تحمست كثيراً للمشاركة في جني الفستق، وبعد التنسيقات قطعت مسافة ساعتين ونصف بالسيارة نحو شرق إيران، حيث الأراضي مترامية الأطراف والتي لا تغيب الفواكه المجففة عن أي زاوية من زواياها.
دخلتُ مدينة "رُشتْخَوار" حيث تقع قرية "فَرامِيشَان" بالقرب منها، وهي شبه خالية من السكان، وبعد أن توجهت نحو البساتين، ووصلت إلى مزرعة السيد درويشيان، وجدت صغير القرية وكبيرها هناك، فبدا لي أنني تأخرت في الوصول عن بقية العمال الذين يصل عددهم 150 فرداً.
تَسعُ الحديقة الواسعة لـ150 هكتار تضمّ أشجاراً لا يتجاوز ارتفاعها مترين. تبدأ عملية قطف عناقيد الفستق أو ما يسمى بالفارسية "پِستِه" باليد لـ6 ساعات متواصلة يومياً، تجربة جميلة ومتعبة في نفس الوقت!
أخذنا نقطف ونأكل ونسمع الأغاني المحلية فنتحمس للاستمرار بالعمل. أما أصحاب البستان فكانوا يدورون حولنا كيلا يتقاعس أحد منا عن واجبه. ببهجة وشوق يحدثني وحيد (13 عاماً) عن تواجده ومواصلة العمل: "موسم الفستق بالنسبة لي ليس رحلة عمل، بل رحلة نزهة؛ فهنا أقضي إجازتي الصيفية". يستلم وحيد نصف الأجرة التي تستلمها أخته أو أمه أو يحصل عليها والده، حيث 100 ألف تومان يومياً ما يعادل نحو 3 دولارات.
حصاد 115 ألف طن
ومما يميز هذه الحديقة في المنطقة، أن محصولها عضوي تماماً، ولم يُستخدم السماد فيها منذ 8 سنوات. ولا يمكن أن تكون شجرة الفستق جاهزة لحمل الثمار قبل مرور اثني عشر عاماً من الرعاية المتواصلة؛ عامان تبقى نبتةً صغيرة، وعشرة أعوام أخرى كي تكبر وتثمر أغصانها، لتحمل عناقيد حبات الفستق المكسوة بقشرة حمراء زاهية وناعمة.
مما يميز هذه الحديقة في المنطقة، أن محصولها عضوي تماماً، ولم يُستخدم السماد فيها منذ 8 سنوات. ولا يمكن أن تكون شجرة الفستق جاهزة لحمل الثمار قبل مرور اثني عشر عاماً من الرعاية المتواصلة
تحصد إيران من إجمالي 336 ألف هكتار في موسم جني المحصول أي خلال أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر، نحو 115 ألف طن من الفستق، ورغم أن أصناف هذه الفاكهة الجافة تتخطى الـ30 صنفاً، إلا أن أشهرها هي: فستق "أكبري"، وفستق "أحمد آقائي"، وفستق "فَندُقي" (البندقي)، و فستق "كلِّه قُوچِي" (رأس الكِبش).
يحدثنا صاحب المزرعة يحيى درويشیان، أن "ثمار الأشجار تأتي مرة واحدة في كل عام، والشجرة التي تنتج كثيراً هذا العام ستأخذ قسطاً من الراحة في العام التالي"، بمعنى آخر، لشجرة الفستق قابلية الإثمار بالتناوب، ما يعني إنتاجَ قدر وفير من الفواكه في سنة واحدة، وليس الكثير منها في العام التالي.
ثورة الفستق والأوروبيون
لا تحتاج شجرة الفستق إلى الكثير من الماء، ويمكن أن تصل حياتها الإنتاجية إلى 100 سنة، وهذا هو سرّ اهتمام الإيرانيين بها منذ 3 الآف سنة. وفي منتصف عشرينيات القرن الماضي دعمت الدولة زيادةَ الإنتاج لتبدأ ثورة إنتاجٍ للفستق ارتفع معدلها السنوي من 3 الآف طن في الستينيات إلى ما يقارب 200 ألف طن في عام 2020.
"موسم الفستق بالنسبة لي ليس رحلة عمل، بل رحلة نزهة؛ فهنا أقضي إجازتي الصيفية"
وبينما لم تكن تعرف شعوب القارة الخضراء من الفواكه الجافة سوى اللوز والجوز، كان رجال الأعمال الإيرانيين يعملون بكثافة على دخول الفستق إلى أسواق الأوروبيين؛ فهكذا يشرح مهدي آگاه، من أبرز التجار والمصدرين نحو أوروبا خلال العقود الماضية لرصيف22: "فتح شقيقي إيرَج مكتباً في هامبورغ خلال الستينيات، وعمل على تسويق الفستق، لكنه لم يحظ بإقبال الألمان، فاستمرّ بالعمل حتى نجح بعد نحو عقد من الزمن، ليصبح اليوم الفستقُ العضو الرئيسي في سلة المكسرات في ألمانيا".
شيّد يحيى في وسط بستانه، معمله الجديد بمعدات حديثة، فتدخل عناقيد الفستق في هذه الورشة بعشر مراحل متتالية، ثلاث منها أساسية، هي: مرحلة الغسل والتعقيم بمحلول الكلور، ثم مرحلة نزع القشرة الخارجية للحبة عن قشرتها الداخلية الصلبة، وأخيراً تأتي مرحلة فصل حبات الفستق التالفة، أو غير المرغوب بها عن السليمة، لتأخذ الفاكهة الجافة طريقها نحو التغليف والتسويق.
أمريكا تتفوق في إنتاج الفستق
سلمت إيران المرتبة الأولى عالمياً في إنتاج وتجارة الفستق إلى الولايات المتحدة عبر السنوات الأخيرة، حيث تنتج الأخيرة اليوم نحو 70% من الفستق العالمي، بينما تنتج بلاد فارس 18% فحسب، وتأتي بعدها تركيا وسوريا واليونان.
يقول يحيى: "الفستق هو صناعة وتجارة واسعتان، فكان يجب أن نبرع فيهما نحن الإيرانيين، ونطور من زراعتنا ومنتوجاتنا الجانبية عبر العلوم الزراعية الحديثة والمصانع والذكاء الاصطناعي".
ويكمل بأسف وحسرة أن: "أمريكا اليوم هي التي تتحكم في تسعير سوق الفستق الدولي، بعد ما كان ذلك حكراً بيد الإيرانيين لسنوات". ولكن يحيى ما زال يؤمن بل يؤكد أن الفستق هنا يتمتع بمذاق وطعم مميزين، بسبب خصوبة التربة والمياه العذبة، وهذا ما يجعله الأول عالمياً من حيث الجودة، حسب قوله.
الفاكهة الفخمة، ماضيها ومستقبلها
ويندر أن يزور المرء سوقاً أو متجراً إيرانياً ولا يجد فيه للفستق موقعاً مميزاً يليق بسمعته وطعمه، ليعرض بأشكال منوعة وجذابة، وبأنواعه التي ذكرت وغيها، مملحاً أو منكهاً بالزعفران، وكل ذلك بغية فتح شهية الزبائن على تذوقه واقتنائه، كما أنه من أفضل الهدايا التي يقتنيها السياح من إيران.
"ثمار الأشجار تأتي مرة واحدة في كل عام، والشجرة التي تنتج كثيراً هذا العام ستأخذ قسطاً من الراحة في العام التالي"
وليس غريباً أن يدخل الفستق حياة الإيرانيين ليرافقهم في الحلّ والترحال، فهو الفاكهة الجافة المفضلة لدى معظم الشعب بكل أطيافه وأعراقه، لكن مع ارتفاع أسعارها تحولت إلى فاكهة فخمة تقتصر على تزئين موائد الأعياد الدينية والوطنية بالنسبة لشريحة واسعة من المجتمع، هو الذي دخل حياة الإيرانيين وثقافتهم بشكل واسع، ليصبح أحد أركان هويتهم الغذائية إلى جانب الزعفران وماء الورد وغيرهما. كما قد استخدم الفستق في الأدب والأمثال الشعبية في إيران، فيشبهون الشفاه الضاحكة بطريقة محببة بالفستق الضاحك أو المفتوح.
بالنسبة للتغييرات المناخية وحرارة الجو والجفاف القادم، فلا مفرّ منها وفق تحذيرات الجمعية الوطنية للفستق الإيراني التي أعلنت عن التأثير السلبي المؤكد على مزارع الفستق والتي مازالت تقليدية، وطالبت بدخول نظام ريّ جديد ونشر الوعي والتعرف على التكنولوجيا بالنسبة للمزارعين.
وتعتبر جمعية الفستق الوطنية من أهم الجمعيات الزراعية النشطة في البلاد، والتي تأسست خلال العقد الأخير برعاية غرفة التجارة الإيرانية، وتدار من قبل الفلاحين والتجار والمصدرين، من يحرصون على تواصل دولي جيد، وتثقيف المزارعين، والاستفادة من الخبرات العالمية، لا سيما خبرات المنافسة الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...