كان استاد تشيلي الرياضي يَغصّ بالمحتجزين الشيوعيين بعد انقلاب عام 1973. في ذلك الوقت سيطر التعذيب والخوف على المكان المفتوح حتى تردد صدى الموت في المحيط، فألقى أحد الضباط المشاركين في الانقلاب أمام قدميه عقب سيجارته بعد أن مجّ نفسها الأخير آمراً أحد المحتجزين بأن يزحف ليقترب من العقب، حاول المُحتجز الاقتراب وهو يجر ألم التعذيب والقهر فوق ظهره، وما إن مدَّ يديه حتى قام الضابط بسحق ساعده وأصابعه بحذائه العسكري فكسرها وقال له: اعزف الآن إن استطعت يا فكتور جارا.
ولد المُغني والكاتب والمسرحي وأحد أعضاء الحزب الشيوعي التشيلي فكتور جارا في قرية "لونكون" التي تبعد عن سانتياغو العاصمة خمسين ميلاً، عام 1932 . وككل أبناء القرى عاش فيكتور حياة الفلاح ونام نومتهم وشارك في الحصاد واستمع لحوار السنابل مع الريح في أيام الصيف، ولنشيد النساء في ليالي السمر، لا سيما أن أمه كانت تُردد الأناشيد وتعزف على الغيتار وتنتحبُ على قبور الموتى، ثم شاءت الظروف بعد مرض أخته أن تنتقل العائلة إلى العاصمة سانتياغو كي تستطيع العلاج، وأخذت المدينةُ الفلاحَ الصغير، حتى صار أستاذاً للمسرح في جامعتها، ومغنيها الأشهر على الإطلاق وقتيلها الذي لا يشبه في موته أحداً.
الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 1973… يوم تغير فيه وجه تشيلي
انتشر القناصة، وحاصرت الدبابات المناطق المأهولة في العاصمة التشيلية سانتياغو مع بدء تنفيذ قادة القوات المسلحة التشيلية بقيادة رئيس هيئة أركان الجيش الجنرال أوغستو بينوشيه الانقلاب على حكومة الرئيس سلفادور أليندي الاشتراكية، مدعوماً من الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تخشى أن تشكل الحالة التشيلية تجربة اشتراكية ديمقراطية ناجحة في المنطقة، فلم تجد طريقة لخلع أليندي إلا عبر التشكيك بنزاهة الانتخابات، فذهبت إلى الحل السريع وهو الانقلاب العسكري.
شاءت الظروف بعد مرض أخته أن تنتقل العائلة إلى العاصمة سانتياغو كي تستطيع العلاج، وأخذت المدينةُ الفلاحَ الصغير، حتى صار أستاذاً للمسرح في جامعتها، ومغنيها الأشهر على الإطلاق وقتيلها الذي لا يشبه في موته أحداً
قضى الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور أليندي في عملية حصار وقصف بالطائرات لقصر "لامونيدا" الرئاسي في العاصمة سانتياغو وهو يُردد في خطابه الأخير قبل نجاح الانقلاب أنه لن يستسلم أو يخضع للتهديد وسوف يفدي إرادة مواطنيه بدمه، وهو ما حصل، ومات أول رئيس ماركسي منتخب ديمقراطياً في العالم، في وقت كان يشهد العالم صراعاً كبيراً بين المد الشيوعي وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
"لا يمكن أن تكون لديك ثورة دون أغانٍ"
هذا ما كان مكتوباً على لافتة خلف الرئيس أليندي في خطابه الشهير عقب فوزه بالانتخابات الرئاسية في أيلول/سبتمبر 1970، ما يعطينا خلفية واضحة عن مدى تأثير فيكتور جارا في المزاج الشعبي الثوري آنذاك، وما شكلته أغانيه وكلماته من تثوير للحالة الشعبية ومدها بالطاقة العاطفية والروحية التي دفعت بالاشتراكية إلى سدة الحكم. علم فيكتور هذا الأمر فقرر ترك العمل في المسرح لأن جمهور المسرح قليل ولا يعطيه ذلك الشعور الذي تمناه، فالتفت إلى الأغنية التي تنتشر بسهولة ويسر في المجتمع ويستمع إليها الجميع ويتفاعل معها، رغم حرصه على استمراره بتدريس المسرح في الجامعة التي اعتقل منها واقتيد إلى ملعب تشيلي وقتل هناك.
كان جارا مؤمناً تماماً بأهمية الشعار والأغنية في وجه الدكتاتورية والاستعمار، وقد مثل مع مجموعة من الفنانين مثل وسيرخيو أوتريخا وآنخل بارّا، إعادة إنتاج للأغنية التشيلية بقالبها الحديث الذي يشتبك مع الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد حيث شكلّت الموسيقى أداة اشتباك مستمرة مع النظام الحاكم. في لقاء تسجيلي عُرض على منصة "نتيفلكس" بعنوان "مذبحة في المعلب" يقول جارا:"لقد سئمنا الموسيقى التي لا تعالج قضايانا، التي ترفه عنّا للحظة عابرة، ثم تتركنا خاوين من الداخل". لهذا كان جارا يفضل تسمية "الأغاني الثورية" على أي تسمية أخرى.
كل الثورات بحاجة إلى الأغاني والشعر، فهي المحرك الأساسي لعاطفة الجماهير، وهي التي تخلق الشعار الذي يستحيل سلاحاً بيدها، لهذا كان وجود فيكتور جارا ضرورة ليشكل رمزًا لقوة الشعب، فالأغنية هي القوة الفاعلة التي تعمد عليها الحالة الثورية، هي طريقة التفاهم الوسطية التي يسهل على الجماهير استيعابها بدلاً عن الخطب الجافة والحديث الدبلوماسي، لهذا كان فيكتور جارا لسان الحالة الثورية في تشيلي ويدها التي تحمل الراية. لهذا قتلوه بشكل قاسِ بعد اعتقال مئات الطلبة واقتيادهم إلى الملعب ثم اختاروا فيكتور من بينهم وقتلوه بعد تعذيب امتد لأيام داخل الملعب الذي حمل فيما بعد اسمه والذي ردد فيه كلمات أغنيته الشهيرة "سننتصر سننتصر" وهو ينزف دماً ويرتجف من الخوف والقهر، لكنه كان مؤمناً بكلماته التي كانت تذاع في كل وقت خلال الحملة الانتخابية للتحالف الذي قاده الرئيس أليندي لخوض انتخابات 1970.
"الذي خلق من جزمة أفقا"
قد فعلها فيكتور جارا قبل أن يفكر فيها محمود درويش، وخلق من الجزمة أفقاً عندما كتب آخر أغانيه تحت وطأة التعذيب وهرّبها في حذاء أحد المعتقلين ليصف لنا المشهد الأخير في حياته، والمشهد الأبدي للخلود فكتب يقول:
عيوننا تحدق إلى الموت
أنا أعيش لحظات لانهائية
حيث الصمت والصراخ صدى غنائي
كتب ذلك قبل أن تخترق ثلاثون رصاصة جسده في السادس عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1973، مع أن رصاصة واحدة كانت تكفي لقتل الجسد، لكن ما فعلته روح وكلمات وأغاني فيكتور جارا الثورية امتد في نفوس الجماهير واستقرت فيها وشكلت رافعة يستمد منها كل الثوريين الإلهام والقوة.
قد فعلها فيكتور جارا قبل أن يفكر فيها محمود درويش، وخلق من الجزمة أفقاً عندما كتب آخر أغانيه تحت وطأة التعذيب وهرّبها في حذاء أحد المعتقلين ليصف لنا المشهد الأخير في حياته
عاش فيكتور جارا بشجاعته وموته وأغانيه، وإصرار زوجته جوان على تحقيق العدالة بعد أربعة وسبعين عاماً من النضال، إذ قضت محكمة مدنية في ولاية فلوريدا الأمريكية عام 2016 بمسؤولية الضابط السابق في الجيش التشيلي بيدرو بارّينتوس عن مقتل فيكتور جارا، إضافة إلى إدانة ثمانية ضباط بالضلوع في الجريمة، وعقب صدور الحكم قالت جوان جارا (94 عاماً): "أنا واحدة من المحظوظات، فلا يزال الكثيرون هنا في تشيلي لا يعلمون مصير أحبائهم، وهذا هو المصير الأسوأ". عام 2003 أعيد تسمية ملعب تشيلي ليصبح ملعب فيكتور جارا، ليخلد المقتول، ويُنبذ القاتل متستراً بعاره، فالثوار لا يموتون أبدًا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين