـ"أبطالهم" وأئتمهم.
وتدرج خطابة الحزب، ولعل أبلغها في هذا المعرض خطبة الشيخ علي قاووق الجامعة، في 8 تموز/ يوليو الجاري، تحريك بعض الأدوات العسكرية المحتملة، وقبلها الاستخبارية والاستقصائية (الغواصة البحرية)، إلى التهديد الخطابي، في جهاز سياسي عريض وثيق الصلة بأحوال اللبنانيين الجارية، وأبرزها السقوط النقدي والمالي والاقتصادي.
فيسوغ الخطيب المأذون والنافذ التلويح بسلاح الجماعة الجوي والمسيّر بمكانة التنقيب عن النفط والغاز، ودوره في علاج السقوط المثلث ومحنته. ويصف استخراج الغاز، وهو المادة المرجحة، بالدواء الشافي، والوطني الجامع أولاً، للمرض الفتاك الذي يعانيه اللبنانيون. ويندب حزبه، وقوته وخبرته العسكريتين، إلى تحصيل الحقوق الوطنية. ويقارن بين هذا التحصيل وبين السابقة الأولى التي وصلت تأسيس "المقاومة الإسلامية"، في 1982، بالجلاء/ الإجلاء الإسرائيلي، في العام 2000.
وعلى نحو ما نصّب الحزب المسلح نفسه، بطل التحرير العسكري، وقاهر العدو المتشعّب والمتناسل الأوحد، ينصّب نفسه، وحده، قاهر المرض الاقتصادي المميت. وتعزو خطابته ومقالاته المرض الاقتصادي إلى العدو الذي انتزع منه الأرض والشعب: "الحصار" الأميركي والغطرسة الصهيونية والعمالة الداخلية والعلاج واحد: سلاح المقاومة وثقافتها ومحورها المحلي: حسن نصر الله (فعلاً) ونبيه بري (تحوّطاً) وميشال عون لسد الذرائع.
وإذا جاز علاج احتلال عسكري ثقيل وفظ بآلة عسكرية أهلية تضاهي الاحتلال عنفاً وقسوة، على رغم تبعات العلاج السياسية والاجتماعية الباهظة والمستدامة، فعلاج الكارثة النقدية والمالية والاقتصادية والاجتماعية بالتلويح المسيّر، وإخراجه المسرحي والخطابي، يفضح خواءً سياسياً باهظ التكلفة. وتعليل الأمر برغبة الحزب الشيعي المسلح في قطاف ثمرة التحكيم الأميركي، وتسجيله الشكلي في خانته قبل حصوله بعيداً من متناوله، قد يكون (التعليل) من قبيل الرأفة به، وبصواب أنصاره ومؤيديه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع