ليس ارتداء القناع هو مجرد ارتداء وجه آخر، فالمقنّع يتكلم بصوت غير صوته، وتسلك حواسه مسلكاً غير مسلكها الطبيعي؛ ارتداء القناع يحوّل الشخص لآخر فيصبح الخط الفاصل بين الواقع والوهم خيطاً رفيعاً وضبابياً.
تَحمل الحفلات الطقوسية المقنعة طابعاً خاصاً، وهي غالباً جماعية وتقام طلباً للتسلية أو المرح أو تأكيداً على الهوية الثقافية في شكل رقص أو موكب استعراضي، ومن الحفلات التنكرية أيضاً ما هو منغمس في الطقوس الدينية أو الاجتماعية.
إفريقيا... الأقنعة التي تصل بين عالمين
على مدار أكثر من عقدين وثَّقت المصورة الفوتوغرافية "فيليس غاليمبو" التقاليد الثقافية والدينية في إفريقيا والشتات الإفريقي في كتابها "قناع"، فقد سافرت إلى جميع أنحاء غرب إفريقيا ووسطها، إضافة إلى هايتي حيث شاركت في أحداث تنكرية جسدت الاحتفالات الإفريقية التقليدية وحفلات الأزياء والكرنفالات المعاصرة التي تستخدم فيها الأزياء وطلاء الجسم والأقنعة لخلق شخصيات أسطورية.
على مدار أكثر من عقدين وثَّقت الفوتوغرافية "فيليس غاليمبو" التقاليد الثقافية والدينية في إفريقيا في كتابها "قناع" حيث شاركت في أحداث تنكرية جسدت الاحتفالات الإفريقية التقليدية
كثيراً ما عكست صورها الفوتوغرافية التسلية وروح الدعابة، وغالباً ما جاءت مظلمة ومخيفة، فهي توثق وتصف القوة التحويلية للقناع، مع عنوان مشتق من كلمة الكريولية الهايتية "ماسكيه".
جهزت غاليمبو كاميراتها وأضواءها لتلتقط صوراً تجسد اللباس الطقوسي وتفرده، ولتتحسس دبيب الأرجل الراقصة في الحفلات المقنعة في إفريقيا حيث يكون المتنكر في زي نسائي رجلاً وليس إمرأة.
على غرار المسرح اليوناني القديم ووفقاً لكتابها، فإن الحفلات المقنعة الإفريقية تعكس مجتمعات يهيمن عليها الذكور، فالأقنعة تربط من يرتديها بعالم الأرواح كما يعتقدون، وهي مصدر الويلات والمخاطر كما يؤمن "السيراليون". هناك شخص يتقمص روح غزال في إشارة إلى ثقافة الصيد الشائعة، وقد يرتدي القناع التقليدي من الخشب المنحوت مع قفازات عصرية مستوحاة من الأفلام الأمريكية التاريخية، وقد يحمل المقنع مسدساً وهاتفاً أسود قديماً بخيوط على جسد مطلي بسواد الفحم ليجسد أو يرمز لمعاناة العبيد في هاييتي.
التنكر في السينما
شكّل التنكر جزءاً من العناصر النمطية التي فرضت نفسها على معظم الأفلام المصرية في الربع الأول من القرن العشرين، وشكّل أيضاً ثيمة في العديد من الأفلام كجزء من التوابل التجارية للترويج السينمائي. نرى في كتاب (العناصر النمطية في السينما المصرية) لمؤلفه نبيل راغب نماذج من هذه الأفلام، فنقرأ مثالاً يعود إلى العام 1935: "أخرج ألكسندر فاراكاش فيلم بواب العمارة من تأليف بديع خيري، وبطولة علي الكسار، وفتحية محمود، وكوكا، وبشارة واكيم. يبرز هنا نمط البواب والخادمة واللصوص، كذلك ثيمة الانتحال أو التقمص أو التنكر في شخصية أخرى، فنقابل عثمان بواب إحدى العمارات الذي يحب الخادمة فلّة ويحدث أن يسطو اللصوص على العمارة فيُتهم عثمان بالإهمال ويُطرد من عمله. من المفارقات غير المنطقية بعد ذلك أن يعمل في خدمة رجل أعمال أمريكي يطلب منه انتحال شخصية الخطيب في حين أن مظهره لا يمكن أن يقنع الخطيبة بذلك".شكّل التنكر جزءاً من العناصر النمطية التي فرضت نفسها على معظم الأفلام المصرية في الربع الأول من القرن العشرين، وشكّل أيضاً ثيمة في العديد من الأفلام كجزء من التوابل التجارية للترويج السينمائي
ومن نفس الكتاب: "أيضاً يبرز التنكر في شخصية أخرى من خلال شخصية عبده الموسيقي المغمور المتزوج نادرة ذات الصوت الجميل والتي تساعده في عمله لكن أرباحها قليلة، لذلك يقرر أن يقدّمها للإذاعة التي كانت قد افتتحت حديثاً حتى يستغل مواهبها على نطاق واسع، ويحدث أن يلاحق أحمد أحد تلاميذ عبده في نفس الوقت الذي يضطر فيه عبده للسفر إلى عمه المريض لعله يرث بعضاً من ماله، لكنه يشفى. يستلم عبده خطاباً عن خيانة زوجته، فيتفتق ذهنه عن إيهام الجميع بأنه مات منتحراً ويختفي ثم يتنكر في هيئة شخص آخر، وكانت نادرة قد انهمكت في العمل في الإذاعة لحاجتها الشديدة للمال. يستغل أحمد انتحار زوجها فيتقدم لطلب يدها لكنها ترفضه احتراماً ووفاءً لذكرى زوجها، عندئذ يتأكد عبده من إخلاص زوجته وحبها له فيعود إليها".
في أفلام أخرى يصبح التنكر جزءاً من القصة المحكمة كما في فيلم جريمة في الحي الهادئ لحسام الدين مصطفى والمنتج في العام 1967، وتدور أحداثه في أواخر الحرب العالمية الثانية حيث كانت العصابات الصهونية تحاول أن تفرض وجودها في قلب الوطن العربي، فتضع عصابة "نسترن" مخططاً محكماً لاغتيال اللورد موين الوزير البريطاني المقيم في القاهرة والذي لا يعجبه موقف بلاده من إسرائيل على حساب صداقة العرب. سعت العصابة إلى التخلص منه وإحراج مصر فأرسلت شابين مدربين على التنكر لمهمة قتله، لكن المباحث المصرية تنجح في كشف دوافع الجريمة.
من سارتر إلى أحمد زكي
ثيمة التنكر ليست حكراً على الأفلام. فكثيراً ما استُخدمت لخلق مواقف فكاهية في أشد المواضيع جديةً، وفق هذا المفهوم كتب الفيلسوف الفرنسي سارتر للسينما العديد من السيناريوهات، يقول د. علي شلش في كتابه (في عالم السينما): "في فيلم الأنوف المستعارة نجد كل شخصيات الفيلم تقريباً ترتدي أنوفاً مستعارة مضحكة تنفيذاً لأوامر ملك مجنون أحمق يذكرنا بالخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، كثيرة هي المواقف التي تبعث على الاستغراق في الضحك، لكن المتفرج أو القارئ الذكي لا يلبث أن يدرك عمق الفكرة التي يقصد إليها سارتر".لكن أحياناً يصبح دور السينما أهم، وهو توثيق حالة تنكر تاريخية، كما في فيلم أيام السادات لمحمد خان بطولة أحمد زكي من العام 2000، وهو رصد هروب السادات في شبابه بعد مقتل أمين عثمان من ملاحقة البوليس، إذ عمل متنكراً في المحاجر وحمالاً في المزارع وسائقاً خلال فترة تنكره واختبائه.
الأطفال خير من يجيدون التقمص
هناك من يرى أن رغبة الأطفال في التنكر تعد شكلاً من أشكال ما قبل المسرحة، وهي مقولة تستند إلى نظرية أن الخلق الدرامي ظاهرة كونية وتعبير نموذجي بالنسبة لكل الثقافات والمجتمعات.
فيلم أيام السادات لمحمد خان رصد حالة تنكر حقيقية في هروب السادات فترة شبابه ، وعمله متنكراً في المحاجر وحمالاً في المزارع وسائقاً خلال فترة اختبائه
تروي سحر محمد وهي ربة منزل تجربتها مع تنكر أطفالها: "يهوى أطفالي التنكر، ففي كل زيارة لنا إلى الحدائق العامة يختارون أن يُرسم على وجوههم شكل من أشكال الحيوانات بمساعدة راسمي الوجوه هناك، وفي أعياد الميلاد يشترطون إحضار الأقنعة التي تخص شخصيات كرتونية يعشقونها مثل "سبايدرمان"، وبمجرد ارتدائها يتقمصون حركات الشخصية ذاتها".
تؤكد كاتبة الأطفال المصرية فاطمة المعدول على أهمية الأقنعة بالنسبة للطفل قائلة لرصيف22: "يستمتع الأطفال بلعبة التنكر بسبب حبّهم لتقمص شخصيّات الأقنعة التي يرتدونها، سواء أكانت شخصيّات كرتونيّة أو خياليّة أو حيوانات، وهو شكل من أشكال اللعب الذي ينمو بشكل فطري، فالتنكر يحمل دهشة ويحتوي على عنصر المفاجأة حتى للطفل نفسه".
الزار والفوضى الإيروسية
يذهب بعض المختصين في الأنثروبولوجيا الدينية إلى اعتبار حفلات الزار مناسبة للتنكر تبلغ درجة يمكن تسميتها بالـ"الفوضى الإيروسية" حيث تتوالى مشاهد الغناء والترتيل وتقديم القرابين، تُلطخ سيدة الحفل بدم الأضحية ويمتلئ البيت بالمدعوات اللواتي يحطن بصاحبة الزار وهي في ثيابها البيضاء، حيث تستمر الأخريات بالعزف وقرع الطبول والنفخ في المزامير.للزار طرائق عديدة منها البحيري والصعيدي والعربي والسوداني، وتختلف من حيث الإنشاد والإيقاعات والملابس. فالبحيري يتم بالملابس البلدية من عصا وكوفية وجلباب طويل وقلنسوة على الرأس، والصعيدي يجري ب قماش خفيف مطرد، والعربي يُلبس له الكوفية والعقال والعباءة، أما السوداني فيُلبس له ملابس بيضاء والتزين بالودع وحوافر الحيوان.
للزار طرائق عديدة منها البحيري والصعيدي والعربي والسوداني، وتختلف من حيث الإنشاد والإيقاعات والملابس
يذكر كتاب "المأساة والرؤية المأسوية في المسرح العربي الحديث" للكاتب عبد الواحد إبن ياسر مظاهر التنكر في الحفلات الدينية: "تكتسي حفلات عاشوراء بطابع احتفالي في مجتمعات المغرب العربي، ويختلط فيها الإيماء بالتنكر بألعاب الأقنعة بالرقص بألعاب النار بالكرنفال، وقد كانت تقام في مناطق ورغلة وبسكرا في الجزائر، وفي مناطق مراكش والصويرة بالمغرب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين