في ختام زيارتي باريس "تغيرت!"، تقول الصبيّة الزائرة وذات الأعوام التسعة تقريباً، وهي مواطنةُ بلدة فرنسية صغيرة ونائية تمضي أيامها رتيبة في ظل جرس كنيستها، وقضت يوماً واحداً في باريس، مدينة النور والصخب والحياة المتجددة وخلاف قبة الكنيسة، على قول كان شائعاً إلى أواخر خمسينيات القرن الماضي ولم يقتصر على الصحف "السيارة" العربية.
وتُفرج الصبية التي أدت دور زازي، بطلة رواية ريمون كينو (1903- 1976) "زازي في المترو" (1959)، في الفيلم الذي صوّر الرواية، وهي تجهر حكمتها المستخلصة من تقلبها بين أظهر عالم جديد كثير البشر والاختلاط والركض والأحوال، عن فم واسع، وأسنان لم تتخلص من آثار فرمها، وابتسامة ماكرة، وهي تنطق بتقرير تغيّرها.
ويروي جان بول سارتر (1905- 1980) في "الكلمات"، وهي سيرة طفولته، عن الرسام والنحّات ألبيرتو جياكوميتّي (1901- 1966)، أن سيارة دهمته وصدمته وهو يقطع شارعاً، ورمته أرضاً. فقال في نفسه، وهو يتلمّس مواضع من جسده ويتحقق من الحادثة وأثرها: "أخيراً يحدث لي شيء!". يريد أن وحده شيئاً مفاجئاً، ويلحق بالمرء أو الشخص أذىً قد يكون فادحاً، ويحيد تماماً عن السنن المعتادة والمتوقّعة، يستحق القول فيه إنه شيء يحدث، أو حادثة، ويُحتفى به إذا جاز القول على رغم ما يجرّه من ذيول ربما.
وبُعد الشقة بين زازي وجياكوميتي وبين لبناني مقيم ببيروت، اجتاز بلدَه وتاريخَه منذ "ثورة" 1958 أو "حوادثها" إلى انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، وبينهما جملة الحوادث الكبيرة والمديدة التي رسمت معالم نصف القرن المنصرم، أو كانت هي معالمه الحادة: النزوح، والتهجير، والتفرّق، وهجرة الأولاد، والإقامة الموقتة وبالإعارة، وعيش الكفاف إما من حاجة (حين بلغ سعر صرف الدولار الواحد نحو 700 ليرة لبنانية، في الفصل الذي سبق اتفاق الطائف، وراتب المدرّس الجامعي نحو 30 ألف ليرة) وإما من قلة المتاح- بعد الشقة هذا لا يُبطل السؤال: لماذا لا يسعني القول، أنا اللبناني صاحب السيرة الموجزة، على خلاف صبية المترو والرسام والنحّات الكبير، إني تغيرت وأخيراً يحدث لي شيء؟
ترجمة مستحيلة
وأنا أحصر كلامي في العامين ونصف العام الماضية، منذ أغلقت المصارف أبوابها في النصف الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر (2019)، وحجرت على الودائع، وقيدت السلطة النقدية سلفات الخزينة، وامتنعت من خدمة الدين وتسديد الفوائد على شطره الأجنبي، وتركت "الدفاع" عن سعر صرف العملة الوطنية، وتخلّت شيئاً فشيئاً عن تمويل الاستيراد وفتح اعتماداته، وانتهكت الاحتياط الإلزامي، تباعاً ومعاً.
فمذذاك، تعاقبت الحوادث "الجسام". فانشطر العالم، عالم الحياة اليومية والسعي اليومي، ومعاملة السوق ومرافقه الغذائية والكسائية والصيدلانية والاستشفائية والمدرسية والسكنية والنفطية والكهربائية والسياحية والسفرية والكتابية والإعلامية...- شطرين لا توسّط بينهما، عالم العملة الوطنية وعالم الدولار، واليورو استطراداً. واضطر السوقي، رجل السوق (و"امرأته")، وهو يكاد يكون الإنسان الصرف أو العاري إلا من إنسيته، إلى الترجُّح المضطرب والملحّ بين القطبين، وترجمة الواحد المستحيلة إلى الآخر في كل شأن من الشؤون.
والصورة الأولية للترجُّح وللترجمة المستحيلة هي قراءة أسعار السلع في المخازن أو الأسواق الكبيرة، بل "الكبرى". فما كان تمريناً روتينياً وآلياً يضرب السعر الثابت تقريباً بالليرة اللبنانية وآلافها الأساسية (ظل سعر الدولار الأميركي نحو 1500 ليرة طوال 26- 27 عاماً)، بـ1.5، انقلب عملية معقّدة تقارن السعر الجديد المعلن بالسعر السابق، وتستفظع الفرق الذي لم ينفك يتعاظم. ثم تنتقل العملية هذه إلى تسعير الثمن اللبناني المعلن بالدولار، على سعره الجاري والمتقلّب. فتصيب المحصلة "الزهيدة" المشتري المترجم بالخيبة والإهانة، ويضطر للإقرار بأن ما استهوله شطر دماغه وجيبه المحلي والوطني المعتاد، يستهونه (من الهوان؟) الشطر الأجنبي الذي لم يفارق يوماً حساباته الضمنية والسائرة، والمُطمئنة من قبل.
الوديعة
والسعران متزامنان، والاستهوال والاستهوان (أو الاستهانة)، والمقارنة بالماضي وتقرير الحاضر، واطراد الفروق واتساعها لا يقلّلان من فداحة الفروق ووطأتها. وتظلّل العملية المعقّدة التي تجمع الحسابات والمقارنات والترجمات واقعةً قاسية تذكر المودعين- والمليونان وستمئة حساب إيداع تذكّر اللبنانيين بما يقرب من المساواة بين المودع والمواطن (المواطن= المودع)- بمصير ودائعهم في الأثناء.
"يشهد صاحب الوديعة بالدولار اليوم تلازم أمرين: على قدر انتفاخ دولاره البعيد بمعادله اللبناني، يتضاءل أمله في استعادة ملكه أو حيازته"
فهي، حيث هي وقد لا يعلم أحد مكان "حيث" هذه أو ظرفها، لم تنفك تتعاظم قيمتها الاسمية إذا كان صاحبها أودعها بالدولار الأميركي أو حوّلها إليه، على ما صنع معظم اللبنانيين الذين أنجزوا دولرة وطنية لم تقل، منذ منتصف العقد العاشر، عن 72 في المئة، وحاذت 82 في المئة في أوقات الخوف والقلق.
ويشهد صاحب الوديعة بالدولار اليوم تلازم أمرين: على قدر انتفاخ دولاره البعيد بمعادله اللبناني، يتضاءل أمله في استعادة ملكه أو حيازته. والذين قسموا وديعتهم قسمين متساويين، واحداً بالعملة الوطنية وآخر بالنقد النادر، حذراً واحتساباً، يشهدون ذواء القسم الوطني، وهو المتاح لهم استعماله على شروط، بينما يحلّق القسم الأجنبي الممتنع، في وقت واحد.
فيضاف التحسّر الأليم والموجع إلى ضيق ذات اليد وقصرها الماثلين. وعلى مثال اثنينية أو ثنائية الأسعار والعملة، يصيب الانقسام الناس أنفسهم، تصنيفهم أنفسهم وتصنيف بعضهم بعضاً. فبعض أهل الدولار، وهذه نسبتهم، يرون أنفسهم طبقة على حدة، أهل صفوة و"نخبات"، على قول أحدهم، ويرون الآخرين، أهل الليرة، ملعونين ومساكين حط بهم الدهر.
التراكم
وعلامات الاصطفاء أو علامات اللعنة براهينها ظاهرة، ولا تتستّر على غيب يقلّب الجزاء بين إصبعيه، على قول المرجئة في الثواب والعقاب. فالكهرباء المتصلة، ومحروقات السيارة، وفاتورة الاستشفاء، وتكلفة الدراسة في المدارس والجامعات، والدعوات إلى المطاعم والسفر ترويحاً أو عملاً، وغيرها مثلها، لا تخرج من متناول الجماعة الأولى ولا تعصى رغبتها. وقد يترجّح الشخص الواحد بين الأهلين والجماعتين. فهو من أهل الدولار، مضطراً وإذا استطاع في شأن الكهرباء، ومن الأهل الآخرين إذا تردد على بائع الخضار أو الخبز أو اللحمة.
فعلى الواحد، وهو في منزلة بين المنزلتين، ترجمة موضعه على الوجهين والحالين. وينتابه ما ينتاب المتنقّل مرغماً بين الأسعار بالعملتين: مشاعر الاستحالة والقلق والحاجة إلى تكرار الحساب وحمله على موازنته (موارده ونفقاته) طوال الشهر، وربما فوق الشهر والشهرين. فهو إذا وسعه تسديد نصف ثمن أدويته ببطاقته المصرفية، إلى اليوم، لم يسعه تسديد غير ربع حساب مشترياته في معظم المخازن أو الأسواق، منذ نحو شهر وبعض الشهر. وبعض المحال علّق على مدخله الزجاجي، بالإنكليزية وبخط عريض، أن النقد بالعملة الورق "وحده" سارٍ ومقبول. وقد يمهّد الشرط الجازم هذا إلى حصر التسديد بالدولار الأميركي.
"بعض أهل الدولار يرون أنفسهم طبقة على حدة، أهل صفوة و‘نخبات’، على قول أحدهم، ويرون الآخرين، أهل الليرة، ملعونين ومساكين حط بهم الدهر"
فإذا بجزء من موارد "صاحب السوق أو المتردد عليه" النقدية الوطنية ممتنع من الصرف اليومي والحيوي، بينما يحبس المصرف جزءاً من مدخوله الشهري، قد يبلغ ثلث هذا المدخول. وتعليل الحبس هذا هو تجاوز المبلغ، إذا جمع إلى المبالغ المسحوبة السابقة، عتبة أو حد الثلثين الجائزين.
فـ"يتراكم"، وهذا من وجوه القول لا غير، في حساب المودع (وراتبه ليس وديعة بل هو أمانة، على المصرف المؤتمن عليها نقلها من غير أن يمسها) مال يعود إليه شرعاً وقانوناً وحقاً، ولا سبيل له إلى صرفه أو التصرف به. ويتكرر الحبس والتراكم في الشهر التالي، والشهر الذي يليه. فـ"يثري" صاحبنا، أي حسابه المصرفي الاسمي، وتذوي قيمة ماله المتحركة نزولاً على سلم القيمة الأساس، على قول بيانات المصارف المركزية.
الشعبان
ويرى اللبناني "السوقي"- وهو معظم اللبناني في الأحوال السائرة الراهنة، المصلوب على التسعير والحساب المزدوجين والعسيرين على ترجمة مفهومة ومعقولة- أن تسليمه بهذا المنطق لا يحصنه من الأحاجي والطلاسم. فكيف يُعقل أن زيادة سعر سلع أساسية مثل غاز الطبخ وبنزين السيارات ودقيق أو طحين الخبز اليومي، وقرب هذه الزيادة من مسايرة الزيادة الاسمية التي طرأت على سعر صرف الدولار (وهي 19 ضعفاً إلى اليوم: 28 ألفاً مقسومة على 1.5، السعر عند النقطة الأولى، وأفق الـ82 ضعفاً الذي بلغه السعر هذا في ميزان الليرة السورية يؤذن بمخاض واعد)- كيف يُعقل أن تؤدي هذه الزيادة إلى التهافت على مخازن التعبئة ومحطات الأفران؟
فلا يقتصر الازدواج بهذه الحال على التسعير والحساب، ويتطاول إلى "الشعب". فشطر منه، على هذا الظن، خرج سالماً معافى من نكبة التحويل والوديعة والحجر المركبة (واسمها الشعري "قص الشعر" أو هيركات). أما كيف فمسألة يعود أمر تصويرها أو صوغها في حلّة سيناريو إلى الحكايات.
فلا شك، على ما تذهب إليه إحدى الحكايات، في أن الخمسة مليارات دولار أو ستة- والأرقام في هذا المعرض ليست وجهة نظر بل هِبَةُ مخيلة- التي خزّنت في البيوت قبل أسبوعي غلق أبواب المصارف في النصف الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، معين أو كنز لا يفنى، شأن الصبر في الحكمة السليمانية.
