في كل مرة أشاهد فيلم "الحب في الثلاجة"، الذي قام بإخراجه سعيد حامد عام 1992، أقول لنفسي: من أين أتى الفنان يحيى الفخراني بتلك الجرأة التي دفعته لتقديم عمل فني خارج سياق زمنه؟ ليس فقط في بداية التسعينيات، أي وقت عرض الفيلم، بل حتى الآن.
أعدتُ التساؤل مرة أخرى عندما شاهدت فيلم "برا المنهج"، الذي أخرجه عمرو سلامة عام 2021 وعُرض مؤخراً على إحدى المنصات الإلكترونية. في هذا الفيلم، يناقش ماجد الكدواني، بطل العمل، ثنائية شجعان التاريخ وجبنائه من خلال محاكاة لشخصية أحمد سعيد، مذيع صوت العرب الذي أذاع أنباء كاذبة عن انتصار المصريين في نكسة حزيران/ يونيو 1967. كما يناقش إشكالية التاريخ "الموجّه" الذي ندرسه في مناهجنا التعليمية، ويسلّط الضوء على الوجه الآخر المجهول لكل قصة تاريخية.هل سيكون الكدواني نسخة أخرى من علاء ولي الدين؟
ورغم أن السياق العام للفيلم يشبه الأفلام التسجيلية أو الوثائقية أكثر من كونه فيلماً تجارياً، ورغم أن نجومه ليسوا من "نجوم الشباك"، فإن ذلك لم يكن غريباً على الممثل ماجد الكداوني، الذي أبرز نجوميته في مشواره السينمائي، وصولاً إلى "برا المنهج"، سواء في الأعمال التي تولى هو بطولتها، أو في الأفلام التي شارك فيها بشكل فرعي، وجسّد شخصيات أضفى عليها لمسته التي ستظل محفوظة باسمه.
والمتتبع لمشواره الفني، يُدرك أن هناك مرحلتين في حياته الفنية. أولاهما مرحلة ظهوره المبكر ضمن موجة الوجوه الشبابية، التي بدأت بفيلم "صعيدي في الجامعة الأمريكية"، إخراج سعيد حامد، عام 1998. ورغم الأعمال العديدة التي قدّمها الكدواني، لم يلفت الأنظار بقوة، حتى عام 2001. وذلك حين قدّم فيلم حرامية في كي جي تو، إخراج ساندرا نشأت، عام 2001، مع صديقه كريم عبد العزيز. وهنا، ظهرت أول ملامح التمرّد عند الكداوني الذي لم يستسلم لنظرية "الكوميديان صاحب الوزن الزائد" والمُعتمد على مواصفاته الجسدية. فرأيناه يُقدم كوميديا تقوم أساساً على طريقة الإلقاء وتعبيرات الوجه والمواقف. وهو ما جعله متمرداً منذ اللحظة الأولى، وإن كان تمرداً دون صخب.هذا التمرد ظهر بشكل أقوى عام 2003 حين توفي الممثل المصري علاء ولي الدين واستعان محمد هنيدي بالكدواني في فيلم عسكر في المعسكر، ليُطرح التساؤل: هل سيكون الكدواني نسخة أخرى من علاء ولي الدين؟ وبخاصة أن الاثنين متقاربان في الجسد. ورغم نجاح الفيلم، أدرك الكدواني فخ التنميط الذي وقع فيه نجوم كثر ظلوا طوال حياتهم محرومين من إخراج كل قدراتهم الفنية. ورغم أن التنميط يُجلب أعمال أكثر، قرر الكدواني القفز في الفراغ بتقديم أولى بطولاته "جاي في السريع"، من إنتاج عام 2005، الذي لم يلقَ أي نجاح تجاري.
شارك ماجد الكدواني في أعمال كثيرة كبطل ثانٍ أو ثالث أحياناً للعمل. ولكن، مع كل دور، كانت هناك بصمته التي جعلته يقدم الشخصية خارج الإطار الذي اعتاده الجمهور
منذ تلك البطولة، شارك الكدواني في أعمال كثيرة كبطل ثانٍ أو ثالث أحياناً للعمل. ولكن، مع كل دور، كانت هناك بصمته التي جعلته يقدم الشخصية خارج الإطار الذي اعتاده الجمهور. ففي فيلم "لا تراجع ولا استسلام" – وهو فيلم مصري أنتجته الشركة العربية للإنتاج والتوزيع السينمائى عام 2010 - يجسّد دور رجل الأمن الكوميدي. وفي "طير أنت" – فيلم مصري تم إنتاجه عام 2009 - يؤدي دور "العفريت" بعيداً عن الصورة النمطية. وهكذا استمر حتى عام 2015 حين بدأ مرحلته الثانية بأفلام من بطولته.
وبعكس السائد، حين يبدأ الفنانون بطولاتهم، فإنهم يعتمدون على سمات فنية مضمونة جماهيرياً على الأقل لضمان استمرارهم في موقع البطولة. ولكن الكدواني لم يعتمد تلك النظرية. وقرر تقديم أفلام بأفكار مختلفة عما يقدمه نجوم جيله. بل إنها أعمال تحتوي على أفكار فلسفية مركبة كفيلم "الأصليين" (فيلم مصري من إنتاج عام 2017) الذي يناقش فرضية: ماذا لو أدرك الإنسان حقيقة من حوله، وعرف بماذا يفكرون؟ ويشرح ماذا يفعل الإنسان لينجو من الظلم الواقع عليه في بلده. وبالطبع، هذه كلها أفلام خلت من "الخلطة الشعبية" القادرة على تسويق العمل، فلا نجم "درجة أولى" أو أغنية أو فرح شعبي يمكث في ذاكرة الجمهور. ما يفعله ماجد الكداوني يشبه إلى حد كبير ما فعله الممثل المصري يحيى الفخراني الذي بدأتُ به المقال. إذ إنّ الأخير قدّم أفلاماً خارج سياق زمنه وجيله، سواء "الحب في الثلاجة" أو "مبروك وبلبل" أو "عودة مواطن" أو حتى "خرج ولم يعد" الذي لم يُفهم جيداً إلا بعد عرضه بسنوات. وهي أفلام لم تلقَ نجاحاً تجارياً. واحتوت على أفكار فلسفية مُركبّة. ولكن الفرق هو أن الفخراني وجد في الدراما التلفزيونية ملاذاً آمناً لصنع نجوميته بتقديم أعمال جماهيرية. فيمكن اعتبار أن السينما بالنسبة له كانت بهدف تحقيق ما يريد، بصرف النظر عن حسابات المنتجين ومتطلبات السوق.إن تلك الأعمال ستبقى طويلاً وسُتشاهد من عدة زوايا كما يحدث مع تلك النوعية من الأفلام. وربما كان خروج الكدواني عن المنهج بهدف أنْ تشاهده الأجيال المقبلة. ففي النهاية، ينسى الناس الإيرادات ويتذكرون الفيلم فقط
أما الكداوني، فربما طريقه أصعب، لأنه لم يحقق الجماهيرية القوية في الدراما رغم أن معظم أدواره لاقت قبولاً جماهيرياً. ولكن في النهاية، ليس له مشوار درامي يُمكن الإشارة له مقارنة بزملائه. رغم ذلك، هو يصر على تقديم ما يراه بالطريقة التي يريدها وتخطّي كل المقاييس التنميطية.
وأخيراً، وسواء أراد ماجد الكدواني ذلك أم أنه يفعل ما هو مقتنع به بصرف النظر عن النتائج، فإن تلك الأعمال ستبقى طويلاً وسُتشاهد من عدة زوايا كما يحدث مع تلك النوعية من الأفلام. وربما كان خروج الكدواني عن المنهج بهدف أنْ تشاهده الأجيال المقبلة. ففي النهاية، ينسى الناس الإيرادات ويتذكرون الفيلم فقط.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...