وعلى المثال الحكائي والبنيوي نفسه، لا شك في أن المليارين ونصف المليار دولار، أم الأربعة؟ أم الستة؟ التي هرّبت إلى الخارج ومصارفه الحصينة والأمينة، هي مصدر النعمة التي لا تفارق جيوب "شعب الدولار" وسياراته وكهربائه وأسفاره واستهلاكه السلع المستوردة. وصيغة الحكاية الشعبية تذكر بأن اللبنانيين، منذ أعوام مديدة والكلام يدور على المداخيل غير المنظورة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، يعتاشون جزئياً على تحويلات مشروعة ومعلنة وأخرى ملتبسة ومستترة.
وها هم اليوم، منذ بوادر تدنّي الموجودات الأجنبية في بند الاحتياط، يتعلقون بالمليارات السبعة السنوية التي تنزل عليهم من المهجرين والأقرباء نزول المنّ والسلوى في الصحراء القفر، من دون أرض ميعاد على مرمى النظر. وهؤلاء الذين يُهدَوْن المئة أو المئتين أو الأربعمئة دولار في الشهر، في حوالات من طريق شركات هذه "شغلتها" (على قول دعايتها)، هم بروليتاريا "شعب الدولار" وأهل مرتبة متوسطة ربما في "شعب الليرة". وأهل المراتب العليا في هذا الشعب هم أصحاب العوائد المتحركة، الذين يسابقون نازع العملة الأميركية إلى التحليق وغالباً ما يسبقونه.
الأقاصي
وعلى خلاف بعض الظن، لا تعف المفارقات والنقائض والاستحالات التي مر الكلام على بعضها عن معاملات اللبنانيين البينية، ولا تقتصر على الدقائق اليومية الاستهلاكية والسوقية، وعلى المداخيل واحتسابها. والأرجح أن الانقسام النقدي والمالي، التسعير بالليرة على خلاف الدولار وبالدولار على خلاف الليرة، وما يجرّه من سعرين متزامنين، متلازمين ومتنافري التقويم والوقع- هذا الانقسام مشتق من مثال انقساماتنا الأخرى.
فـ"أحزابنا" التي نعرّف بها خلافاتنا كلها أحزاب حربية و"وجودية". فمن "الكتائب" إلى "القوات اللبنانية"، ومن "أفواج المقاومة اللبنانية" (أ. م. ل.) إلى "المقاومة الإسلامية" (أحد أسماء "حزب الله"- الغالبون، على ما كُتب الاسم في أوقات أولى)، تزف هذه الأحزاب بشرى الانتصارات الموعودة والمؤيَّدة بضمانات لا تُخلف. ومن انتسب إلى أسماء مدنية ودنيوية، مثل التغيير والإصلاح والوطنية والحرية والديموقراطية...، لم يفته التنبيه الانتخابي إلى أنه "باقٍ".
وتضمر عزيمة البقاء رداً على أعداء يتربّصون الدواهي، والموت أضعفها، بأهل العزائم المقاتلين والمهدّدين بالقتل، على زعمهم. ويتوعّد الرد الأعداء بالسحق. ويسبق النفيُ من الحياة السياسية السحقَ المرجأ. فليس ثمة من يجهل، بين الأعداء، جماح عدوّه المحتّم إلى أقاصي العداوة والعنف، على تعريف كلاوزفتيز العمل الحربي "المثالي".
وعلاقة الأعداء بعضهم ببعض لا تتغير، وهي مقيمة على ثباتها المميت، على خلاف قول زازّي الفرح والمستبشر خيراً. والقتل نفسه ليس حادثة تحدث، على خلاف تقرير جياكوميتّي حين صدمته السيارة بينما هو يعبر الطريق. وأعداؤنا، اللبنانيون الأعداء، تستحيل عليهم ترجمة عداواتهم، المتزامنة والمتلازمة، إلى "تسعير" مشترك. فما يراه الواحد ثمناً باهظاً، في حساب عملته، يراه عدوه رخيصاً وتافهاً. والآية تعكس. ولا ينفك العَدُوّان من تداول العملتين، ومن صرفهما في سوق واحدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...